-1- أعترف بأن القصيدة ضاقت عليّ، فبعد ان كتبت القصائد الطويلة التي يصل عدد أبياتها الى اكثر من ألفي بيت، وجدت ان تجربتي تقودني نحو المسرح الشعري، وهذا شيء مألوف في تجارب الشعراء، إذ تجد درامية القصيدة مداها في النص المسرحي أخيراً، ولكنني لم أكن يوماً معجباً بالمسرح الشعري العربي باستثناءات قليلة جداً، كما لم أكن معجباً بظروف إنتاج عمل هاجسه الحرية فوق خشبة الإعدام التي تنصبها الرقابة في المسارح. ولذا، كانت الرواية النوع الاكثر اتساعاً وجدوى بالنسبة إلي. وربما يعود ذلك الى انني في بداياتي الكتابية الأولى كانت لدي تجربتان روائيتان بسيطتان، لكن الشعر تقدم في ما بعد مخلّفاً هذا الاهتمام وراءه الى حين. ان اندفاعنا في البدايات لكتابة الشعر يلبّي كثيراً من نداءات الروح الحميمة فينا، وهواجس الذات الخاصة، ولا اقول اسئلتها هنا، لأن الأسئلة مرحلة متقدمة في التجربة الشعرية، وأعني بذلك، ان الانتقال للرواية يلزمه إلمام ونضج لقبول الذات الأخرى خارج الذات الكاتبة وتفهّم شروطها الخاصة. من هنا يمكن القول ان الرواية هي مساحة الآخرين في داخلك، بعيداً من مشاعرك الخاصة نحوهم. في الرواية تكون أشبه بطبيب، أما في الشعر فأنت موسيقي دائماً، فالشاعر معني بتقاطع العالم فيه، لكن الروائي معني بمساحة أوسع وأكثر مغايرة. بالطبع لا يجلس الشاعر الروائي آخر الليل ليصنف الأحداث والمشاعر التي مرّت به خلال النهار، فهذه للشعر وتلك للرواية، لكنه يدرك بحاسته الأمر الى حد انه ليس مضطراً ان يفكر فيه. انه يكتبه. وأعترف هنا بأن مساحة الرواية الواسعة تجعلها قادرة على احتضان اي فكرة وأي مشاعر ما دام لديك أنماط لا نهائية من الشخوص والأشكال. طبعاً هذا لا يضع القصيدة في مرتبة ثانية، إذ انها في حالاتها الدرامية والملحمية قادرة على استيعاب بعض ما تستوعبه الرواية، وأعترف هنا بأنني احاول ان اختطف اختطافاً حصة الطائر، وأعني القصيدة، من فم هذا الوحش الجميل، لأنه كائن نهم الى أبعد الحدود، قادر على التهام أي شيء، وهضم أي شيء. -2- بالنسبة الى تعدد أشكال الكتابة، ففي جزء منه راجع الى تعدد الاهتمامات، ولعله ايضاً تعدد إمكانات التعبير بأكثر من شكل، والتعدد في النهاية مرتبط بجوهر الكتابة لدي، فالشعر والرواية والكتابة في/ عن السينما تتبادل التأثيرات في ما بينها، بحيث يمكنني القول: كان لا بد من ابراهيم الشاعر حتى تُكتب رواية "طيور الحذر"، وبالدرجة نفسها يمكن القول: كان لا بد من ابراهيم الروائي حتى تُكتب دواوين مثل "بسم الأم والابن" و"مرايا الملائكة" وسواهما. اعتقد انه كان من الصعب للغاية ان اكتب سيرة الطفلة الشهيدة إيمان حجو في عمل شعري لو لم أكن روائياً، لأن الروائي عَمِلَ كثيراً في هذه المساحة حين بنى مجموعة من الشخصيات والأحداث التي شكّلت الديوان الى جانب شخصية إيمان، وحتى إيمان، لم أكن أملك اي معلومات عنها سوى صورتها وبعض السطور والمدى الذي تشكله في الروح من معانٍ. -3- .. ولكنني أريد أن أقول: ليس ثمة اكثر من كائن في داخلي، هناك كائن واحد، يشبه بحيرة صغيرة تصب فيها انهار عدة، أو جداول. كأي انسان آخر، وليس ثمة جدران بين ماء جدول جاء من الشرق وآخر من الجنوب. لكن حالات التعبير المختلفة تتقاطع، بل وتتحد احياناً. فحين تكتب الرواية لا تستطيع ان تُقصي حساسية لغة الشعر عن لغتها، أو سعي الشعر للتكثيف وجوهرة احداثها، وكذلك الأمر في الشعر الذي يفيد كثيراً من طبيعة السرد والطريقة التي تبنى فيها وبها ملامح الشخوص وتصاعد الأحداث، ومنذ نعمان يسترد لونه، مروراً بالحوار الأخير..، حتى الديوان الأخير هناك محاولة للإفادة من السرد وتوظيفه بما يخدم الشعر، وإن كان يحل هنا سرداً مختلفاً، فأنت لا تستطيع ان تقصي وعيك الجمالي والمعرفي وخبرتك الإنسانية سواء أكنت ترسم لوحة او تصور او تكتب قصيدة او رواية او حتى تتأمل مشهداً، اي مشهد في هذا الكون. فأنت كلك في آن دائماً، وغير ذلك فأنت دكتور جايكل ومستر هايد!! لكن وعلى رغم حضورك كلك في لحظة ما، لا يمكن أن تقوم بإقصاء وعيك العميق بالنوع الذي تكتبه، لأن وعيك هنا يحرص على هذا النوع ويحاول ان يقدم اقتراحات فيه ايضاً، مستحضراً معارفك كلها. والقاعدة لدي، إذا كان ثمة قواعد في هذا المجال، فهي ان يستفيد النوع الإبداعي من الأنواع كلها ويبقى محافظاً على نوعه. لأنني لم أزل واحداً من التقليديين الذين يفضلون ان يبقى النمر نمراً، من دون ان تتدخل فيه هندسة الجينات لتقدم لي كائناً يشبه النمر، فيه بعض حصان، وبعض نمر، على رغم احترامي الشديد للخيول وللنسور.