مرة ثانية، وبعد رحيل صلاح عبدالصبور رائد البساطة العميقة في الشعر العربي الحديث ينهض بالمشروع شاعر آخر مع اختلاف في الزمان والمكان والأسلوب، شاعر البساطة العميقة والمكثفة ورائدها الجديد هو جودت فخر الدين هذا الفنان الذي يتمتع بقدرة هائلة على تشكيل المرئيات شعرياً وعلى التقاط اللحظة الإنسانية المكثفة التي تجعلك تحب الشعر وتسعى الى أن تقترب من عالمه الأليف غير المتعالي ولا الغامض بل تغريك بأن تجلس الى النص الشعري مطمئن الروح هادئاً ومنصتاً الى صوته العذب ذلك الذي يشبه ايقاع الينابيع الجبلية في يوم خريفي مشمس. وربما نجحت في أن توهمك بأنك لا تقرأ القصيدة وانما تستريح على كتفها كما يستريح الطفل على كتف أمه بعد مشاجرة عنيفة مع رفاق طفولته. الفن الحقيقي ببساطة، سواء كان هذا الفن قولياً كالشعر والقصة والرواية أو بصرياً كالرسم والنحت أو سمعياً كالموسيقى. وحين يخلو الفن من البساطة ويتحول الى ألغاز ومبهمات ومساحات بيض وصفر وزرق فإنه يخلو من لذة المفاجأة والاكتشاف ولا يكون فناً، والبساطة لا تعني التبسط أو الهبوط بالتجربة أو التخلي عن شروط الفن بكل صعوباتها تلك الصعوبات التي ينبغي ان يدركها القارئ ويحس بأبعاد الصراع الذي كان قائماً بين المبدع وبينها حتى استطاع ان ينتزع من بين أصابعها هذا النص العذب الجميل المنبعث من وعي عميق بالشعر وتجربة كتابته، ولحظة يستطيع الشاعر بموهبته الفذة أولاً ثم باستحواذه على بلاغة البساطة ثانياً أن يجعل القارئ يصرخ تحت تأثير طراوة الكلمات وسحرها إنه الشعر!! يكون قد بدأ تجربته الحقيقية لا في كتابة القصيدة وحسب وانما في التأكيد كذلك على ما ينبغي ان يحققه من استجابة وقدرة على التبليغ الروحي والدخول بقوة الى عوالم الشعر وفضاءاته اللامحدودة. من هذا المنطلق أو بالأصح من هذا المدى تأتي بساطة جودت فخر الذين وتتجلى كأوضح ما تكون وكأجمل ما تكون في ديوانه الجديد "سماوات"* هذا العمل الإبداعي الجميل الذي خرج بالشعر - عبر عفويته وتلقائيته - من أن يكون تطبيقياً لغوياً لما اختزنته الذاكرة من مهارات الانزياح ومن مقومات الشعر وبلاغته الخارجية القائمة على الايقاع والاستعارة والتمثيل والتشبيه الى عالمه الأوسع وزمنه المفتوح على الحلم والبساطة المتألقة: تعدو السماوات القريبة خلف أوهامي/ لتحضن ما تخلفه خطاي على الثرى/ وتعود هائمة به نحو الأعالي/ لا أصدقها.../ وأمضي ناقلاً خطوي/ على قفرٍ تلوحه شموس الأمس/ أستهدي بأوهامي/ ويجذبني ضياعي حين يأنسه المدى/ تلك السماوات القريبة لا أصدقها.../ أصدق كل نافذة يجيء بها الشتاء/ أصدق الألق الذي تمضي بفتنه أكاذيب الشتاء. الشعر الحقيقي اضافة وما لم يكن كذلك فلا حاجة للإبداع اليه. وديوان سماوات للشاعر جودت فخر الدين اضافة حقيقية الى الشعر المعاصر، تبدأ هذه الإضافة من العنوان، من هذه السماوات - القصائد، ومن كل هذه الاستحضارات الهائلة والمحققة باللغة والمتوالدة عن الأشياء بعد أن يغمرها الشعر بعالمه المملوء بالسحر والتوتر ويحررها من الآنية والمباشرة ويرتقي بها من الملموس الى المحدوس أو العكس، وحينئذ لا تدخل الواقع إلاّ وقد صارت أشياء جديدة ذات وظائف استثنائية وجديدة: في البيت أشجارٌ وشمسٌ والسماء العائلية لا تنام، تظل ساهرة لتحرس نومنا، وتظل ساهمة لتحرس صحونا، تذنو كثيراً كي تلامسَ صمتَنا وتروح تعلو ثم تعلو كلما انطلقت نجومٌ من رؤانا لس من حجبٍ تحدُّ سماءنا تدنو وتعلو دون حدٍ أو حجابْ وتشوقنا في كل آونة بنافذةٍ ونافذةٍ... وبابْ. البساطة