استضافت قاعة الرواق في المنامة معرضاً شخصياً للفنان العراقي رافع الناصري تحت عنوان "تحية الى المتنبي"، ويضم 34 لوحة من مواد وخامات مختلفة، وكلها مستوحاة من بيئة المتنبي وشخصيته ومتمثلة بشعره. والمعرض سيقدم في بعض العوالم العربية. هنا قراءة في علاقة الرسام بالشاعر انطلاقاً من الاعمال التشكيلية نفسها. كانت الدهشة التي استقبل بها معرض الفنان رافع الناصري وهو جاء تحت عنوان واحد: "تحية الى المتنبي"، مثار تساؤل حول ما اذا كان الاجماع على هذا الاعجاب من زوار المعرض متأثراً بالسحر الذي يمارسه المتنبي على الاجيال على امتداد القرون، ام لسحر الاعمال التي بدت آتية من عصور سحيقة في الوقت الذي تجلت اساليب الحداثة. فاللغة التجريدية التي اعتمدها الفنان في تصوير الاجواء النفسية والتاريخية والجغرافية للمتنبي وعصره هي لغة فنية مستخلصة من تقنيات الماضي والحاضر شرقاً وغرباً، كما ان العمل المطروح يجمع بين فن الكتاب كما تمثل في ابداعات الحضارة العربية الاسلامية، وفن اللوحة التجريدية المعاصرة المتمثلة بالتجارب الغربية. فالمعرض ليس مجرد لقاء بين الشعر والرسم، ولا محاولة لايجاد نص مواز، وانما هو بحث بصري يتوخى تتبع مسار الفكرة التي استحوذت على مخيلة الفنان ودفعته الى انجاز سلسلة من الاعمال الفنية المتواصلة، وهو ابحار في المعنى الشامل للمعرفة الانسانية، ألغي فيه الزمن وأزيلت الحدود بين اساليب التعبير. يقدم معرض الناصري "تحية الى المتنبي"، كما يبدو قراءة بصرية للشاعرة وشعره. وللدخول في صلب العمل لا بد من التساؤل عن الوشائج التي جمعت بين الناصري والمتنبي وأنتجت هذا العمل المتجانس والمتناغم؟ من خلال تتبع مراحل هذه التجربة لدى الفنان يتبين ان المحرك الاول، او الالتفات كما يسميه الجرجاني، كان ديوان شعر للمتنبي وهو طبعة مصورة ومصغرة عن طبعة امين هندية - القاهرة 1923، اصدار المركز العربي للبحث والنشر - القاهرة 1980 استثاره فيه شكل الحروف المستخدمة في الطباعة ولون الورق المشبع بالصفرة والمعبأ بأبخرة الزمن وشذا العتق، وأغراه بالتوغل في أقبية الزمن ونفس الشاعر. ويؤكد الناصري ان العامل المحرك الاول لهذا المشروع الفني كان شكل الديوان وطبيعة الحروف المستخدمة في الطباعة. فقد ظل هذا الديوان يلازمه فيحاوره ظاهراً وباطناً متسائلاً عن امكان ايجاد مدخل جديد لعقد اواصر الصلة مع الشاعر، وبينهما من شساعة الزمن اقل مما بينهما من المفاهيم والتصورات. هكذا وجد الناصري نفسه مغرقاً في المتنبي محاولاً استجلاء ظروف حياته وعصره وبيئته الجغرافية. وكانت فاتحة حوار الناصري مع الشاعر وشعره مجموعة منمنمات مدورة صغيرة نفذها بألوان مائية وحبر ملون على ورق. فكانت هذه البداية مجرد مدخل الى اعمال ورقية أكبر، سرعان ما اغرت الفنان بالتمادي في استخدام الخامات والأحجام والأشكال حتى شملت التجربة الرسم على الورق والحفر على الزنك، ثم الرسم على القماش بأحجام كبيرة. وخرج الشكل عن الدائرة ليشمل المربع والمستطيل بأحجام ممتدة. وفي كل هذه المحاولات والتقنيات كانت صفحات، او اجزاء من الصفحة، من هذا الديوان تدخل عنصراً اساسياً دالاً في تكوين اللوحة. ولعل ذلك ما اثار لدى الناصري رغبة في الاقتراب من فن الكتاب، واستعادة المخطوطات القديمة بمذهباتها واشراق ألوانها للخروج بهذا الفن ثانية الى آفاق المعاصرة وتوسيع أمدائه ليصبح احد السبل التي ينتهجها الفنان العربي اليوم في بحثه الجاد عن بلورة ملامح خاصة لفن عربي حديث. لم يعمد الناصري في تمثله شعر المتنبي الى الخروج بصورة فنية بصرية الى ادبيات القصيدة او تجسيد تفاصيلها، وانما الى الابحار في نفس الشاعر وتماهيها مع بيئته الكوفية بسواد ارضها واتساع باديتها وغزارة عطائها الفكري. ويستعير