كان رشيد هادئاً جداً على خلاف زملائه الذين غطوا المدرج الصغير. كان هادئاً وسط ضجيج وصخب رفاقه بحيث كان من السهل أن يلفت النظر. في قاعة تابعة للمكتبة البلدية في احدى ضواحي باريس التي توصف ب"الساخنة" أو ب"ذات الوضع الدقيق" من قبل الرسميين والإعلاميين، اجتمع طلاب الصفوف النهائية لعدة ثانويات من المنطقة نفسها لمناقشة كتاب جماعي حول سلام الشرق الأوسط شارك فيه عرب ويهود واسرائيليون وفلسطينيون وفرنسيون، وبحضور بعض هؤلاء الكتاب. ولأن تاريخ منطقة الشرق الأوسط في برنامج امتحانات البكالوريا لهذه السنة، وجد المدرسون والمشرفون في هذه الثانويات أن إجماع المشاركين في هذا الكتاب على ضرورة إحقاق السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين، وبالتالي بين اسرائيل والعرب، مدخل الى تهدئة الخواطر، والى ترطيب الأجواء التي عكست توتراً كبيراً لما يجري هناك، فقاموا بدعوة بعض الكتّاب الى لقاء ونقاش مع الطلاب. اذاً الطلاب لم يكونوا في قاعة المكتبة البلدية ذلك المساء بملء ارادتهم رغم أنهم شاركوا - بحسب طلب المدرسين - في كتابة آرائهم وكأنهم من كتّاب ذلك الكتاب المشترك. وتُرك لهم أن يوقعوا بأسمائهم أو بأسماء مستعارة، أو ألاّ يوقعوا نصوصهم بالمرة. الاساتذة تسلموا نصوصاً جاءت جميعها بلا تواقيع... هذا لا يعني ان النصوص كانت حرة تماماً إذ بقيت رقابة الأستاذ الذي تسلم النص قائمة، ثم ان النص خاضع لعلامة تقديرية محتسبة في مجموع الطالب. عدم التوقيع كان فقط من أجل ألا يتعرف المدعوون من الكتّاب الى اللقاء على الطلاب أصحاب النصوص حين سيحاورهم هؤلاء. كان ذلك قبل أن يبدأ اللقاء. شرحت لي ذلك احدى المدرسات وهي تحاول تسليتي بانتظار أن يبدأ اللقاء. حين قرأت نصوص الطلاب التي وصلتني بالبريد قبل موعد اللقاء في المكتبة البلدية فوجئت كثيراً. فوجئت بنضج هؤلاء الشبان واندفاعهم شبه الغريزي لطلب السلام والتناغم بين البشر على اختلافات البشر. فوجئت بعمق تفهمهم لصعوبة تلك المشكلة وبإصرارهم على ضرورة حلها وانتشالها من عبث المستنقع الذي تغرق في أوحاله. جميعهم تقريباً قالوا انها مسؤولية بلادهم فرنسا، وأيضاً أوروبا والقوة الأميركية، وأنه يجب عدم ترك البشر لسوء حالهم ان كانوا غير قادرين على التمييز وعلى البت في أمورهم. كانت نصوص الطلاب شبه جبرانيّة من دون أن تخلو من الواقعية ومن طلب العدالة... وذكرتني أحياناً بأدبيات الهيبيز في السبعينات. كانت نصوصاً تضوع بمشاعر القلق الانساني، وإرادة التورط بمعناه الأسمي والأنبل. كانت تصوّر الخسارة في الجانبين بحزن هو من العمق بحيث يستحيل على القارئ ان يخمّن شيئاً عن هوية الطالب كاتب النص: ما اذا كان عربياً أو يهودياً. فوجئت كثيراً ان تصدر هذه النصوص عن شبان يعيشون في احدى الضواحي التي - بحسب ما نقرأ ونشاهد على التلفزيونات - تشهد صدامات حادة بين العرب واليهود، أو اعتداءات على أماكن العبادة، أو تحفل جدران شوارعها بالشعارات الشديدة العدائية... قلت في نفسي، معهم حق هؤلاء الذين قالوا ان الإعلام شوّه واقع الحياة في ضواحي المدن الفرنسية الكبرى حتى قُذف الناخبون الى أحضان اليمين المتطرف. لذا... فوجئت أيضاً كثيراً، في قاعة المكتبة العامة، لعدم قدرة الأساتذة على التخفيف من صخب الطلاب ولعدم اهتمام هؤلاء بالمدعوّين من الكتّاب الذين راحوا ينتظرون بنفاد صبر بدء "اللقاء". بدأ اللقاء ولم يتوقف الصخب. حينها اقتربت من الطالب الوحيد الذي بدا لي هادئاً وسألته: "ما اسمك"؟ فأجاب: "رشيد". قلت بمجاملة ظاهرة - وحتى أفعل أو أقول شيئاً - "لماذا لا يهدأون مثلك يا رشيد؟"، فقال رشيد "لأن السنة الدراسية انتهت عملياً، والعلامات سبق أن وضعت على النصوص التي كتبناها... انتهى الأمر...". "انها أوقات صعبة، تعرفين" قالت المدرّسة محاولة استرضائي وكأني زعلانة. ثم أضافت: "انهم متوترون بسبب امتحانات آخر السنة... حضوركم ضروري رغم الصعوبات... انها أيضاً صعوبة اللقاءات الأولى... يجب أن نتابع جهودنا". كنا واقفتين قرب طاولة علتها بعض صحون الحلويات القليلة ترحيباً وشكراً للكتّاب الزائرين. كانت الصحون الخالية التي لهف الطلاب محتوياتها بدقيقةٍ تزيد من ارتباك وخجل المدرّسة الواقفة بقربي. حين هممت بالخروج الى الشارع، قالت المدرّسة وهي تمسكني من ذراعي: "لا... لن تعودي بمفردك الى باريس. المساء قد حل والمنطقة خطرة هنا. هناك سيارة بانتظارك وستحملك حتى بيتك". قبل أن استقل السيارة شاكرة، لمحت رشيد يسير وحيداً بخطى بطيئة فناديته: "الى أين يا رشيد؟"، فأجاب مبتسماً: "الى الليل...".