والتلقائية إذاً، هما عمود الرؤية الشعرية لدى جودت فخر الدين، وبهما يتجاوز الشاعر نثرية الحياة والأشياء ويرتفع فوق الذهنية المباشرة ويضيف صفات الغرابة والدهشة الى كل ما هو مألوف وشائع. ألمحت سابقاً الى أن الشعر في ديوان "سماوات" للشاعر جودت فخر الدين تعبير، أو بعبارة أدق تصوير يقوم الشاعر به ومعه بنفض الغبار عن الكلمات قبل الرسم بها مستخدماً الإزاحة التي تعلو على العلائق البلاغية والبيانية الموروثة تلك التي لم تعد تساوي شيئاً بالنسبة الى الحساسية الشعرية الحديثة. وهذه الإشارة لا تعني ان الشاعر ينتقي كلماته أو يستخلصها من قاموس محدد، اللغة كلها قاموسه المفتوح بلا حدود وهو عندما يكتب القصيدة يحاول ان يتناسى معرفته الثقافية وخبرته النقدية لتظل - أي القصيدة - فيضاً من الإيحاء لا انعكاساً للمعرفة ومصادرها وبذلك تطغى شخصية الشاعر على شخصية الأستاذ الجامعي الناقد ولا يبقى من الأخيرة شيء يدل عليها. من القراءة الأولى يستوقف القارئ من الديوان هذا السحر الغامض النابع من بساطة مذهلة ومن إحساس حميم وعميق بالطبيعة والناس والأشياء. وفي نص رائع التكوين بعنوان نوافذ للصيف يهديه الشاعر الى ابنه محمد يتحول معه جودت فخر الدين من شاعر الى فنان تشكيلي حقيقي يرسم بمفردات اللغة ثلاث لوحات تتحدى بتكويناتها التعبيرية كثيراً من اللوحات البصرية التي يقف الناظر اليها عند السطح لا يستطيع مغادرته بينما يتمكن القارئ مع هذه اللوحات الشعرية الثلاث أن ينفذ من المنظور الخارجي الى الأعماق، ويقرأ ما وراء الألوان وما وراء الظل والضوء، وهو بين هذا وذاك يجد روح الشاعر وشعره مبثوثة في النص منفلتة من أسر الشكل ومن أسر التكوين الجامد لبعض اللوحات البصرية وهذه هي اللوحة الشعرية الأولى: نداعب هذا النهار، فتقذفه في المياه، ونغطس في إثره، ثم نرفعه منهكاً مثل لؤلؤة شاحبة. فنهدّئ من روعِهِ، ونطوف به الشطّ، نمسح عن وجهه لهفة ذائبهْ، ثم نجلس تحت المظلاّت، نُجلسه قربنا، ونحاول إهماله، فنراه يحاول إهمالنا يتفيأ أو يتشمس أو يتأمل في ذاته ثم حين تجفّ رؤاه ويغفو نعود فنقذفه في المياه، ونغطس في إثره. أي جمال، بل أية متعة تبعثها هذه اللوحة في النفس، وأي بساطة عميقة واتت الشاعر فاستطاع وهو ينطلق بكلماته لمداعبة النهار الصيفي المعبأ بالحرارة ان يرسم بالكلمات وحدها هذه اللوحة الفريدة بإشراقها وألوانها والتي بتكوينها المتتابع وبعفويتها تشيع في النفس دفئاً وبهاءً وتفيض إيحاء وشفافية، وإذا كانت اللوحة الأولى تفصح من خلال بنيتها عن دلالة مترعة بالسأم والتكرار، وتكشف عن تماهي الشاعر بالنهار، فإن اللوحة الثانية تعكس انطباعاً حزيناً تجاه ما تنطوي عليه الحياة والطبيعة من تغير وذبول. فبعد الإضاءة الساطعة يأتي الانطفاء الموقت قبل ان يجيء المساء بفيض سكونه ودعته ليضع حداً لاضطرابات النهار: أظل أراقب موت الشجيرات عند الضحى/ والظلال التي انكمشت في الحديقة/ انظر في جلستي راثياً لانطفائي/ أظل كذلك حتى يجيء المساءُ اعتذاراً./ تقول النسيمات: جئنا نودع ذاك النهارا./ فأنهض في جلستي/ أتأمل روح الوريقات تطلق وشوشةً في فضاء صغيرٍ/ فضاءٍ فتي خبا فيه آخر خيط من الشمس،/ أنهض في جلستي/ أتقبل عطر التحيات/ أرنو طليقاً. جودت فخر الدين طاقة شعرية تضيء بالبساطة وتتمسك بالغنائية الهادئة وتؤمن بأن الشعر العظيم ينطلق من قلب الشاعر ليأخذ طريقه الى قلوب الآخرين. * جودت فخر الدين، سماوات، شركة رياض الريِّس للكتب والنشر، بيروت، أيار مايو 2002.