ربما من العبث الكلام على "فائدة" ما، أو "ثمار" ما يمكن جنيها من الحرب، أي حرب. ولكن ما يحدث في فلسطين اليوم ليس حرباً في المعنى المتعارف عليه للكلمة. ما يحدث هو تجل أخير لفعل مقاومة طويل، ولإرادة وطنية كبرى يساهم الجميع، من الفلسطينيين تحديداً، في إظهارها والتعبير عنها، وعلى رغم البؤس والتشاؤم الشديدين اللذين يرافقاننا ليل نهار ونحن نشاهد ما يحصل في فلسطين من جرائم ومذابح ومحاولات تهجير جديدة، غير ان ما يحصل يؤكد من جهة اخرى ان قواعد اللعبة تغيّرت الى الأبد، وهذا في حد ذاته يدعو الى التفاؤل. من الضروري التشديد في هذا السياق على ان المسألة في بعدها الوطني لم تعد تتعلق بالسلطة الوطنية الفلسطينية وحدها، على رغم التماهي البديهي والضروري الحاصل الآن بين الاثنين، والمتمثّل رمزياً بحصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بل هي مسألة الشعب الفلسطيني كله، وحيث القضية لا تقتصر، ولا ينبغي ان تقتصر، على الدفاع عن بقاء السلطة الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، ولكن عن الفكرة الجوهرية التي دار حولها النضال الوطني الفلسطيني طوال عقود، والمتعلقة بالوجود الفلسطيني حيثما ينبغي ان يكون هذا الوجود، ومثلما ينبغي ان يكون. ما نشهده هذه الأيام يعكس بطريقة واضحة ونهائية ما استقرّت عليه القضية الفلسطينية اخيراً، انتقلنا من مرحلة الدولة الحلم والوطن الحلم الى مرحلة الدولة والوطن الحقيقيين. المقاومة الفلسطينية في الداخل، بما فيها مقاومة الرئيس الفلسطيني نفسه، والتي سنشهد تصاعدها وتماسكها اكثر فأكثر، ترسل باستمرار هذه الرسالة، لم يعد مقبولاً ولا ممكناً محونا. لم يعد ممكناً الإتجار بنا، أو التفاوض باسمنا، أو التلاعب بورقتنا. لم نعد ورقة في يد هذا النظام او ذاك، ولا "الاحتياطي" الذي تستعين به اطراف قريبة وبعيدة لفرض مصلحتها السياسية. القضية الفلسطينية اليوم هي ملك الفلسطينيين وحدهم. وإذا كانت هذه الفكرة، ومنذ دخول السلطة الفلسطينية الى الضفة الغربية وغزة، تترنّح صعوداً ونزولاً وتخضع الى اعتبارات كثيرة داخلية وخارجية، فإن تصاعد الأحداث منذ انطلاق الانتفاضة الثانية وحتى الآن يشهد بأنه بات من المستحيل حتى على الراغبين بذلك التراجع عنها. هكذا تحولت العملية السياسية من مأزق المفاهيم والألفاظ والبنود الى عملية تحررية استقلالية شاملة، بات المفهوم الوحيد فيها، والمصطلح الذي لا يحتمل الالتباس هو: الوطن. الوطن فحسب. كلفة كبيرة دفعت حتى الآن، وليس سهلاً القول إن كلفات كثيرة ستدفع ايضاً، وربما على نحو لا نقدر الآن على تخيّله، لكن الأمل الفلسطيني المتجاوز كل الحسابات، يقضي بقوته وتماسكه وملحميته النادرة بأن هذه ستكون المعركة الأخيرة التي لم يعد فيها نداء الحرية مجرّد شعار، ولا نداء الوطن مجرّد استعارة فارغة. شاعر فلسطيني مقيم في لبنان