على الشاشة الصغيرة، بدا إدوي بلينيل، مدير تحرير أكبر صحيفة في فرنسا لوموند، من خلال نبرته الخانقة وابتسامته المرتبكة، كأنه يعتذر عن وجوده في غير مكانه بما أنه مضطر كسواه للخضوع للعبة قوانين السوق. لكن حديثه المختلف عن كتابه الذي حمل عنوان "أسرار الشباب" وحاز جائزة "مديسيس" للبحث، جعلني أتجه مباشرة صبيحة الغد، لشراء الكتاب. كتاب عن السياسة، لكن من موقع مختلف ومتمايز يرجعها إلى الأصل، أصلها الذي غاب عنها طويلا وجعلها تتحوّل إلى ما يشبه تمريناً رياضياً يفتقد إلى معنى أو إلى عمق فكري. مع إدوي بلينيل، تستيقظ السياسة من سباتها لتقول إنها في جوهرها عالم من القيم والمعاني والأفكار والأحلام، وانها خارج فلكها ذاك، لن تسافر ولن تكتشف أي أرض، بل ستبقى طافية على مياه لا يتعدى عمقها بضع سنتيمترات. ولأنها كذلك، ينبغي لمن يكتبها أن يعود الى اللحظة الأولى التي اقتحمت فيها حياته وجعلته يصبح ما هو عليه. اللحظة الأولى تلك، هي ما يتشكّل منها كتاب "أسرار الشباب". حين بدأنا الحديث عن كتابك الأخير "أسرار الشباب"، قلت انه إكزوتيكي. أنا أوافقك اشلرأي وأرى أنه إكزوتيكي من حيث مضمونه، خصوصاً أنك تذهب عكس التيار حين تتعرّض لموضوع لا يحظى اليوم بشعبية بما أنه يحكي عن ماضيك النضالي وانتمائك الى أحد الأحزاب التروتسكية الفرنسية المعروفة؟ أحب الإكزوتيكية لأنني أعتقد أننا لا نفكّر بشكل صحيح وفعلي إلا عندما نتموقع في مكان آخر مختلف وغريب عن المكان الذي ننتمي إليه. يقول مونتاين Montaigne في كتابه "Les Essais": "يجب أن نفكّر من مكان آخر"، أي أن نفكّر خارج أنفسنا وخارج هويتنا. إذاً، قبل كل شيء، العيش مع الإكزوتيكية والعمل عليها هما نوع من القاعدة بالنسبة اليَّ. يمكنني أيضا ذكر مرجع أدبي آخر هو فيكتور سيغالين، الطبيب العسكري الذي لم يكن ثورياً أبداً وله ندين بآخر لوحات غوغان التي أنقذها من المحرقة، وبكتابه الكبير عن الحضارة الأوقيانية وعن صدمة الاستعمار قبل زوال تلك الحضارة، وبمؤلفات مهمة عن الصين. حين كتب رونسار قصيدته عن الوردة، تمكّن من جعلها تقول أشياء مرتبطة بالانفعالات وبيقظة الحواس، وهي أشياء مختلفة تماماً عمّا قد يقوله فيها عالم نباتي مثلاً. مشروع كتابي مشابه لمقاربة رونسار تلك. قد يبدو في كلامي هذا شيء من الادعاء. لكنني أرى أنني في عملي الأخير تناولت التروتسكية، أي ما كان يشكّل انتمائي الشخصي ضمن ذلك التاريخ السياسي الذي كان حاضراً على الساحة الفرنسية والعالمية آنذاك، كي أتحدث بشكل مختلف عن السياسة. هدفي هو أن أقول إن السياسة ليست برامج عمل أو أشياء باردة فقط وإنها مكوّنة من أفكار ذات نزعة إنسانية. قد تكون هذه الأفكار دافئة، عصبية، باردة أو حسية. منذ الحادي عشر من أيلول سبتمبر، يتساءل الجميع في أي عالم سنهوي. في كتابي الأخير، أشهد على مرحلة جرت في فرنسا وفي نواح أخرى من العالم حيث كانت الثورات وحركات التمرّد أكثر إنسانية، أكثر أممية وانفتاحاً على الثقافات الأخرى، أكثر علمانية وأكثر نسوية بمعنى اهتمامها بمصير النساء وتغيير شرطهن. وبما أن حركات التمرّد تلك أدّت الى خلخلة الأنظمة القائمة في بعض المناطق من العالم لا في مناطقنا نحن وبالتالي أزعجت النظام العالمي، فضّلت اميركا ومن معها، الانحياز إلى التيارات الظلامية والدينية الأصولية لكي تواجهها بها، فتسحقها وتدحرها. النتيجة هي أن عالمنا الحالي يجعلنا نتحسّر على تلك