على رغم اعتقادي الثابت أن الجوائز المالية - أو الأدبية، الرسمية او الخصوصية - لا تصنع ادباء أو فنانين او شعراء، فإن فرحتي بفوز قاسم حداد بجائزة العويس، اخيراً، كانت فرحة طاغية. ولعلني رأيتُ فيها تحية لجيلي كله المعروف باسم جيل السبعينات في الشعر العربي. ولعلني رأيت فيها تعويضاً للشاعر عن سنوات طويلة من الكدح الشعري وتتويجاً لمشوار صامد مثابر جاد. ولعلني رأيتُ فيها دليلاً على ان الشعر الجميل يفرض نفسه، في التوّ أو بعد حين، على الأنف والأذن والحنجرة. ولعلني رأيتُ فيها علامة على ان نزاهة الاختيار والتحكيم لم تشبع موتاً بعد في بلادنا العربية. لقاسم حداد دواوين عدة، منها: البشارة، خروج رأس الحسين من المدن الخائنة، الدم الثاني، قلب الحب، شظايا، النهروان، يمشي مخفوراً بالوعول، عزلةُ الملكات، نقد الأمل، ليس بهذا الشكل، له حصة في الولع، المستحيل الأزرق. أما ديوانه الجديد الذي بين ايدينا الآن "علاج المسافة" فقد صدرت منه طبعة اولى في تونس منذ عامين، ثم صدرت اخيراً طبعة ثانية منه عن وزارة الإعلام والثقافة في البحرين والمؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. يمكن قارئ "علاج المسافة" ان يتوقف عند الكثير من الملامح الفنية والفكرية التي يحفل بها، لكننا سنكتفي منها بثلاثة ملامح اساسية نوجزها كما يأتي: 1- الموسيقى: إن معظم شعر قاسم حداد في السنوات الأخيرة هو "قصيدة نثر"، وذلك ينطبق على "علاج المسافة". وسوف أبادر بالإجابة عن سؤال دائم الانطراح كلما جرى حديث عن قصيدة النثر، وهو: ان الوزن الخليلي ليس هو الموسيقى، هو جزء منها وهي اوسع منه وأشمل، إذ ان الوزن الخليلي هو إحدى صيغ الموسيقى. وعليه فإن قصيدة النثر ليس فيها "وزن" خليلي بل فيها "علاج المسافة"؟ تتجلى الموسيقى في "علاج المسافة" في صورٍ عدة: منها التوتر المضمر بين الكلمات وبعضها بعضاً، وبين الفقرات وبعضها بعضاً. ومنها اللعب على كلمة بعينها والتركيز عليها وتدويرها وتدويمها لتغدو مركزاً تلفّ حوله الألفاظ والصور وتعود إليه، كأنها قوة جذبٍ أو قوة طرد مركزية، كما يقولون في الرياضيات. ومنها ما سماه الصديق الشاعر عبدالمنعم رمضان "القافية المقلوبة"، وهي ان تتماثل الكلمة في بداية السطور لا في نهايتها، حيث تتم عملية تحريك للقافية من موقعها "كخاتمة" للسطر الى موقعها الجديد "كبادئة" للسطر، كأن يقول: "فيهن حاملاتُ القرابين/ فيهن المعصوباتُ بالسّعف الطازج/ فيهن المندلعاتُ بأصداء النعمة". ويبدو لي ان احداً من النقاد المناوئين لقصيدة النثر، والناعين عليها خلوها من الوزن والقافية وما شابه لم يلتفت الى هذا الإجراء الموسيقيّ الجديد في القصيدة الجديدة، على رغم انه متواتر الحضور عند شعراء قصيدة النثر الراهنة. على انني اريد ان نخصص الإشارة هنا الى صورة