الوسط التجاري في بيروت "وسط" كما تقول التسمية. فهو ليس "شرقية" ولا "غربية"، بل المكان الذي يلتقي فيه المسلمون والمسيحيون ويتوزعون عقارات وأسهماً وأوقافاً. هكذا كان تعميره بعض عدّة جمهورية الطائف في اعلانها أن الحرب انتهت والوحدة الوطنية عادت. ولأن الوسط وسط بالتمام، يتراءى كأن الكنائس والجوامع تُرك لها إثارة الشك بهذه الوسطية، والتعبير عن الأقصى والمتطرف. فهي هناك كثيرة جداً، ولا تكاد تمر لحظة من دون صوت يبعثه جرس أو مئذنة. لكن الذي يريد أن يحسب الأشياء بالطوائف، يميل هو الآخر الى التشكيك بالوسطية هذه، أو يقلل من اطلاقها. فالإسم الذي ارتبط بالمشروع اسم رفيق الحريري، ولا تزال الساحة الأبرز، كما كانت في الماضي، تدور حول تمثال رياض الصلح، والحديقة الصغيرة المقابلة للبلدية "حديقة القرآن الكريم". اما الشبان الذين يملأون مقاهي الطرق وأرصفتها ليلاً، وهم يدخّنون النرجيلة ويستمعون الى أم كلثوم، فأكثريتهم، كما تشي أسماؤهم، مسلمون. ومن يعرف بيروت قبل الحرب يتذكر تقسيماً مختلفاً. فالشرقية كانت تنتهي في ساحة الدبّاس، وفيها كاراجات السرفيس التي تتوجه من هناك الى سائر مناطقها. وبدوره فالخط الفاصل هو الممتد من الدبّاس، وبشيء من الانعطاف، حتى ساحة الشهداء، ومن ثم الريفولي. وفي الشرق من هذا الخط تتوزع المواقع المتقدمة للمسيحيين كحيّ الجميزة ثم الصيفي حيث البيت المركزي لحزب الكتائب. لكنك ما أن تخطو خطوتين حتى تباشر الدخول في "أراضي المسلمين". فحين تصل الى رياض الصلح ومبنى الكابيتول تقع على كاراج السرفيس الذي ينقلك الى سائر أنحاء الغربية. هكذا كانت مواقف المسيحيين في داخل "أرضهم"، وموقف المسلمين في الوسط. وهذا إن دل على مشاعر متأصلة في الأقليات وخوفها والأكثريات وثقتها، فليس بلا معنى أن موقف المسلمين جاور المصارف والبرلمان والأسواق التي اشتهرت بطابعها التجاري وبلون صار كوزموبوليتياً. وربما من قبيل التصويب، ولو بالقوة، ان الاستيلاء على منطقة الفنادق كان من أوائل أعمال المسلحين "الغربيين" في حرب السنتين. فكأنهم، بهذا، كانوا يقولون ان الوسط غربي ولو كان وسطاً. هذه الروح الضمنية لا تلغي تعادلاً تبرز آثاره في علامات وإشارات أخرى. فالمسيحيون، مثل غيرهم، لا يكتمون إعجابهم بجماليات المكان. بساحاته وواجهاته والحياة التي أطلقها بعد طول موت. والأكثر نباهة بينهم، مثل الأكثر نباهة في الطوائف الأخرى، يدركون معنى القرب من البرلمان، أي من حيث السياسة افتراضاً. فها هي "الأغورا" التي يفتقر الى مثلها عالم عربي يرى السلطة في الأمكنة الأعلى وفي الحيّز المسوّر. وفي بيروت يلهون ويتسلّون في مقاهيهم على بعد أمتار من بيت "نواب الأمة". ومن لم يرقْه الوسط من المسيحيين أمكنه الانسحاب الى "شارع مونو" الذي لا تفصله عن المركز أكثر من مئات الأمتار. إنه، إذاً، وسط فعلاً. ولأنه كذلك يُخشى عليه في بلد متطرف، ومنطقة يتقاذفها الغلو! لهذا تكثر الأصوات التي ترسلها الجوامع والكنائس، ولو كان تنبيهها غير مقصود.