أما وقد اختار أرييل شارون "الحل الأقصى" واختارت الإدارة الأميركية أن تسنده بصفاقة منقطعة النظير، فإن الظرف لم يعد مناسباً، في ما يبدو لي، لمراجعة الأخطاء المتراكمة للسلطة الفلسطينية، ولا لترك الخطاب العربي ينساق مجدداً في ردود الفعل العاطفية التي يمتزج فيها اليأس بالمزايدة البائسة. يتعين في هذه الظرفية الخطرة التذكير بأمر رئيسي: ان شارون قد ينجح في كل مشاريعه العسكرية، لكنه سيفشل حتماً من الناحية السياسية، وهذا هو الأهم. لن يقدر بالتأكيد على إسكات الصوت الفلسطيني حتى ان أسكت صوت عرفات، ولن يقدر على فرض النسيان على القضية الفلسطينية حتى ان حاصر مقر السلطة خمسين سنة، فهناك عمق تاريخي واستراتيجي وديموغرافي للقضية لا يمكن لشارون أن يتحكم فيه بالطائرات والدبابات والقنابل بمختلف أنواعها. كما يجدر التذكير بأمر بسيط ومهم: لو افترضنا جدلاً أن شارون سينجح في حملته العسكرية، أليست النتيجة في نهاية المحصلة انه يعود بالوضع الى ما قبل أوسلو، أي الاحتلال المباشر للأراضي الفلسطينية، وإلغاء كل مظاهر التسيير الذاتي الفلسطيني، وإبعاد القيادة عن الجماهير وترك عرفات في وضع المنفي، الى غير ذلك؟ هل هذا وضع جديد؟ هل يعتبر هذا انتصارا؟ هل كان هذا الوضع آنذاك برداً وسلاماً على المجتمع الاسرائيلي؟ وهل فاوضت اسرائيل في أوسلو من منطلقات الرحمة والشفقة بالفلسطينيين أم بسبب أنها كانت تدرك عجزها عن مواصلة تحمّل ذلك الوضع؟ والآن ها أن شارون يعيدها إليه مجدداً، ومن الآن يمكن أن نتوقع النتيجة، وهي انتفاضة ثالثة ستندلع، دون سلطة فلسطينية ودون شرطة، لكنها ستكون انتفاضة ضخمة تعيد استقطاب الاهتمام العالمي بالقضية. لا يمكن أن يفرض الجيش الاسرائيلي على الفلسطينيين حظر التجول التام لمدة سنوات، وفي أول يوم يرفع عن المدن الفلسطينية الحصار ستندلع الانتفاضة الثالثة بالتأكيد. إذا انتصر شارون فإنه لن ينتصر. أما إذا ما فشل في حملته العسكرية الحالية فإن المجتمع الاسرائيلي يكون قد لعب الورقة الأخيرة في خيار العنف، ويفهم حينئذ أن أمن اسرائيل ينبغي أن تُسلك اليه طرق أخرى. ان شارون رجل الماضي، وفي خطابه الذي وجهه الى "الأمة"، مقلداً الرئيس بوش الابن أيام الحرب ضد "طالبان"، قال ان اسرائيل تخوض حرباً جديدة، وأنها ستنتصر كما انتصرت في الحروب السابقة. لكن فاته أن أمراً رئيسياً يميز وضعه عن وضع بوش، ان أميركا كانت تحارب حركة متسلطة بالقوة على الشعب الأفغاني، والجيش الاسرائيلي يحارب سلطة تلتف حولها كل فصائل الشعب الفلسطيني من دون استثناء. كما فاته أمر رئيسي يميز حربه الحالية عن حروب اسرائيل السابقة، هو أن الحرب الحالية لا تخوضها اسرائيل ضد أنظمة وجيوش نظامية، بل تخوضها ضد شعب، وضد المتطوعين الدوليين من أجل السلام، وضد الاعلام العربي والدولي الذي يفضح لحظة بلحظة الممارسات الاسرائيلية بالصور والشهادات الحية. ان الصورة مختلفة جداً عن الماضي، ومن العسير ان نتصور أن جيشاً مهما بلغت عظمته يكون قادراً على الانتصار على شعب أو إبادته. نعم حصل هذا في عهود بعيدة، لكن الثورة الإعلامية للعصر الحالي تحول دون تكرار تلك المآسي. تمثل هذه الصورة غير المسبوقة في المواجهة عنصر الأمل في المستقبل. ينبغي أن يقال بوضوح ان المطلوب اليوم من الأنظمة العربية هو لا شيء، لأننا نفهم جميعاً أنها غير قادرة حقيقة على تقديم شيء، وينبغي أن نشفق عليها من أن نحمّلها أكثر مما تتحمل. يجدر بالعقيد معمر القذافي أن لا يتعب نفسه في تزعم المظاهرات "الشعبية" وبالسيد صدام حسين أن لا يرهق ميزانيته بالمنح المالية التي زعم أنه سيتطوع بها الى عائلات الاستشهاديين، فمبادرات من هذا النوع لا تخدم إلا أصحابها ولا تخدم القضية الفلسطينية في شيء. كل المبادرات ينبغي أن تأتي الآن من المجتمعات المدنية، العربية والدولية. وكل مبادرة مهما صغرت هي اليوم مهمة وتاريخية، فالأعمال الصغيرة هي التي تغيّر وجه التاريخ ومجريات الأمور. حفنة من الصحافيين ومن المتطوعين الدوليين أفسدوا على شارون مشروع التخلص من عرفات وإعادة احتلال الأراضي الفلسطينية في صمت، وحوّلوا هذا المشروع الى أكبر مستنقع اسرائيلي منذ غزو لبنان سنة 1982. لنتذكر آنذاك كيف انتصر شارون عسكرياً وانهزم سياسياً، وهذا سيكون مصيره مجدداً. ولا حاجة بالجيوش العربية، التي لم تتدخل آنذاك أيضاً، بل الحاجة ملحة الى مواصلة الضغط عالمياً لتسقط نهائياً أسطورة اسرائيل المستضعفة التي لا غاية لها إلا المحافظة على بقائها وأمن مواطنيها. ان الصمود الفلسطيني هو أقوى اليوم من كل الجيوش، والمطلوب أن يلتف حوله حزام عالمي من المساندة، تمهيداً لوقائع الانتفاضة الثالثة التي يتنطلق قريباً وسوف يفشل الجنرال شارون في مواجهتها.