عام 1919 أجبر شعب ثائر هو الشعب المصري امبراطورية عاتية على اعادة سعد زغلول وصحبه من المنفى، صعد سعد على غضب الشعب وبإرادته. بعد ذلك التاريخ بثلاثة وثلاثين عاماً انقضّت جماعة من العسكريين على رأس السلطة، وطنية هؤلاء العسكريين التي ترقى فوق كل شك لا تلغي الفرق الشاسع بين الانقضاض والصعود، الانقلاب والثورة. ما حدث يوم الثالث والعشرين من تموز يوليو عام ألف وتسعمائة واثنين وخمسين كان انقلاباً ولم يكن ثورة. انقلابية تموز 52 هي ما يفسر تطوره الذي غير بدوره شكل مصر والعالم العربي. جاء الانقلاب تمرداً على نظام فشل في التعامل مع مشاكل كثيرة وبدا عاجزاً عن تجديد نفسه، بدأ كحركة تصحيحية لا كطرح لبديل كامل متفق عليه سلفاً، تشهد على ذلك الخلافات المعروفة بين الضباط الأحرار، لكن انقلابية الحدث ان جاز التعبير سرعان ما فرضت نفسها. الانقلاب حدثٌ فوقي، قفزة الى أعلى هرم السلطة من دون المرور بتدرجه. بالنسبة لمنفذي أي انقلاب ناجع، جعلوا من سلطتهم أمراً واقعاً، يفرض ذلك خياراً بين أمرّين بتشديد الراء: التحرك نحو بناء الحكم أو اعادة بنائه ان سبقت التجربة على أسس ديموقراطية، ما يعني احتمال خسارة السلطة بالنسبة لمنفذي الانقلاب، خيار مرّ لكل من ذاق حلاوة الحكم، أو البقاء على رأس السلطة وقمع الديموقراطية، خيار لا بد ان ينتهي مريراً لكل من لا يملك السلطة: الشعب بأسره، ازاحة اللواء محمد نجيب ومناصريه الذين مالوا الى العودة الى الديموقراطية ووصول عبدالناصر الى قمة السلطة كان تكريساً للخيار الأخير، تأكيداً على انقلابية النظام الجديد، على فوقيته وسلطويته. على أن أي نظام سياسي، سواءً وصل الى الحكم على أسنة الرماح أو من طريق الانتخابات أو حتى من خلال ثورة شعبية عارمة، يبقى في حاجة الى عملية بناء متواصل لشرعية متجددة تضمن استمراريته. الفارق بين نظام أوصل انقلاب الى سدة السلطة ونظام جاء من خلال التصويت، أو ارتضاه كوسيلة أساسية لضمان وجوده، ان الأول يبني شرعيته مستغلاً الأمر الواقع الذي فرضه وصوله الى السلطة ومكرساً له في آن معاً، من القمة لا من الجذور حسبما تقتضي الممارسات الديموقراطية. قبل مرور عام على الانقلاب تحرك النظام في اتجاهين تلاقيا أحياناً: سلباً، صدر قرار بحظر الأحزاب، ألغيت الألقاب وصدرت أولى قوانين الاصلاح الزراعي، كل ذلك أضعف النخبة السياسية للنظام القديم. ايجاباً، استغل النظام سلطته لبناء تحالفات واسعة مع قطاعات عريضة من الشعب من خلال قرارات اقتصادية، وهو ما بدأ قبل وصول عبدالناصر الى السلطة وتسارع في ظل سلطته، فتوالت قرارات الاصلاح الزراعي، مجانية التعليم، توسيع القطاع العام تأميماً واستثماراً وانتهاج سياسة توظيف حكومية طموحة. تبين لاحقاً ان هذه القرارات لم تتحر الكفاءة الاقتصادية لكنها ضمنت وقت صدورها قاعدة عريضة من التأييد للنظام الجديد. كانت هذه "الانجازات الاشتراكية"، كما سميت دعائياً، رغبة الكثيرين التي بدا ان النظام القديم فشل في تحقيقها، أو على الأقل وقف في طريق الوصول اليها. أضف الى ذلك طبيعة الحقبة، كان ذلك زمناً بدا فيه الخيار الاشتراكي الذي قدمه