لا نستغرب كثيراً عندما نرى في شوارع دمشق ماسح أحذية يتجول وقد زين صندوقه الصغير بأقراص ليزرية تالفة، مضفياً على صنعته مسحة من الحداثة، وإن كانت أدواته في تلميع الأحذية فرشاة عتيقة وقطعة قماش ودهن اللوز. هذا المشهد الاعتيادي يعكس إلى حد بعيد ما وصل إليه واقع الأقراص الليزرية في مجتمعنا، فمنذ سنوات كان التالف منها يستعمل في تزيين السيارات الفخمة، ثم تدرجت لتشيع في وسائط النقل العامة ومن ثم الشوارع. ابتذالها على هذا النحو يعيد إلى الذاكرة التصورات التي رافقت بدء استخدام أقراص ال"سي دي" في الماضي القريب جداً و الذي لا ينأى عن منتصف عقد التسعينات، إذ نحا الحديث حولها باتجاه التخييل كونها قادرة على تخزين كمية من المعلومات تعادل حجم غرفة من الأوراق، ما جعل سعر القرص باهظاً. في ذلك الوقت لم يكن المجتمع استوعب بعد قدرات ال"فلوبي ديسك" في تخزين المعلومات والذي بدا أمام ال"سي دي" قزماً سريع التلف. رامي خريج كلية الهندسة لا يخفي دهشته من سرعة انتشار ال"سي دي" وبالتالي المعلوماتية في سورية في الوقت الذي يقال ان مجتمعاتنا ما زالت متخلفة كثيراً في هذا المجال، ويستعيد كلاماً لوالده وهو فنان تشكيلي منذ سبع سنوات: "اتسم كلام والدي عن السي دي بالذهول حين أخبرنا عن مشروع ضخم لأرشفة صور لحوالى مئة ألف لوحة سورية" ومن غرائب العلم حين ذاك قوله: "تخيلوا أن قرصاً لا يتجاوز حجمه كف اليد يستوعب مئة صورة وربما أكثر بكثير". يتابع رامي: "ما زلت حتى الآن كلما رأيت سي دي أسأل نفسي عما إذا كان هو نفسه الذي لا يمل والدي من الحديث عنه؟ هذا التساؤل يراود شباناً كثراً تلفهم الثورة التكنولوجية بأخبارها المتسارعة، ويلهثون في خضمها كمحاولة دائبة للبقاء داخلها". أبو عصام 57 عاماً يعمل في مؤسسة قطاع عام يصرح عن جهله بعالم الكومبيوتر ويخشى كثيراً من ال"سي دي" تحديداً فقد سمع أنه ينقل فيروسات. ومع أن المؤسسة أجرت للعاملين الكبار دورات تعليم إلا انه لم يتجاوب بعد مع هذه التقنية ويعتقد أنها تخطئ كثيراً وبالأخص في الحسابات، كما لا يكتم امتعاضه من ولع أبنه وعمره 20 عاماً بالكومبيوتر الأمر الذي رتب عليه أعباء مادية زائدة. يقول أبو عصام: "عندما اشتريت لابني كومبيوتر ظننت أني اقتنيت له تحفة ستمكث لديه طيلة حياته، إذ لم أتصور أبداً أنني بذلك قد فتحت باباً جديداً للانفاق لن يغلق، فعدا المصروف اليومي لشراء ال"سي دي" هناك مصروف آخر لشراء قطع لتحديث الجهاز وإطالة عمره". يعلق الابن على كلام والده ضاحكاً: "أبي يعتقد أن الكومبيوتر معطف جوخ إنكليزي أو قطعة سجاد عجمي كلما عتقت ازدادت بهاء، لم يستوعب حتى الآن أن تقنيات الكومبيوتر تشهد يومياً تطورات تلغي سابقتها". تسارع عالم الكومبيوتر فرض على المجتمع السوري وبالأخص الناشئ آليات جديدة للتهافت على اللحاق به، فلم يعد بالإمكان الانتظار ريثما يحدد المجتمع موقفه مما يستجد على هذه الساحة أو قوننته، ليتم التعاطي معه، وإنما يجري العكس، فهناك من يستورد تلك التقنيات والمستجدات بأية وسيلة كانت، ويطرحها في السوق، ويتمكن أي زبون من تخمين آليات الاستيراد والعرض والطلب من خلال زيارة إلى سوق "البحصة" وسط دمشق، المعروف الآن كمركز لبيع قطع الكمبيوتر وال"سي ودي". هناك سنجد إجابة على أسئلة محيرة عن الانخفاض غير العادي في أسعار ال"سي دي" من خمسمئة ليرة سورية عشرة دولار حتى خمسين ليرة دولار واحد أو أقل خمس وثلاثين ليرة خلال اقل من خمس سنوات