الحركات، خصوصاً بعد أن تحوّل فضاء الحلم واليوتوبيا إلى كابوس مظلم، انعزالي وأصولي، يقوم على كراهية الآخر وليس على رغبة التعرّف إليه والحوار معه. اعتماد "أنا" الراوي في كتابك، المزج بين ذكرياتك الخاصة وقراءتك لتاريخ نضالي سياسي، المزج بين أوجه سياسية وأدبية معروفة كتروتسكي ومالرو وديغول، وسير أسماء مجهولة تنتمي إلى معيوشك الشخصي كوالدك أو عميد الكلية في الجزائر، التأرجح الجميل بين الذاتي الخاص والتاريخي المشترَك، أليست كلها أدوات روائية توفّر لك نوعاً من الحماية إزاء ما قد يثيره الموضوع من ردود أفعال؟ أسعدتني جائزة "ميديسيس" لأنها شكلت نوعاً من الاعتراف بمثل تلك المقاربة التي تجعل من كتابي رواية سياسية، لا بمعنى أنه يروي قصة مؤلّفة، بقدر ما يشير إلى أن السياسة هي أيضاً رواية، أو أنه يمكن تناولها كرواية. حرية التناول بالضبط، هي ما جعلت المقاربة شخصية ومميزة، خصوصاً أن الصحافي أو المناضل السياسي قلّما سمح لنفسه بهذا النوع من "الانحراف"؟ ملاحظتك هي بمثابة إطراء بالنسبة إليّ. لم أرغب بكتابة عمل نظري. هدفي كان معاكساً تماماً. عندما أتحدث مثلاً عن والدي الذي ذكرتِ أو عن عميد الجامعة المنسي، هدفي أن أقول إن امتلاك القناعات والالتزام لن يكونا بالضرورة مرتبطين بالانتماء الى حزب، على عكس ما كان شائعاً في القرن الماضي. هناك التزامات كبرى ونضالات مهمة قام بها أشخاص تمسكوا بقيم وبمبادئ معينة، من دون أن يكونوا من أتباع الفكرة الوحيدة التي يروّج لها حزب أو تنظيم أو مجموعة معينة. بهذا المعنى، ليس كتابي تمجيداً للنضالية، بل لحرية الالتزام. وأعتقد أننا على رغم كل حداثة القرن الماضي، كنا أسرى الفكرة القائلة إن الالتزام مرتبط بالانتماء الى حزب وبأن السياسة تنظيم. أعتقد أن ما يشدّك الى تروتسكي تحديداً هو البعد التراجيدي الملتصق بشخصيته. إنه كالأبطال الإغريقيين في وحدته ووحشته وخساراته التي لم تمنعه من المتابعة والتمسك بقراره الصعب. وما القصص التي توردها عنه في كتاباتك، إلا تأكيد على هذا البعد المأسوي. ما هي حقيقة التزاماتنا في العمق، وخصوصاً تلك التي تعنيني أنا شخصياً والتي تمثلت لديّ بالتروتسكية؟ إنها التزامات الستينات وهي التزامات كونية الى حد بعيد بما أنها كانت هي نفسها في فرنسا، في بيروت أو في كولومبو. هي الأجيال الجديدة التي وصلت والتي تحررت من أشياء كثيرة مرتبطة بتربيتها وبمجموعة من القيم القديمة. في تلك اللحظة بالذات، اعتقدنا نحن في فرنسا أن التاريخ الكبير سيلحق بنا. في النهاية، لم يمر التاريخ الكبير من هنا، بل في أمكنة أخرى كبلدان أميركا اللاتينية مثلاً. المؤسف في الأمر، هو الانتقادات الساخرة التي يتعرض لها المنتمون الى الأحزاب اليسارية المتطرفة في فرنسا حين يُتّهمون بأنهم صاروا في موقع سلطة. لأرد على مثل هذه الاتهامات، كتبت كتابي ولأكسر تلك النظرة. طبعاً لو مر التراجيدي من هنا، لو وقع المأسوي في فرنسا كما حصل في بيروت مثلاً، لما وُجّه إليّ مثل هذا الاتهام. ولكن هناك مبادئ أخلاقية تتجاوز الفكرة الوحيدة وتسمح بالخلاص حين نعيش مواجهة مع أنفسنا خلال حرب أهلية مثلاً. لدي أصدقاء من أميركا اللاتينية خاضوا النضال المسلّح ولم يخرجوا من تجربتهم تلك بأفكار سوداوية أو بذكريات قاتمة، لأنهم يعرفون جيداً أنهم قاربوا الفظاعة. في كتاب سابق صدر خلال حرب كوسوفو، ذكرت حادثاً يتعلق بتشي غيفارا، وفيه أروي على هامش صورته