النموذج السوفياتي وحلفاؤه نموذجاً ناجحاً يحتذى، وان كان بعيداً كل البعد عن الديموقراطية. الديموقراطية كانت ثمن ما قدم النظام الجديد. تحقيق مطالب شعبية، أياً كانت درجة شرعيتها وعدالتها، خارج أطر الممارسة الديموقراطية يجعلها أي الديموقراطية شأناً هامشياً، أمراً ثانوياً يمكن التغاضي عنه، ما يعني حتماً تكريس سلطوية النظام. جعل الوضع الجديد المواطنين منتفعين من العملية السياسية من دون مشاركة فيها، متلقين للقرارات ومنفذين لها من دون دور في صوغها. اختلفت الأمور عما كانت عليه قبل تموز 52، صحيح، قلما تمتعت البلاد بديموقراطية كاملة غير منقوصة ما بين 1923 و1952 ولكن، وجد دوماً هامش عريض من حرية التعبير كان الأصل لا الاستثناء. كان ابداء الموقف السياسي والعمل على تفعيله مشاركة وتصويتاً وكتابةً وتظاهراً أمراً معتاداً غير مستغرب في ظل تعددية سياسية نشطة، كل ذلك تعرض للتقييد بعد انقلاب 52 وانتهى بوصول عبدالناصر الى السلطة. ربما استهدفت هذه السياسات فعلاً تحقيق أهداف ثورية كان المجتمع في نظر الانقلابيين في حاجة اليها، ولم تطبق لمجرد الرغبة في الاستئثار بالسلطة، ذلك وارد ومقبول منطقاً وتحليلاً لكنه لا يغير المحصلة: كرست هذه السياسات الوضع السلطوي القائم الذي خلقه أصل النظام الانقلابي. التهميش من خلال سياسات قمعية - سلطوية لا من خلال صناديق الاقتراع حيث قد تكمن الخسارة كان وسيلة النظام الآمنة الأولى فجاء قرار حل الأحزاب، بما في ذلك الوفد الذي يتمتع بقاعدة شعبية عريضة، ثم أعقب ذلك القمع العنيف الذي تعرض له الاخوان المسلمون، وحتى الاشتراكيون بمختلف تياراتهم، أولئك الذين استلهم النظام فكرهم، لم ينجوا من قمع ساوى في بشاعته وان كان أقصر عهداً ما تعرض له الاخوان المسلمون. لم تكن القاعدة الحاكمة لنهج النظام، يمكننا ان نستنتج، هي تطبيق فلسفة سياسية معينة بقدر ما كانت الرغبة في تكريس سلطة فرد أو عدد محدود من الأفراد على الأكثر. اشراك ناشطين ماركسيين في الحكم ربما أدى الى توسيع قاعدة صناعة القرار القاعدة الحقيقية لا المُدعاة وربما حد بالتالي من سلطة من حملهم انقلاب تموز 52 الى قمة الحكم. كذلك لم يكن المشروع الايديولوجي الذي خرج به النظام إلا تكريساً لوضع قائم. على الأقل من حيث المنشأ. لا يمكن تفسير ظهور ما سمي اصطلاحاً بالناصرية إلا كمحاولة لاضفاء شرعية على سلطوية النظام التي كانت قائمة فعلاً. لم يكن لعبدالناصر فلسفة واضحة أو قناعات معروفة قبل وصوله الى الحكم. كان الرجل متمرداً وطنياً لكنه لم يكن مفكراً أو منظراً سياسياً. ما سمي دعائياً "فلسفة الثورة" كان فكراً تشكل خلال الممارسة من على رأس السلطة، لا نسقاً فكرياً بني سلفاً. الناصرية، كما ينم الاسم، محصلة ممارسات فرد تتطلب من الجماهير طاعته حياً واتباع نهجه ميتاً، فرد ساوت دعاية نظامه بين شخصه وأحلام أمة وتطلعاتها، جاعلة بالتالي من كل من يعاديه أو حتى يخالفه عدواً للشعب بأسره الذي تم افتراض انه كل متجانس لا يعرف الخلاف لا للزعيم الأوحد فحسب. إذا كانت الناصرية سلطوية الأصل فهي أيضاً شعبوية الطابع، على الأقل