أي منذ أخذت الأقراص الليزرية بالشيوع في سورية. عبير طالبة لغة عربية دفعت ثمن "سي دي" أغاني مرسيل خليفة اشترته من بيروت الشهر الماضي خمسمئة ليرة سورية، فصارت موضع تندر أصدقائها الذين وصفوها بالساذجة لأن ال"سي دي" ذاته مبذول في دمشق بخمسين ليرة فقط. وبررت عبير ذلك بقولها: "عندما كنت في بيروت ظننت أنني اشتري نسخة أصلية تستحق هذا المبلغ بالإضافة الى كونه جديداً ولم أتصور أنه وصل إلى دمشق، خيبتي كانت كبيرة عندما رأيته بالواجهات المحلية معروضاً للبيع بسعر بخس جداً فاشتريت نسخة أخرى وقارنتها مع الأصلية ولم أعثر على أي فارق بينهما يستحق دفع عشرة دولارات!! وربما يكون تعليق فادي اكثر بلاغة بهذا الخصوص: شو اصلي وما أصلي، كله كذب، هناك من يقول أن الأصلي لونه فضي ويبيعونه بسعر مئة ليرة دولاران هذا كلام فارغ. في سورية نادراً ما نعثر على "سي دي" أصلي، وحتى إذا عثرنا عدا غلاء ثمنه لا توجد أجهزة كومبيوتر أصلية تستحق أن نشتري لها مثل تلك النسخ، غالبية الأجهزة الموجودة تجميع. اللون الفضي وطباعة قائمة المحتويات على الوجه الثاني لل"سي دي" التي تعتبر دليلاً على أصالته، بدأت تتلاشى مع دخول أجهزة حديثة إلى السوق تطبع المحتويات على الأقراص المستنسخة وتجعلها تبدو وكأنها أصلية. والأقراص الفضية اللون الفارغة انتشرت أيضاً مثل غيرها ذات الألوان الأخرى: الأزرق والقوس قزح، ولا يمكن أن يميز الأصلي سوى الخبير. ويأتي فارق السعر بين قرص وآخر حسب جودة الماركة ك"المتسوبيشي، والسوني، والأيسر، والفيرباتيم" وأيضاً جودة النسخ، أما قطع الكومبيوتر كالذواكر فيشار إلى أصالتها بان أسم بلد المنشأ محفور عليها مثلاً :أحد المحلات في البحصة وضع على الواجهة الزجاجية قصاصة ورق صغيرة دون عليها لدينا ذواكر أميركية أصلية محفورة حفر! ربما أدرجت هذه الممارسات في بلدان أخرى ضمن خانة القرصنة لأنها تقوم على هامش السوق وخروجاً على القانون، وتؤثر سلباً على حركة البيع النظامية، هذا لا ينطبق على السوق السورية لأسباب عدة، أهمها أنه لولا هذه الممارسات لما نشأت السوق، فهي قائمة على التجميع والنسخ، وتلك البضائع لا تباع على أنها أصلية بل أنها نشأت كبديل لا بد منه يلبي احتياجات تفرض نفسها بلا هوادة، كما أن سلوك الطريق النظامي لتوفيرها باهظ التكاليف، وغير ممكن، فالعاملون في هذا المجال يجنون من تجارتهم أرباحاً تتناسب مع دخل المستهلك، وهي لا تقارن بالأسواق العالمية سواء النظامية أو القرصنة، لأن الهدف منها ليس الربح بقدر ما هو السبيل الوحيد الممكن لتعميم انتشار التقنية في سورية. ويؤكد هذا لجوء البعض في السوق إلى لصق تحذير على الأقراص "يمنع بيعه في لبنان" أو "يمنع بيعه خارج سورية"، لكن هذا لم يجد مع اللبنانيين والعرب وحتى الأجانب الذين يشترون عشرات الأقراص للبرامج والموسوعات والكتب بسعر يعادل ثمن "سي دي" واحد في بلدانهم. ومع أن قانون حماية الملكية قد صدر في سورية إلا أن تطبيقه على الأقراص الليزرية يبدو بالغ الصعوبة إن لم يكن مجحفاً. صاحبة أحد المحلات في البحصة أكدت هذا بقولها: "لا يمكن أن يتم ذلك في سورية كونه سيؤدي إلى توقف السوق، فلن يغامر أحد بدفع ثمن "سي دي" يحتوي برنامجاً واحداً يعادل ثمن جهاز كومبيوتر، فقط لأنه اصلي، وحتى "سي دي" الأغاني لا أعتقد أن هناك من لديه استعداد لدفع خمسمئة ليرة سورية ليسمع مطربه المفضل، فغالبية المستهلكين من الشباب والطلبة من ذوي الدخل المحدود