الأخطاء المتراكمة التي ارتكبها رئيس فنزويلا هوغو شافيز، عرّضته لمحاولة انقلابية بعد مضي أربع سنوات على توليه منصبه، في حين أن الأخطاء التي ارتكبها منفذ المحاولة الانقلابية بدرو كارمونا حالت دون احتفاظه بالرئاسة لأكثر من 48 ساعة. فمنذ انتخابه رئيساً للبلاد سنة 1998، بغالبية مريحة كانت في حينه نسبة 56 في المئة من الأصوات، جعل شافيز - وهو مظلي سابق في الجيش الفنزويلي - من جاذبيته الشخصية وطروحاته الشعبوية، اسلوبه في الحكم. المصالحة الوطنية والسلام الاجتماعي، لم يعنيا شيئاً له على مدى السنوات الماضية، بل بالعكس عمل على التأسيس لنظام اجتماعي أطلق عليه اسم النظام "البوليفاري" نسبة لبطل تحرير أميركا اللاتينية سيمون بوليفار، مركزاً جهوده على تعبئة مؤيديه في الأوساط الفقيرة، ضد معارضيه من رجال الأعمال والصحافة والكنيسة. هذا التوجه ترتب عليه أداء اقتصادي قام على تدخل الدولة في مختلف القطاعات والنشاطات، ولم تنجُ القطاعات الأخرى الثقافية والتعليمية وغيرها من تدخلات مماثلة. فتبدّت النتيجة منذ السنة الأولى لحكمه، في انخفاض الناتج القومي بنسبة 7 في المئة، على رغم الارتفاع في أسعار النفط الذي يعد المورد الرئيسي للبلاد من العملات الصعبة. ودخلت فنزويلا تدريجاً في حالة من الركود على رغم كونها رابع دولة منتجة للنفط في العالم، فازداد العجز في موازنتها وازداد ايضاً دين الدولة، فيما انهارت العملة المحلية وبدا القطاع المصرفي في وضع هش. ولم يعتمد شافيز أسلوباً أفضل في التعامل مع القطاع الزراعي، فابتكر أسلوباً للاصلاح الزراعي مستوحى من أكثر الأنظمة بدائية، اذ اقتطع جزءاً من أراضي كبار المزارعين لتوزيعها على المعدمين منهم. وتوّج كل هذا بشبكة علاقات دولية معاكسة للتيار، فاحتل مكانة بارزة في اطار صداقاته الرئيس الكوبي فيديل كاسترو والرئيس الليبي معمر القذافي وصولا الى الرئيس العراقي صدام حسين. وعندما بدأ أداؤه يثير تظاهرات احتجاج تدعو الى تصحيح هذا الأسلوب العشوائي في ادارة شؤون البلاد، رد شافيز بشعبويته المعهودة، محرّكاً "الألوية الشعبية" المؤيدة له والموزعة على الضواحي الفقيرة. هذا التحرك لم يسكت الأصوات المعارضة له، ولم يحل دون الاضراب العام الذي شل البلاد على مدى ثلاثة أيام، وتحرك على أثره كبير أرباب العمل بدرو كارمونا، حتى تمكن من اطاحته ليلة 11-12 نيسان ابريل الجاري. لكن مجمل الخطوات القليلة التي خطاها كارمونا خلال الساعات التي تبعت توليه الرئاسة جاءت متعثرة وغير صائبة. فهو، أولاً، دخل الى الساحة السياسية من باب مثير للارتياب ونتيجة تحالف ظرفي وغير طبيعي بين أوساط متناقضة ضمت أرباب عمل وقادة نقابيين وكوادر نفطية وبعض الجنرالات ورجال الكنيسة. من ثم سارع كارمونا الى تشكيل حكومة انتقالية لا صفة تمثيلية لها، وحل البرلمان كما خول نفسه حق تعليق المؤسسات الدستورية المختلفة، كما أقدم على تنفيذ مجموعة من الاعتقالات الاعتباطية التي شملت عدداً من الوزراء والمسؤولين في ادارة شافيز. وفيما كان هدفه بالأساس ازاحة شافيز عن الحكم بسبب تسلطه وهيمنته على كافة أوجه النشاط في فنزويلا، فإنه أعطى أكثر من دليل على أن هدفه الآخر والضمني هو تعليق الديموقراطية. وفيما كان يقدم نفسه على الساحة الدولية باعتباره ومؤيديه الممثلين الحقيقيين للمجتمع المدني الفنزويلي، والمتمسكين بدولة القانون، ظهر في الداخل في صورة الانقلابي الفج والبدائي، مما أدى الى وقوف القطاعات الديموقراطية، غير المؤيدة بالضرورة لشافيز، ضده. وبدلاً من أن يوجه كارمونا ومؤيدوه ضربة للرئيس الذي أطيح، أدت ضربتهم الى إيذاء المعارضة الديموقراطية، فعاد شافيز صباح يوم 14 نيسان ليشغل منصبه الذي حاز عليه عبر صناديق الاقتراع، بدعم عارم من الأوساط الشعبية التي تشكل غالبية سكان فنزويلا وبدعم من قطاعات واسعة في الجيش. صحيح ان الرئيس العائد أفسد بأسلوبه العديد من أوجه النشاط في البلاد لكنه، خلافاً لكارمونا، حفظ للمؤسسات الدستورية مكانتها. وفي الخيار بين رئيس أحمق لكنه منتخب، ورئيس انقلابي وديكتاتوري الميل، قرر الفنزويليون اختيار الأول باعتباره أهون الشرّين. وأظهرت الأحداث الأخيرة انه، وبعيداً عن أقاويل شافيز الثورية، وادعائه أن احتمالات تعرضه لانقلاب عسكري معدومة، فإن المهم في فنزويلا تمثّل في وجود قوى ديموقراطية راسخة، دل عملها على أن زمن الانقلابات العسكرية، الذي كان شائعاً في أميركا اللاتينية، ربما ولى... بمعزل عن شافيز وعن سواه. لكن عودة الأخير لا تلغي التأزم القائم في بلاده والذي يفرض عليه مراجعة شاملة لاسلوبه وتوجهاته. وهو، بدوره، وعلى طريقة المذنب التائب، وعد باصلاح كافة الأخطاء السابقة ودعا جميع قطاعات المجتمع الفنزويلي الى المصالحة في اطار "حوار وطني موسع". كما أكد رفضه كل حملة انتقامية تستهدف مؤيدي الانقلاب، مردداً أن "لا حقد ولا ضغينة" حيال اولئك الذين سعوا الى التخلص منه، بدليل انه ثبّت رئيس أركان الجيش لوكاس رنكون في منصبه، على رغم تخليه عنه خلال محاولة الانقلاب الفاشلة. وفي انتظار استعادته مصداقيته في الداخل، فإن نجاحه في ترسيخ ما يسميه "الثورة البوليفارية السلمية والديموقراطية"، يبقى رهناً بقدرته على إعادة احياء الأوضاع الاقتصادية وإعادة إحلال الثقة لاطلاق الاستثمارات ووقف هجرة رؤوس الأموال.