بارزة من صور تجلي الموسيقى في ديوان "علاج المسافة"، وأعني بها "تكرار" بعض السطور أو الجمل في بداية بعض المقاطع أو نهايتها، بما يجعل هذه الجملة اشبه "باللاّزمة" الموسيقية في الألحان الغنائية او السمفونيات، على نحو تغدو معه هذه الجمل بمثابة "الوتد" الذي تتمحور حوله حركةُ البدء والختام وبينهما المتن في النص. رأينا هذه "الحيلة الموسيقية" حاضرة في معظم قصائد الديوان، لا سيما في القصائد الثلاث الجميلات: "حكمة النساء" و"كلما انتحرنا" و"شك الشمس". ففي الأولى ينتهي كل مقطع بجملة "وكان في ذلك حكمة". لينحرف عن نفسه انحرافاً بسيطاً في ختام المقطع الأخير، بزيادة همزة صغيرة تقلب المعنى كله وتحوّله الى سخرية مرة: "نساء مغدورات برجالهن/ يغدرن بهم/ ويكشفن لهم ذريعة الفتنة/ كأن لاحظ الهمزة في ذلك حكمة". وفي الثانية يبدأ كل مقطع بجملة "كلما انتحرنا" لتشكّل ما يشبه "المدخل" الذي ينبني عليه "التوقع" مخلوطاً بحال مركّبة من التماهي والتمويه: "كلما انتحرنا/ لكي ننسى نذكرُ ان ثمة تجربة جديرة بالاختبار هي النسيان والجلوس في الشرفة والنظر الى الحياة وهي تمر عابرة امامنا مثل شريط من الفيلم الخام لنرى ما يحدث للشخص حين ينتحر". وفي الثالثة يبدأ كل مقطع بجملة "عندما تكون في الخمسين" التي تشكّل "مفتتحاً" للحديث نلجُ منه الى معرفة ما يقع عندما تكون في الخمسين، في دورات متماثلة تنسج دوائر موسيقية مشابهة لما يصنعه الراوي الشعبي حين يسرد لنا احدى حكاياه الفولكلورية الحافلة بالحكمة والموعظة، إذ يتصاعد الإيقاع من دائرة الى أخرى لنجد انفسنا في الدائرة الأخيرة إزاء الألم الأليم: "عندما تكون على مشارف الخمسين/ وتصاب بالشك في شمس ايامك/ ترى هل سيُتاح لك من العمر ما يكفي/ لكي تعيد قراءة مسودة كتابك الأخير قبل القبر؟". ملاحظة ضرورية: ضم الديوان قصيدتين موزونتين، وهو ما يؤكد يقين الشاعر بأن الشعر الجميل يأتي من اي صوب: من صوب الوزن، ومن صوب انعدامه، طالما ان التجربة هي التي تفرض شكلها وأدواتها وآلياتها، وطالما ليست هناك شروط مقدسة مسبقة قبل النص. 2- السلطة والواقع: على عكس ما يظن الكثيرون من خصوم قصيدة النثر حين يرون ان هذه القصيدة غير مهتمة بشؤون الواقع الاجتماعي فإن قصائد "علاج المسافة" حافلة بالموقف الناصع من السلطة العربية ومن مجريات الواقع السياسي والاجتماعي والإنساني. فنحن: "رعايا نرفع اسمالنا راية في طليعة النص، نرفض الجبل الرازح فوق صدورنا، ذلك الجبل الذي ينهر أحلامنا ويشي بنا في محفل الصيارفة، ويقودنا بأدلائه المذعورين، نقول للجبل: الجبال ترحل ايضاً". ويصور شاعرنا المستبدين بعروشنا العربية على انهم مصابون باحتدام الجيوش تحت جلودهم، وهم صرعى صراعاتهم، وهم "انتهبوا خريطة الناس/ واقتتلوا عند اقتسام الأسلاب". ثم انهم يؤجّجون