الأسطورية، كيف فرض غيفارا سلطته على الكوبيين كطبيب في بداية نضاله المسلّح وكيف حكم بالموت على فلاح كوبي كان يشكّ بتعامله مع العسكريين. طبعاً لم تُجرَ أية محاكمة وطبعاً كانوا مجموعة صغيرة ومهددة، لكن غيفارا أخذ على عاتقه قتل الفلاح فأطلق رصاصة في رأسه ودوّن ذلك في دفتر مذكراته. هذا الحادث لا يخدم صورة غيفارا الأسطورية، لكن هدفي من روايته كان إظهار الانحرافات التي تؤدي الى تبجيل الموت مثلاً. أنا غريب اليوم عن هذا التفكير أو عن هذه الطريقة في النظر الى الأمور. أعني أني أسعى الى الخروج من الفكرة القائلة إن حركات التمرد خطيرة لأنها تنتج الجحيم أو أنه يجب الامتناع ببساطة عن التمرد. ما أدعو إليه هو إعادة النظر في مفهوم التمرد والقول بوجود حركات أقل سذاجة أو أقل تطرّفاً وبطلاناً، وأن بعضها يسلك درباً إنسانية أو أنه يسعى الى إنقاذ هذه الدرب الإنسانية على الأقل. تقول في كتابك: "هنالك بُعد تراجيدي في كل التزام". أين كانت التراجيديا في التزامك أنت، هل هي في امتناع فرصة ممارسته على أرض الواقع؟ تعطين الإجابة في سؤالك نفسه. هي تراجيديا صغيرة في هذه الحالة. سأبلغ الخمسين من العمر العام المقبل. لكن الواقع هو الواقع ويجب قبوله. يجب أن نقبل العيش كأشخاص كبار ناضجين مع ما لم نتمكّن من تحقيقه. علينا أن نعترف أننا لم نكن على مستوى محنة التاريخ. هل هذا ما جرحك في تصرّف رئيس الوزراء ليونيل جوسبان مثلاً، أن يخفي ماضي نضاله التروتسكي متنكراً بهذا المعنى لالتزام ما زلت أنت تدافع عنه؟ أحيا عملي في صحيفة "الموند" كالتزام مهني. أعني أنني لا أمارس الصحافة كي أكسب رزقي، بل أمارسها من خلال قناعة وفكرة معينة أملكها عن العمل الصحافي. لقد بقيت أنا نفسي وهذا ما لا أستطيع تغييره. هناك أصداء غريبة وصلتني عن كتابي فاجأتني بعض الشيء. منهم من يقول بأنني أنا موضوع الكتاب وموضع الاهتمام بالنسبة إليهم، والبعض الآخر يرى العكس ويعلّق بأنني كنت قاسياً على جوسبان وأنه هو موضوع الكتاب الرئيسي في النهاية. أنا شخصياً، لا أرى كتابي في أي من الموقفين. بالنسبة لي، كان جوسبان رفيق درب خلال عملية الكتابة لأن الهدف كان التحدث عن عذابه. العذاب هذا شعرت به من خلال احتكاكي بزملاء يعملون معي وكانوا ينتمون هم أيضاً إلى التيار التروتسكي نفسه الذي كان هو ينتمي إليه سرياً. هؤلاء قالوا لي إنهم تعرّفوا الى أنفسهم في كتابي ولم يشعروا بأني أحاكمهم. واضح أنك لا تحاكم جوسبان. بل أكثر من ذلك، أنت تتعاطى مع رئيس الوزراء كما لو كان شخصية روائية معقدة التركيب، عميقة وملوّنة. أجل، غير أن المؤسف هو أنه لم يكن على الموعد. أعني أنه لم يظهر كما رسمته. تجتمع الشخصيات التي تتحدث عنها في ثنائيات، فلكل شخصية نقيضها أو مرآتها العاكسة التي تفضح نقاط ضعفها أو قوتها. هناك تروتسكي ومالرو الحاضران عبر قصص لقاءاتهما الفعلية أو عبر الصلة المختلقة التي تقيمها بينهما. وبما أنك حاضر في الكتاب عبر سيرتك السياسية الشخصية، ربما كنت تحتاج أنت أيضاً الى اختلاق نقيضك الذي قررت أن يكون جوسبان؟ أنت على حق. غير أن جوسبان نقيض صامت لأنني على مدار الكتاب أقول إنني أتصوّر وأتخيّل وأفترض أنه كذا وكذا. خصوصاً أنه لم يقل شيئاً رداً على كتابي. لو كنت مكانه لأخذت قلمي وكتبت مقالاً أرد فيه على كل ما ورد في الكتاب. على كل حال، أرسلت له الكتاب وحصل أن التقيت به من ثمة، غير أنه اكتفى بإلقاء التحية ولم يذكر حتى من قريب أو من بعيد أنه استلم كتابي. أنه سيقرأه وأنه سيناقشني ذات يوم في مضمونه. الصمت مطبق، ولكن هذا مرتبط بنفسية الشخص. لا أدري، ولكن وكما أردّد في معرض المزاح مع بعض الأصدقاء، ربما ساعده ذلك على خلع القناع أو كسر الدرع الذي قرر الاحتماء وراءه. أعتقد أن جوسبان لن يتمكن من خوض مستقبله كرئيس محتمل للجمهورية الفرنسية، إلا إذا كفّ عن تورية هذا الجانب من ماضيه وشخصيته. وإلا شكّل ذلك شرخاً كبيراً في صورته السياسية. على كل حال، تبقى قصته غريبة بالنسبة لي، هذه الازدواجية جديرة برواية أو بفيلم سينمائي. اليوم، ما الذي تبقّى من كل التزاماتك وقناعاتك السابقة، وهل تراها ما زالت قابلة للتطبيق؟ لست في موقع يمكنني من تحديد ما بقي قابلاً للتطبيق. كل ما أستطيع قوله هو أنني ما زلت مؤمناً بصرح من القيم لا يتماثل بالضرورة مع اتجاه أو تنظيم سياسي معين ويمكن تحديده بمفهوم النزعة الإنسانية. النزعة الإنسانية ليست كلمة في الهواء، إنها مجموعة من الحقوق التي تنطبق على كامل الأمم. لكن لو أردت الحديث عما بقي من التزامي بطريقة جديدة بعض الشيء، لقلت إنني لا أؤمن بوجود فكرة وحيدة، بل بلحظات نادرة في التاريخ البشري أو في التاريخ الفردي نشعر خلالها أننا معبّأون أو أسرى فكرة وحيدة، كما هي الحال في الثورات مثلاً. أعتقد أنها لحظات تجعلنا نقول بوجوب تواجد الخطر في جوارنا. هذا هو مضمون الوضع الذي يتحدث عنه رونيه شار مثلاً في معرض حديثه عن مقاومته للنازية حين يقول إنه كان مقتنعاً بضرورة التحرّك لكنه كره الرجل الذي أصبحه، أي زعيم حرب مجبراً على القتال. هذه لحظات نادرة في حياة المرء يجب ألا نتمنى تكرارها. الدرس الأول بالنسبة لي والذي علّمتني إياه التروتسكية بسبب طابعها الأقلّوي، هو الإيمان بوجود مجموعة من الأفكار، بضرورة الحفاظ على التنوّع من خلال الابتعاد عن الأحكام المسبقة ومن خلال مقاومة الانغلاق، وبعدم قراءة ما يجري في العالم تبعاً لمنطق أحادي أو لمبدأ تفسيري واحد. القول مثلاً إن المسألة الاجتماعية هي مفتاح كل التفسيرات أمر مرفوض، لأن توليف مجتمع يكون في خدمة العمّال لن يؤدّي إلى تحقيق العدالة والمساواة. تنبغي محاربة البؤس طبعاً، غير أننا لا نخلق مجتمعاً حراً باسم مبدأ المساواة الاجتماعية فقط. إدغار موران الذي أحبه كثيرا يقول إننا ما زلنا في طور ما قبل التاريخ في ما يتعلّق بالفكر السياسي. وهذا معناه واجب إعادة التفكير بالتركيبة المعقّدة للسياسة التي سترينا مثلاً بوضوح أن المساواة في صراع مع الديموقراطية، وأن الديموقراطية في صراع مع الحرية. بعض التروتسكيين الفرنسيين القدامى كانوا يقولون إن الديموقراطية معقدة جداً بما أنها تقوم على تفكير الفراغ والغياب والاعتقاد بعدم وجود فكر وحيد، وإن الحرية قد تتناقض مع مبدأ المساواة. لذلك، مبدأي الأول يبقى التفكير بجذرية الديموقراطية. إذا كنت لم تزل مؤمناً حتى اليوم بفرادة وأهمية الفكر التروتسكي، ما الذي دفعك في العام 1979 إلى وضع حد لالتزامك السياسي؟ السبب مرتبط بجيلي. العام 1979 لم يكن صدفة، بل منعطفاً مهماً جداً. إنه تدخّل السوفيات في أفغانستان، اكتشاف الخمير الحمر ونهاية موجة العالم الثالث. على صعيد آخر، لم أكن موافقاً على بعض المواقف السياسية التي أخذها الحزب التروتسكي الذي كنت أنتمي إليه وعلى رأسها دعمه لدخول السوفيات إلى أفغانستان. طبعاً انسحبت تدريجاً، من دون صخب.