يشتمل كتاب "عصور الأدب الألماني: تحولات الواقع ومسارات التجديد" عالم المعرفة، العدد 278 على ثلاثة وعشرين فصلاً في 478 صفحة. والكتاب من تأليف باربارا باومان وبريجيتا أوبرله. أنجزت الترجمة الناقدة هبة شريف والمراجعة للناقد عبدالقادر مكاوي. يتميز البحث بمقدمتين: أولاهما، للمترجمة، تبحث في منهجية البحث التي حكمت مسار التأليف. وتقرر ان المنهج المتبع هو تفاعل بين المناهج الأدبية المختلفة لأن الحقيقة لا يمكن الوصول اليها من خلال منهج بحثي واحد. أما مقدمة المُراجع مكاوي فتميزت بشمولية العرض في سياق التطور التاريخي للأدب الألماني، مشيراً الى ان تأريخ الأدب يظل اشكالية متجددة مع كل تأريخ لأدب أي لغة. وإذ نظرنا الى الأدب بمفهومه العام أنه "ابن بيئته"، فالكتاب ينطلق من البيئة الألمانية وجرفها الجغرافي في البلدان الناطقة بالالمانية. لذلك، ان الأدب هو في النهاية تسجيل فنيّ لخبرات البشر وتسجيل للتاريخ. كذلك ان تطور شكل النصوص الأدبية يبرهن على التطور التاريخي/ الاجتماعي الذي يعكس نفسه في مسار الثقافة لشعبٍ ما. ان بصيص نور نراه في وسط الظلمات يعطينا نوراً معرفياً يتماهى الى فضاءات رحبة يتحاور الإنسان فيها مع الذات. هذه الحوارية المترجحة بين أدب السلطان في العصور الوسيطة الأولى والثانية، وبين التفلت من القيود الصارمة تثير جدلية التطور - المعرفة، والارتقاء في حياة الإنسان الألماني ونظرته الى الوجود. والأدب الألماني، وإنْ اختلفت مسارات تطوره عن غيره من آداب اللغات الأخرى، لا يعدو الانزياح عن بيئته وسياق تطور أبنائه في رحم الحروب الدينية والنازية منذ "مارتن لوثر" حتى نهاية النازية وانهيار سد برلين في 1989. والنص الأدبي، فارس الساح، يعبر عن ذات الإنسان والمجتمع والثقافة السائدة. فأدب التعويذة ص58 يشير الى المستوى النفس - اجتماعي الذي كان سائداً في المانيا في القرن التاسع. وما نشاهده في الصفحة 60 خير مثال على ذلك. والقصيدة هنا لشاعر مجهول تصور مسألة خلق العالم ووجود الرب الأقوى من الإنسان. ولا تغيب النزعة الإنسانية عن أدباء المانيا في مطلع القرن العشرين 1910 - 1923. ولم تحجب المصالح الاستعمارية الناشئة رؤية هؤلاء الأدباء حول المصير القاتم للعالم. فكانت صرخة المدرسة "التعبيرية" تحذيراً للعالم من زوال المجتمعات بسبب الحروب التي تهدد البشرية. فكانت صرختهم لانقاذ العالم من الفناء هي تغيير الإنسان الفرد لنفسه، والثورة على التقدم التقني والآلي لأنها واجهة حضارية خادعة طغت عليها الأخلاق الزائفة والرفاهية الكاذبة التي تتغذى على الظلم والاستغلال. فهذه الصرخة ومثيلاتها تتتابع في الأدب الألماني في هذه الحقبة، ما جعل الأدباء والفنانين يشقون حناجرهم صارخين بالدعوة الى إنسانية جديدة تؤمن بالمحبة والعدل والسلام، وترفض الحرب والعنف والظلم، وطالبوا بانقاذ ما هو انساني في الإنسان بوساطة الإنسان نفسه، لا بوساطة التقدم التقني والآلة البكماء العمياء. ان أدب المانيا، الموحدة قبل الحرب العالمية الثانية، أو المقسَّمة بعدها، أو بعد اعادة توحيدها بعد انهيار حائط برلين في 1989 يصوّر واقع المعاناة والآلام والطموحات الانسانية لشعب عريق عانى الحروب المتتالية. ان قراءة معمَّقة لهذا الأدب تضيء مساحة ما زال بعضها مظلماً عند القارئ العربي. نقرر ذلك في ضوء مطالعتنا لانعكاس انهيار سد برلين واعادة توحيد الوطن على الأدباء. فعكست أحداث هذه الوحدة على الأدب. وبدأت الأقلام تكتب عن مأساة تقسيم المانيا وبناء السور. كذلك يتضمن أدب هذه الحقبة نقداً حاداً لحال الأدب في المانيا الديموقراطية سابقاً، مع الاشارة الى مساوئ التطبيق الاشتراكي الفاشل، والى جرائم أجهزة الاستخبارات السريّة، والى مناقشة العلاقة الشائكة بين الكاتب والسلطة. ولم يتنصل الأدباء من مسؤولياتهم الذاتية، بل وقفوا وقفات نقدية ذاتية تبدأ بمحاسبة النفس/ الجزء لكي تتوحد النتيجة بنقد المجتمع/ الكل. يعد الكتاب بحق مرآة لمسيرة نهر الأدب الألماني وتحولات أمواجه المتدافعة بالتيارات والاتجاهات المتجددة في عصوره المتعاقبة من خلال المئات من الأعمال المتميزة والشخصيات المبدعة منذ القرن السابع الميلادي حتى العقد الأخير من القرن العشرين. إنّ التعرف إلى محاور الأدب الألماني والقضايا التي عالجها يدخلنا في تفصيلات تعبر عن السياقات التاريخية، والخلفيات السياسية، والاجتماعية، والثقافية التي تمَّ فيها هذا الابداع المتواصل. كذلك يهدينا الى تحولات مفهوم الكتابة الأدبية ووظيفتها وبناءاتها الشكلية والجمالية التي لم تتوقف عن التغير والتطور من عصر الى عصر، ومن أديب الى آخر. ولا بدّ من الإشارة الى ان تجاوز بعض الأخطاء في طبعة ثانية يخلص الكتاب من شوائبه. ففي الصفحة 34 السطر 20 يقول: "وسيطرة النزعة..." والأصح ان نقول: "سيطرت النزعة الوضعية..." لأن تاء الفعل المؤنثة تختلف عن "تاء" الإسم والمصدر. يثير الكتاب فكر القارئ العربي ووجدانه. ويحفزنا على البحث عن النصوص باللغة الأم للاستمتاع بها والنفاذ الى أعماقها لكي نتذوق ما تتضمنه من قيم فنية وانسانية. واللافت، والبشرية تعيش مرحلة الدخول في عصر العولمة الاقتصادية - الاستعمارية الجديدة، ان الأدب الألماني في نهاية القرن العشرين يغلّب النزعة الانسانية على سواها من النزعات معتمداً المحبة والسلام أساساً لتقدم البشرية وخيرها.