عرباتهم بالأكاذيب/ فيخرج الناس شاخصين/ مثل روم القياصرة/ يرون جيشاً صغيراً/ يرفع كفين مضمومتين بالمعدن". هؤلاء المستبدون نحن الذين صنعناهم ونحن الذين نصطلي بنار عنتهم الكاسح، حيث "ربّيناهم فهداً فهداً/ لكي يلتفت الضئيل منهم/ نحو اكثرنا اطمئناناً/ وينشب فيه المخالب والأنياب". أما قصيدة "اخبار الحجر" فإنك لن تستطيع قراءتها وأنت بعيدُ الذهن عن انتفاضة الصغار في فلسطين، حتى لو لم يكن ذلك هو التوجه المباشر للنص، حيث "هذه النخلةُ الشاهقةُ/ ثمة حجرٌ صغير يسندها في الخفاء/ ضع يدك عليه/ تسمع كلامه يؤانس النسغ/ منتقلاً بين الجذور والأجنحة/ تلك الأجنحة الخضراء في الأعالي/ ثمة حجر صغير يسندُ الهواء/ لئلا يخذل النخلة". 3- الشعر داخل الشعر: هذه "تيمةٌ" شبه ثابتة في شعر قاسم حداد بعامة، لكن حضورها هنا بلغ شأواً غير مسبوق. ونعني ان يتخذ الشاعر - في قلب النص الماثل - الحديث عن الشعر رمزاً من رموز مضمونه الفكري او الإنساني، على نحو يجعل الشعر موضوعة من موضوعات الشعر، أو يجعله معادلاً لمجريات الحياة وقناعاً لصراعاتها ولمعاناة المبدع فيها. ففي قصيدة "زعفرانة البحر" تشهق بنا الأفئدة "كمن يطلق الريح في جمرة النص" هل يصف الشاعر نفسه؟، وفي قصيدة "ما لا يسمّى" يناجي ذاته "تفقد حرية الهواء/ كأنك تفقد النص". وفي قصيدة "سلة الأسلحة" نجد ان امرأته ليست إلا مليكة الكتابة "تحرسين لنا السلالة من قراصنة النص". كأن "النص" هو الجوهر الأصيل أو العدل أو القمح أو التقدم. وفي قصيدة "كلام الشمس" نقرأ "هو الذي راقني أول النص/ وهو الذي ترجم الليل لي"، إذ النص هو العمر والليل هو المعرفة. وفي قصيدة "حصّتنا من النساء" نلتقي بهذا المقطع البديع "تلك هي نعمة العمل في خدمة السيدة/ تلك هي نعمة المخاض الأعظم/ عندما ترفل المرأة في فصاحتها/ تؤثث ايامنا بالقصيدة/ وتجعل التآويل في خدمة النص/ المكتظ بالرموز والأساطير"، حيث نتذكر المثلث الشهير: المرأة، النص، اللاهوت. وإذا كان "ثمة التائبون عن النص/ يسدون نصحاً لنا/ بالرؤى الغائبة" كأن النص، هنا، هو الانحراف عن الجادة، أو هو الاثم النبيل فلا بد من ان تنطوي مناجاة الشاعر لنفسه، عندما يكون على مشارف الخمسين، على "رثاء النص" أقصد النفس: "بعد خمسة عشر كتاباً وأسرتين وأحفاد وشيكين وجسد معطوب وزنازن كثيرة ونصوص ملطّخة بحبر القلب ومخطوطات خمس في خزانة الروح وأصدقاء يهددونك بالفقد وليال محتدمة بالكوابيس ومشاريع قيد الخرافة وأنت لا تكاد تطمئن لما بعد الغد/ كيف يتسنى لك ان تكون محسوباً على البشر دون ان تصاب باليأس". يمكن، بعد هذه الملامح الرئيسة الثلاثة ان اشير، سريعاً، الى اربع اشارات مقتضبات: أولاً: يلحظ قارئ علاج المسافة" سيادة حضور "الآخرين" لا "الذات"، وهو ما ينقض زعم خصوم قصيدة النثر الذي يدعمه