جداً، وإذا طبق هذا القانون يعني أن بلدنا ستمكث على هامش العصر تنتظر الرحمة ريثما تهبط نعمة مفاجئة تحسن الواقع المعيشي ليتسنى لها في ما بعد اللحاق بالركب التقني!! موظف في واحد من أكبر المحلات في السوق أكد: أن قانون الملكية معمول فيه لكنه يقتصر على البرامج المنتجة محلياً، لذا تباع بأسعار مرتفعة كما أنها غير مطلوبة من قبل الأفراد وإنما من المؤسسات والشركات الضخمة، فهناك برامج تعليمية وقانونية ومحاسبة تباع بعشرة آلاف ليرة سورية وما فوق حتى الخمسين ألف ليرة حسب الجهد الذي يتطلبه تصميم تلك البرامج، وهي محمية واستنساخها يعرض للملاحقة قانونية، أما البرامج العالمية الشائعة فغير مشمولة بذلك القانون على الأقل من ناحية التنفيذ. ولعل هذا يفسر وجود سلاسل من البرمجيات في السوق تحت مسميات مختلفة مثل السلسلة الماسية للبرامج، والأسطورة بأجزائها الخمسة والعملاق بجزءيه، إذ يعمل كل محل على تجميع كمية معينة من البرامج ضمن "سي دي" فيحوي "سي دي" العملاق الأول، مئة برنامج وهذا ينطبق على الألعاب و الأغاني" فمثلاً أغاني أم كلثوم جميعها موضوعة على أربعة أقراص مضغوطة، كما توجد مئة وثمانون أغنية لعبدالحليم حافظ على قرص واحد مع صور قديمة مأخوذة من عدة أفلام، وكذلك موسوعة الموسيقى العالمية الحاوية على ما يزيد على مئتي قطعة موسيقية. وقد لا نكون محقين كثيراً بالدهشة عندما نرى أحدث الأفلام العالمية في محال ال"سي دي" حتى قبل أن تصل إلى دور السينما أو محلات الفيديو. وهنا تجدر الإشارة إلى أن عمليات فك الحماية عن الأقراص الليزرية والتعرف على الرقم السري غالباً تجري خارج سورية حيث تتسرب نسخ غير محمية يسهل استنساخها واشاعتها. الحديث عن القانون ضمن مجتمع يتدبر أحواله بأقل الوسائل تكلفة يبدو ضرباً من الخرافة، فعدا الدخل المتدني والضائقة الاقتصادية عموماً، هناك البيروقراطية المترسخة حيث تتناقض عقلية الموظفين المكلفين بتطبيق القانون ويجهلون عالم الكومبيوتر وأسواقه المحلية والعالمية ومشاكله الكثيرة والمعقدة. ومع أن الإجراءات والقرارات القانونية لتنظيم العمل في هذا المجال راحت تكثر في الآونة الأخيرة لا يبدو أنها ستكون ناجعة، إذ تسير ببطء شديد، وما غزارة البضائع سوى مؤشر على واقع البطالة العام الذي دفع بالعشرات من الشباب والأطفال للعمل في كواليس الدكاكين التي لا تتسع لأكثر من خمسة زبائن، بينما يتكدس اكثر من طفل وشاب في سقيفة المحل أو القبو ليعملوا بالنسخ والصيانة، وهو ما يلاحظه أي شخص يدخل تلك الأمكنة. عماد صحافي يعتبر نفسه من الذين تمكنوا من اللحاق بركب الاتصالات الحديثة، بل ويعتبر بين زملائه خبيراً يقول: اعترضتني مشكلة تقنية في ماسحة الصور سكانر، حملتها إلى البحصة لأجري لها صيانة فأرسلني صاحب المحل إلى الخبير المعتمد لديهم وكان عمره لا يتجاوز الإثني عشر عاماً، لقد خجلت من نفسي عندما رأيته مع مجموعة من الصبيان يتولون أعمال الصيانة والنسخ في قبو المحل. الأطفال والشباب القابعون في السوق الخلفية ليسوا عمالة مرتزقة، بل هم مشايخ كار ومعلمون حرفيون، وهم أيضاً مستهلكون نهمون، حاجاتهم المتجددة تفرض أدبياتها وسلوكياتها وآليات تحقيقها، فلا مجال للانتظار فهم يكبرون وما يحصلونه اليوم باجتهادهم الشخصي من خبرات في العالم الرقمي من تصميم برامج ونسخ وتجميع وصيانة أجهزة وتسويق قطع ليست فقط مصدر رزق وإنما زادهم لمستقبل لم تعد المدارس ولا الجامعات متكفلة برسم خطواته الأولى.