دعائياً، وغوغائية الأثر. على أن الأثر هنا امتد الى طول العالم العربي وعرضه، زعامة عبدالناصر نقلت جرثومة سلطويته، نتاج أصل حكمه الانقلابي، الى فكر القومية العربية نفسه. سيطرة الناصرية، كمرادف للقومية العربية، على فكر الكثيرين جعل من هذه الأخيرة نقيضاً للديموقراطية، مرض عضال تعاني منه قوميتنا العربية الى اليوم. في ظل تحالفات سياسية خارج أطر العمل الديموقراطي وزعامة طاغية لفرد واحد ضخمها جهاز دعائي خاضع تماماً لسيطرة النظام، اضافة للقمع السياسي مختلف أشكاله، توارت الانتخابات ممارسة ومضموناً وغاب مفهوم تداول السلطة. كان ذلك هو العهد الذي عرفنا فيها "الاستفتاء" بديلاً من الانتخاب الذي يعني احتمال تداول السلطة الذي انتهى دوماً بنسبة 99.99 في المئة الشهيرة المشينة، أما الهيئات المنتخبة، بما في ذلك البرلمان، عصب مساءلة الحكم ومسؤوليته أمام الشعب، فقد همشت بشكل لا لبس فيه. كل ذلك خلق نظاماً فوق المساءلة. نذر كثيرة سبقت كارثة حزيران يونيو 1967، لكن ربما كاريزما عبدالناصر الطاغية، ربما جهاز قمعه العنيف، ربما دعايته التي خلقت عقلية جماعية أدمنت الشعارات والأناشيد والأوهام، ربما قدرته على ازاحة كل البدائل الأخرى، أو ربما كل ذلك مجتمعاً أعمى الجميع، أو دفعهم الى التعامي عن بلايا أقل حجماً، وان لم تكن أقل دلالةً، سبقت الكارثة: فشل الوحدة مع سورية عام 1961، كارثة حرب اليمن التي قلما تذكر والتي بدأت عام 1962، نذر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة التي لاحت عام 1965، كل هذه الأزمات أشارت الى سياسات هوجاء غير محسوبة، الى انفراد بالسلطة ينبئ بالضرورة بأخطار لا بد آتية. مثلما كان ما حدث يوم 23 تموز 52 انقلاباً لا ثورة، كان ما حدث يوم 5 حزيران 1967 فشل نظام كامل لا فرد بعينه، أما بقاء النظام بعد ذلك التاريخ الأسود في مكانه، بل ترسيخ سلطويته، فنجاح نظام في تغييب عقل أمة. قبيل الكارثة أعلن الزعيم انه مستعد للحرب، بل قال لها بالحرف "أهلاً وسهلاً"، ثم تحدثت دعايته عن مدن عربية تتحرر وطائرة معادية تسقط بينما جنود العدو يغسلون أياديهم في نهر الأردن وفي قناة السويس. علقم الهزيمة كان الواقع، أما كلمات الزعيم ودعاية نظامه فتراوحت بين العنتريات والأوهام والأكاذيب، هذا ما قدمه جمال عبدالناصر ونظامه للعرب والعروبة في حزيران 1967، تلك كانت "جردة الحساب"، المحصلة النهائية الحقيقية لا الموهومة أو المدعاة. الجماهير التي خرجت تطوعاً حسبما رددت دعاية النظام التي ادعت النصر في عزّ الهزيمة مطالبة ببقاء الزعيم في الحكم بعد خطاب التنحي الشهير الذي أعلن فيه، بشجاعة تفرض الاحترام، تحمله "المسؤولية كاملة"، خرجت جهلاً قبل ان تخرج حباً، حاجةً لا رغبة، خرجت لأنها لم تر بديلاً آخر للرجل في وقت كانت أحوج ما تكون فيه لقائد، أي قائد، بعد سنوات من القمع والسلطوية والدعاية الكثيفة التي أدت، فكراً وفعلاً، الى تهميش كل قيادة أخرى محتملة. غريب ان هناك من يصر الى اليوم على تبرئة الرجل، ولو جزئياً، من اثم الهزيمة الشنيعة بعد ان أعلن بنفسه مسؤوليته عنها، أو أنه كان ضحية مؤامرة. كأن ذلك يعفيه ونظامه من المسؤولية، وكأنما النصر الحقيقي يكمن في تقديس من حمل نفسه علناً مسؤولية الهزيمة. أي ادمان للوهم؟ اضافة الى عبء الهزيمة الثقيل، خلف رحيل عبدالناصر ارثه السلطوي، ومن خلف كان شريك من سلف. السادات كان أحد منفذي انقلاب تموز 52، وهو كان دوماً، على الأقل في ما يبدو، في صف عبدالناصر وفريقه، وكان نائبه ساعة وفاته. مثل سلفه، واصل السادات تأسيس شرعيته على أساس تموز 52 وثوريته المزعومة، وان حاول خلق طبيعة مختلفة لحكمه، وبالتالي تغيير طبيعة شرعيته، ولو جزئياً، مقارنة بسلفه. بدأ السادات حكمه بمحاولة تفكيك الأرث القمعي لانقلاب 52 فقام "بثورة التصحيح" لتصحيح نهج الثورة التي لم تحدث أصلاً وظهر على صفحات الجرائد وهو يدك بمعول معتقلات سلفه، لكن قبل ان تمر ست سنوات بدا فيها ان تحركاً نحو الديموقراطية في تقدم وإن تعثر أحياناً، ظهر ان الإرث السلطوي - القمعي للنظام ما زال حياً، بل قوياً. القمع كان وسيلة النظام الأولى لمواجهة تظاهرات الجياع التي عمت البلاد في مطالع 1977، جهاز القمع وفكره كان أيضاً أداة طيعة في أيلول سبتمبر 1981 عندما ألقى الرئيس الراحل بمن رغب في السجون أو أزاحهم من مناصبهم. بعد سنوات ادعى فيها النظام انه يتحرك بخطى راسخة نحو الديموقراطية والتعددية تبين ان الجهة التي تعنى بها كانت بعيدةً عن الرسوخ، بل انها قابلة للخنق إذا أزعجت النظام. جوهر السلطوية الموروثة بقي حياً لم يمت، بل انه بقي قلب النظام النابض. انقلابية تموز 52 عنت فوقيته التي أدت الى السلطوية، التي أدت بدورها الى القمع السياسي في مختلف أشكاله ودرجاته. كان القمع أول ما لجأ اليه النظام الجديد عقب وصوله الى السلطة حين حظر الأحزاب القديمة خلال أول عام من حكمه. بعد ان رسخ عبدالناصر حكمه، سمحت شعبيته والنجاح الذي بدا ان سياساته الاشتراكية تحققه، بأن يستخدم القمع كمساند لحكمه ومؤمّن لشرعيته، أما السادات فقد لاذ بالقمع لأنه بدأ يفقد الشرعية التي ورثها من سلفه. موقف من تدين له مصر بالنصر الوحيد على اسرائيل كان أكثر حرجاً إذ لجأ الى أرث سلفه السلطوي ليواجه ارث مشاكله الاقتصادية، الأرث نفسه الذي أضفى شرعية على السلطوية الموروثة. سياسات الستينات الاقتصادية كانت أبعد ما تكون عن الاستدامة أو الكفاءة الاقتصادية. الانفتاح الاقتصادي الذي انتهجه السادات، الذي لعنه الكثيرون، كان أمراً فرضه الواقع، الواقع نفسه الذي سرعان ما فرض نفسه على كل الدول التي انتهجت الاشتراكية السوفياتية، جزئياً أو كلياً، كاملة أو منقوصة. عيوب تطبيق التحرير الاقتصادي وآلامه لا تنفي ضرورة الخيار مثلما لا تبرر قمع المعارضين لها أو سحق المتضررين منها. حدوث تظاهرات بحجم تلك التي عرفتها مصر عام 1977 ولجوء النظام الى القمع لمواجهتها تعبير عن أزمة شرعية عانى منها النظام، لا مجرد أزمة اقتصادية عابرة، إذ تم استخدام تراث الناصرية السلطوي لضرب من احتجوا على سحب ما قدمته الناصرية تكريساً للسلطوية نفسها، وأزمة الشرعية هذه لا يمكن ان تزداد إلا تفاقماً طالما بقيت الديموقواطية غائبةً أو منقوصة. * باحث مصري في جامعة أكسفورد.