قصص حب وحنين أشبه باللقطات الفوتوغرافية السريعة التي، على رغم سرعتها، لا تنتقص من التفاصيل رقتها، ولا من الألوان بريقها، وقليل من المرح والدعابة يتسلل إلى الحكايات من دون افتعال أو مبالغة. إنها حصيلة أمسية يقضيها الجمهور على الأريكة مع الممثلة نورا أرماني، التي تلعب بمفردها بطولة المسرحية ذات العنوان نفسه "على الأريكة مع نورا أرماني" على مسرح "نيو إند" في شمال لندن خلال حزيران يونيو الجاري. أرماني في مسرحيتها التي تعتبر سرداً ذاتياً لحياتها أشبه ب"الشركات المتعددة الجنسيات"، فهي أرمينية، ايطالية الأصل مصرية المولد. تنقلت بين فرنسا وايطاليا والولاياتالمتحدة في سنوات حياتها المهنية المبكرة، وحالياً تقسم وقتها بين لندنوباريس. تحمل جنسيتين وشهادتين دراسيتين وتتقن نحو ست لغات. شخصيتها مزيج من قاهرة الستينات وهوليوود الثمانينات ولندن التسعينات. لعبت أدواراً في مسرحيات لشكسبير وبرناردشو وموليير وتشيكوف وتوفيق الحكيم. ممثلة ومنتجة وكاتبة وصانعة سينما، شاركت في انتاج فيلم "حيفا" مع المخرج رشيد مشهراوي، و"المحطة الأخيرة" الذي شاركت في اخراجه كذلك. وهما الفيلمان اللذان عرفا طريقهما إلى مهرجانات سينمائية عالمية عدة أبرزها: كان ومونتريال وروتردام والقاهرة. لهجتها المصرية الواضحة تعكس جزءاً من تلك الشخصية المركبة. قدمت مع الفنان محمد صبحي رؤيته المسرحية ل "الملك وأنا"، ولعبت دور المعلمة الانكليزية، وهو الدور الذي جسدته الممثلة دبره كير أمام يول براينر في الفيلم الحائز أوسكار عام 1956. وعلى رغم تجوالها في أنحاء المعمورة، ما زالت تحمل معها ذكريات القاهرة ومبانيها وخان الخليلي وعطوره والاسكندرية ومينائها. وكيف لا؟ وهي التي ولدت في الجيزة، وتعلمت في المدرسة الانكليزية في ضاحية مصر الجديدة، ودرست المسرح وعلم الاجتماع في الجامعة الأميركية في القاهرة، وحملت معها عند انتقالها إلى لندنوباريس ذكريات الطفولة وقصص الحب التي عرفتها في سنوات الدراسة في ظل القاهرة. وكانت لغتها العربية جواز مرورها إلى هوليوود، وتحديداً من خلال مسلسل "ماركو بولو"، إذ كان القائمون على العمل يبحثون عمن تؤدي دور امرأة عربية، فاستثنيت أرماني من شرط عضوية نقابة الممثلين التي حصلت عليها بعد قيامها بالدور. وعلى رغم السنوات ال12 التي أمضتها أرماني في عاصمة السينما الأميركية ومحط أنظار ممثلي العالم، إلا أنها تركتها إلى باريس، والسبب، كما تقول، ميل السينما الأميركية إلى السيطرة وعدم قبول مبدأ الحوار، ما يغلق الباب أمام المنافسة. وعلى رغم الحفاوة الكبيرة التي قوبلت بها أرماني في موطنها الأصلي أرمينيا، حين عادت إليه بفيلمها "المحطة الأخيرة"، لم تختر الاستقرار هناك، لكن الاستقرار في الوطن لا يعني بأي حال من الأحوال الانتماء إليه. لكن نورا أرماني حتماً تشعر بالانتماء الى أرمينيا، فهي تلقي الأشعار وتغني باللغة الأرمينية التي تتقنها في المحافل الدولية، وأبرزها "كان" في عام 1998 حين شاركت في فاعليات فصل الصيف التي تنظمها مدينة روما حيث قدمت باقة من الأشعار والأغاني الأرمينية في مناسبة صدور كتاب "بارون حلب" الذي يحكي قصة فندق البارون المشهور في حلب والعائلة الأرمينية التي أدارته على مدى أجيال عدة. تحمل أرماني معها إلى "أريكتها" أو مسرحيتها التي تقدمها في لندن بعد أيام كل تلك الذكريات والمشاعر. وبشكل أو بآخر، وعلى رغم أنها لم تشاهد بعينيها مأساة الشعب الأرميني، إلا أن تركيبتها النفسية تحمل نكبة أرمينيا، لكنها تترجمها بفنها إلى لغة ايجابية. أحد الكتّاب من أصل أرميني كتب عن "على الأريكة مع نورا أرماني" أنها "محاولة لعملية استبطان جماعية للدوافع والمشاعر الداخلية في أوقات وأماكن صعبة. وعملية الاستبطان تلك ليست مألوفة لشخص أرمني". المسرحية عرض ذكريات ومشاعر امرأة من الشرق عاشت في الغرب، وتفاعلت معه من دون أن تنتزع جذورها النفسية والاجتماعية. المواجهة الأولى مع الجنس الآخر، الرجال الذين مروا في حياتها، كل من أثر فيها وأثرى حياتها الشخصية والمهنية، فترة طفولتها وشبابها المبكر والميل إلى تطويقها بغرض حمايتها، ومشاهد عن حياتها في هوليوود، حياتها كفنانة وإنسانة، قصص الحب والعشق، أماكن المولد والنشأة وتلك التي شهدت اختياراتها الاستراتيجية، السياسات المتحكمة في الحياة والتمثيل، ورحلتها الدائمة في البحث عن الهوية. وهذا ما يتمثل في ردها عن أي سؤال يوجه إليها عن هويتها ومن أين أتت. تقول: "أنا مشتتة". تعرض نورا أرماني قصتها مع التشتت والانتقال والترحال عن القاهرة إلى لندن إلى هوليوود إلى باريس والمحطات الكثيرة بين كل منها في لندن، وذلك بعدما عرضتها في الولاياتالمتحدة وكندا وفرنسا مع المخرج فرانسوا كرغورلاي. "على الأريكة مع نورا أرماني" خليط من التاريخ والثقافة، الشرق والغرب، الحساسية المفرطة والقوة البالغة، الرفق والعنف، وقدر كبير من المدح والدعابة مع ديكور بسيط وغير معقد، وإضاءة تساهم بقدر غير قليل في الانتقال من عالم إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى، ومن ذكرى إلى حاضر في رحلة البحث عن هوية.