المسموح للمواطنين الأميركيين في القاهرة غير المسموح به للمصريين. هذه الحقيقة كشفتها أمس "جنازة" صامتة نظمتها فتيات أميركيات أمام سفارة بلادهن في حي "غاردن سيتي" الراقي وسط المدينة، وواكبتها حراسة الشرطة. الجنازة وليست التظاهرة، كما كتبت الفتيات على لافتاتهن كانت "حداداً على البشرية" واحتجاجاً على الصمت إزاء العدوان. شابات لا يتجاوزن العشرين من عمرهن حملن الزهور وأحطن رقابهن بالكوفية الفلسطينية وحملن علماً فلسطينياً ضخماً. وبين اللافتات واحدة كتبت عليها "لا يوجد طريق للسلام وإنما السلام هو الطريق". المحتجات اللواتي ارتدين ملابس الحداد السود كن من كل الديانات. إحداهن كتبت على لافتة "لا لمزيد من الاحتلال... لا لمزيد من العنف... ليس بأسمائنا"، وذيلت اللافتة بنجمة داود والهلال والصليب، وفي الجوار رفعت محجبة لوحة كُتب عليها "نطالب بالحق والصبر وليس بالدمار والثأر". إحدى المشاركات قالت ل"الحياة": "هذه جنازة وليست تظاهرة"، وأشارت إلى لوحة كُتب عليها "الويل لنا إذا استمر صمتنا.. العنف قضى على السابقون وسيقضي على اللاحقون. وأخطاء اللغة هنا طبيعية، فالمتظاهرات أميركيات بعضهن ينطقن العربية بصعوبة، والأخطاء بديهية، إلا من لافتة في أقصى "الجنازة" رفعتها مشاركة تشير ملامحها إلى أصول عربية: "هش هش سكوت... العرب نائمون". مشاركة أخرى قالت رداً على سؤال: "لم نطلب مقابلة سفيرنا أو أي مسؤول في السفارة، فنحن لسنا في تظاهرة بل في جنازة حداداً على البشرية الصامتة والمجازر الصاخبة". لكن ذلك لم يمنع إحدى الشقراوات من حمل لافتة أخرى: "لا مزيد من الدولارات الاميركية لإسرائيل". وبعد دقائق أطلقت الفتيات هتافات الفرحة والتهليل وصفقن لمواطنة مصرية من قاطني العمارة المواجهة للسفارة، وهي تضع لافتة على شرفتها كُتب عليها بالإنكليزية "لا للاحتلال... انسحبوا فوراً من فلسطين". وبعد قليل احتجز رجال الأمن سيارات الأجرة في صورة غير مفهومة، الى أن تبين السبب: انتهى الموعد المحدد للتظاهرة، وجمعت الفتيات لافتاتهن وأوراقهن واتجهن مجموعات إلى سيارات وتحركت القافلة في ركب واحد باتجاه الجامعة الاميركية، ليدهش المصريون من التعامل الحضاري الراقي مع المتظاهرات. على بعد ستة كيلومترات كانت اللوحة مختلفة تماماً. قوات الأمن المدججة بالعصي الكهربائية والخشبية والدروع البلاستيكية وبجوارها المدرعات المحملة قنابل غاز، وسيارات الاطفاء المستعدة لفتح خراطيم المياه، والجنود المتأهبون للاشتباك أحاطوا بالمدخل الرئيسي لجامعة القاهرة، حيث تظاهر مئات من المثقفين احتجاجاً على المجازر الإسرائيلية والدعم الاميركي لها، مطالبين بطرد سفير الدولة العبرية من العاصمة المصرية. "ربنا يستر" هكذا علق أحد المارة أمام التظاهرة التي قطعت الطريق الرئيسي أمام الجامعة. وجلس المتظاهرون أرضاً يرددون الأناشيد والجنود يحيطون بهم، والمواطن يردد "كفاية اللي حصل الاسبوع الماضي"، وغادر مسرعاً بعد ما تذكر كيف تحول ميدان جامعة القاهرة، حيث النصب التذكاري لشهداء الطلاب ضد الاحتلال، إلى ساحة قتال استُخدم فيه كل أنواع الأسلحة باستثناء "الذخيرة الحية". وانطلقت سيارات الاسعاف تحمل المصابين من المتظاهرين والشرطة والمتساقطين بسبب استنشاق الغاز الخانق. حتى ان مواطناً هتف "حرام عليكم... إحنا مش يهود"، وبتأثر بالغ تمتم أحد الضباط: "حرام عليكم أنتم... احنا مولعين أكثر منكم". لكن الوضع أمس كان مختلفاً، فلم يحدث الاشتباك المعتاد والفضل يرجع إلى المتظاهرين الذين انقسموا فرقاً وجماعات، يغني كل منهم على هواه، بعدما عمت الانقسامات والخلافات... في التظاهرات ضد إسرائيل.