ثلاثة هو وهي وأختها من الأب. اختاروا مكاناً لائذاً تحت جدار، حذراً من أن تتلصص عليهم عين تائهة، استعرضوا قائمة مشروبات مقهى ستار بكس. قال هو للنادل: قهوة تركية، سكر زيادة! قالت أختها: قهوة تركية، سكر زيادة! أما هي فقالت بعينين ساهيتين وفي ما يشبه الهمس: سندريلا!! كان عصير سندريلا الأخضر في يدها، وقدمها أسفل الطاولة تتحرّر من الحذاء وتلامس ساقه!! فكر أنهما قد تغيبان على عجل، وقد ضبطتهما عين قريب أو صديق، عندئذ سيلتقط فردة الحذاء، ويبحث في المدينة البحرية عن أميرته، صاحبة الحذاء المفقود!! سندريلا كلما سقط قرص الشمس في أفق البحر، تذهب الى الساحل الرملي تعرج بقدم عارية، تنظر نحو فردة الحذاء الوحيدة في قدمها، ثم تطلع في الأفق وتهمس برفق: رميت بالأمس فردة حذائي في جوفك أيها البحر، ألم يلتقطها أميري في الجهة الأخرى؟ ألم يبحث عن أميرته بعد؟ تخفق فوق رأسها النوارس ذاهبة مثل نقاط حبر منزلقة في الأفق، الأفق الذي يحمل مركب صيادين ذاهبين في البعيد، تاركين وراءهم صدى أغنية بحّارة، وأميرة تطحن الوقت بالانتظار والصبر!! نورسان قال لها: انهما نورساي، سأطعمهما سمك أصابعي!! في غيابه ينامان على صدرها بسكون وكسل، وتنسى كثيراً ان تطعمهما، وترتب ريشهما الأبيض المبلول. في حضوره المباغت، يفزّ النورسان بشغب، ويحاولان ان يخفقا، ويتحرران من قفصها الصدري، وهما يفتحان منقاريهما الجائعين. عقاب كلما نكث موعداً ضربه لها، وطال غيابه، مضت الى البحر والشمس تصب سياطها الحارقة على الرمل الأبيض البحري، ومشت عارية القدمين على لهب الرمل قرب البحر، وكلما زادت حرقة قدميها، قالت لهما بصوت يشبه البكاء: ذوقا حرقة غيابه يا قدميَّ الخائنتين!! كأنما تلومهما إذ لا يقدران على السير نحوه في بلاده البعيدة!! الساكن معي كنت أتردد كثيراً أنصاف الليالي قبل أن أدلف الى المطبخ، تبقى يدي واجمة قليلاً فوق زر الضوء قبل أن أهمزه، أشعر ان شيئاً ينقبض داخل صدري حالما أرى الضوء يكنس عتمة المطبخ، فأراه هناك، في مكانه المعتاد، قابعاً في الزاوية، منطوياً على بعضه إذ يغرس رأسه في صدره في وضع أمومي!! على رغم انني أمشي على أطراف أصابعي كي لا تستيقظ فيراني، على رغم انني أفتح الخزانة ببطء لأخرج ابريقاً، وأترك بابها موارباً حتى الصباح لئلا ينتبه، على رغم انني لا أعيد أغطية حاويات السكر والشاي كي لا تحدث صوتاً فينهض، على رغم انني أوقد عين الفرن بحذر شديد، على رغم كل الاحتياطات الدقيقة، إلا أنني مجرد أن أضع ابريق الشاي على عين الفرن المشتعلة حتى يباغتني بزقزقته طير الكناري في القفص الموضوع في زاوية المطبخ!! المكتنزة كلما دخلتُ المنزل، وبسبب مدخله الضيق، ترتطم يدي سهواً بها وهي تفاجئني دائماً في الممرات، حالما أتجاوزها أشعر ان نظرة ما تخز ظهري، فلا التفت خلفاً، لذلك لا أعرف لحظتها ان كانت نظراتها تلك نظرات غبطة أم استياء!! ما ان أختفي داخل المطبخ حتى أفتح الثلاجة، أخرج منها كأساً باردة ومضبّبة، أسكب فيها ماءً، وقبل أن أخرج اليها، أطلُّ بحذر من شباك المناولة الذي يفيض على الصالة، لأرصد انفعالاتها، فأراها ساهية تحدّق في البلاط!! لحظتذاك، أتشجع وأرتب ياقة ثوبي، أخرج اليها حاملاً كأس الماء الباردة، حتى إذا وازيتها انحيت على حوضها العريض، واحتضنته بذراعي، ثم سكبت فيه الماء، فتضطرب أوراقها شجرة الفوكُس المكتنزة!! العاشقة عند باب المنزل تقترب مني، تصافحني، وتعبث بثوبي. لحظة أفتح الباب تدلف قبلي، وتغلق الباب بعنف نيابة عني، أقول لها: كفي عن مراهقاتك، ودعينا نتفاهم!! لكنها تدور حولي غاضبة، وقد شدّت غترتي وألقتها أرضاً. التقطها، وأدلف من الباب الداخلي، ثم أغلقه سريعاً خلفي، ومن نافذة الصالة أراها في الحوش تدور مزمجرة مثل ذئب، وهي تهزّ النافذة بشراسة!! كانت ليلة في آذار مارس، كانت - أي الريح - عاشقة لا تهدأ ولا تنام!!