بعض نتاج الشعراء المتوسطين بأن هذه القصيدة لا مكان فيها إلا "للذات" بشحمها ولحمها وهمومها الصغيرة. ذلك لا يعني خلو قصائد "علاج المسافة" من "الذات"، فهي حاضرة لا ريب، لكنها حاضرة حضورها الصحي والصحيح: في سياق حضور الموضوع وحضور الآخرين. وهاك نموذجاً: "عندما تكون على مشارف الخمسين/ وتدير رأسك في وطن يختلط عليك بملامح الثكنة لا يسمع قصيدتك ولا يصغي لنحيبك ولا تنتابه التفاتةُ الغريب للغريب وطن وضعتَه زينةً على جسدك المرضوض فوضع لك النصال تسند خاصرتك لتبدو مثل خيال المآتة في حقل خرّبته الرياح السود". ثانياً: ثمة ثلاث كلمات نراها "مفاتيح" جوهرية للتجول في القصائد، وهي: النسيان، والمسافة، والبحر. الأولى تنوس بين النصوص مخاتلةً مراوغة المعنى والدلالة، فهي المحو وضده، وهي الذاكرة ونقضها، وهي الجهل تارة والمعرفة تارة، وهي الانقطاع والوصل. والثانية تتقلب بين دفتي الديوان، بدءاً من العنوان، حيث تتخذ معنى المرض الذي يستدعي العلاج، ثم تندسّ في تضاعيف القصائد على هيئات متباينة: حيناً هي البرزخُ بين مجالين وحيناً هي المجالُ عينه، ومرة هي زمان ومرة هي موضع، حيث "المسافة مكفولة برسائل الذهب/ بالقباب التي تحرس الدم/ كأن السفر لها بيت/ والمسافة مكان"، وآناً هي امتحان وآناً هي محنةٌ، وهي مدى ومدْية. والثالثة ترشُّ رذاذ موجها على وجه كل نص، ولا غرو ان يكون البحر هو الفضاء الذي تسبح فيه كتابات اهل البحرين الذين غنّت لهم الأنشودة السومرية القديمة "دع مدينة دلمون تصبح ميناء العالم كله"، ليغدو البحرينيّ سيما الشاعر مسكوناً بشهوة الجسور، التي عبرها "يخيطُ فتوقاً بين الماء واليابسة". ثالثاً: إذا كنا تثبّتنا من ان شاعر "قصيدة النثر" لا يعطي ظهره للواقع الاجتماعي، كما يزعم زاعمون، فإنه يلزم ان نوضح ان تعبيره عن واقعه الاجتماعي لا يأتي مباشراً فجّاً تقريرياً، بل يأتي مضمراً مغلّفاً بالتركيبات الفنية، كما انه لا يأتي منفرداً بل ضمن سياق اشمل منه وأغنى، فضلاً عن انه لا يأتي على طريقة ثنائية الأسود والأبيض، حيث الحكام هم دائماً اشرار والمحكومون هم دائماً اخيار، بل يحتوي على نقد المحكومين صنّاع الطغاة احياناً وعلى نقد الحاكمين سواء بسواء. رابعاً: إن متابع تجربة قاسم حداد منذ بدايتها سيتأكد انها تجربة متنوعة متنامية متصاعدة، وأنها تحفل بالكثير من الدروس المستفادة: بدءاً من كسر مركزية الشعر الجميل في العراق ولبنان ومصر كما كان يقال، مروراً بتقديم مثال ناصع لقصيدة النثر العالية في مواجهة خصومها وراكبي موجتها من المتشاعرين على السواء، وانتهاء بتعميق المبدأ الحي الذي يقول إن الشعر عديد وكثير وليست له "مسطرة" قديمة مؤبّدة خالدة. بحق، "تلك هي جذورنا صاعدة". وبحق "الجحيم جنّة الكائن"، أيها الشاعر الذي "يطلق الريح في جمرة النص".