من اجواء نفسه الملبدة والمضطربة ملامح تجربته الوجودية في خضم عصر تعاظمت فيه الدسائس والفتن، واشتد اوار الحروب الداخلية والانقسامات، وفي الوقت نفسه الذي بلغت الحضارة العربية الاسلامية ذروتها، وشهدت ثمار انفتاحها على ثقافات الأمم الاخرى والتفاعل معها واعادة انتاجها برؤية اسلامية واضحة. في ذلك العصر المملوء بالانجازات الفكرية والابداعية والصاخب ايضاً بالفتن والاضطرابات، ولد المتنبي وعاش فشغل الناس وغدا رمزاً حياً لعصره بعظمته وتناقضاته. حرص الناصري منذ البداية على ايجاد مكافئ بصري لعبقرية شعرية عجزت عن تجاوزها العصور ناهيك بالشعراء. فكان التحدي مضاعفاً امام فنان له بصمته الواضحة في الحداثة العربية. كانت البداية التي اعتمد فيها الفنان اختزال الشكل الى ضربات لونية شفافة ذات غنائية عالية تفيض بالايحاء، كما كانت محاولات للإمساك بروح زمن تبخر وبقي صوته راسخاً في اعماق كلماته التي تشير اليها رمزاً ودائماً رمزاً قصاصات مبثوثة في قلب التكوين. وكانت هذه الاعمال الصغيرة مدخلاً متواضعاً الى طريق طويل يتطاول مع اتساع تجربة الفنان وتطورها. ومن النظرة الاولى يستوقف المشاهد سحر غامض ينفذ من سطح اللوحة لا يفهم ان كان نابعاً من نضارة الالوان الشرقية الدافئة المتفجرة على السطح، ام من سحر التداخل الحميم بين مفردات العمل وعناصره، الخطوط والأحبار والمواد الملصقة، وتفاعلها مع النص الذي يتطلع الينا عبر عين ما زالت حاضرة تشهد واقعاً مأسوياً يتكرر مع دورة الزمن. والمتتبع تجربة رافع الناصري ومراحلها، يستطيع ان يلمس في هذا المعرض عدداً من الركائز التي تكاد تكون سمات لأزمة لبناء لوحته منذ ان اعتمد لغة التجريد في التعبير عن ذاته. وهي ركائز ورثها من دراسته الاكاديمية المتينة وما زال يوظفها. ومنها هندسة التكوين حتى وان بدا هذا التكوين خلواً من المنظور، منفلتاً في حريته. فثمة مركز ينطلق منه الشكل ويتمحور قبل ان ينتشر في ارجاء السطح. وكذلك التداخل المدروس بين الظل والضوء. فإضافة الى كون الضوء في اعمال الناصري عنصراً مكافئاً للون ينطلق من قلبة ويضيئه، فإنه يظهر في هذه المجموعة قيمة جديدة من خلال الرقائق الذهبية المندسة في اللوحة. ولعل تأثير هذه المذهبات هو ما يجعل لوحات هذا المعرض تقف جسراً بين الحاضر والماضي. فقيمتها الجمالية الشرقية تذكرنا بفن الايقونات وفن المخطوطات، وتضفي على العمل الحالي رفعة ترمز الى مكانة الشاعر بقدر ما تشيع من بهاء مشرق على اللوحة. لم يعن الفنان باختيار نصوص الشاعر المبثوثة في قلب التكوين على اختلافها، لتكون ذات دلالة لفظية ادبية ولكن لتكون نصاً بصرياً شأنه شأن عناصر التكوين الاخرى. فهو مجرد رمز لوجود الشاعر، ولذلك امعن الفنان في معالجته وتذويب ملامحه لئلا تطغى شخصية الشاعر على الفنان. ولمن يبحث عن وشائج مضمونية بين النص المكتوب والصورة لن يفلح في ايجاد ضالته. وهذاما حدا بالمشاهدين، بعد البحث والتساؤل في صمتهم وجهرهم، الى الركون في نهاية الامر الى حقيقة انهم امام عمل فني تصويري وليسوا امام نص ادبي مصور. كان المتنبي، كما يشهد عليه شعره، فيضاً من معرفة هي خلاصة ثقافات متداخلة ومتجانسة، والناصري اراد، كما يبدو من سلسلة اعماله هذه، ان يوظف خبرته وثقافته الجامعة بين الشرق والغرب، وتسخيرها للخروج بعمل خلاق يعد نقلة نوعية في تطور نهجه الفني خلال قرابة اربعين عاماً. فهو آت، كما يبدو هنا، من قلب الحضارة العربية الاسلامية، وذاهب الى اقصى تخوم الحضارة العالمية، حاملاً طي تجربته تراث العالم شرقاً وغرباً بماضيه وحاضره. كان المتنبي عامل تحريك وتحد لمقدرة الفنان، وحين اراد رافع الناصري ان يؤدي له التحية كان حذراً وواعياً من ان التحية لا بد ان تأتي: "على قدر اهل العزم".