منذ ان تأكدت العلاقة بين الشرق الاوسط وهجمات 11 ايلول سبتمبر في نيويوركوواشنطن، عم الاضطراب المنطقة لما يرافق كلمة "ارهاب" من تداعيات وشكوك في العالم العربي والاسلامي. ولا يمر يوم من دون ان تتساءل الصحف والحكومات عن "تحديد" معنى الارهاب، في ظل انزعاج عارم من استعماله مجدداً لتغطية السيطرة الغربية على الشرق، وقد جاءت مقالة للرئيس سليم الحص غداة صدور قرار 1373 في 28 ايلول تلخص التساؤلات القلقة التي ترافق القرارات الدولية في هذا الشأن، ولا سيما القرارات المطاطة التي تشرع باب التدخل واسعاً في سيادة الدول باسم "الحرب ضد الارهاب". فمفهوم "الارهاب" متصل في ذاكرة الانسان العربي باستعماله المتمادي لتبرير عنف الحكومات الاسرائيلية المتتابعة، وقد تكرس استعماله العشوائي لدى اشخاص مثل بنيامين نتانياهو الذي بدأ حياته السياسية في السبعينات بتأسيسه لمركز دولي "ضد الارهاب"، ويستمر الى اليوم في حديث ارييل شارون عن كل مقاوم "كمجرم ارهابي" لا مجال سوى اخضاعه بالقوة والدعوة المعلنة الى تصفيته جسدياً. ولا تقتصر شكوك الانسان العربي على الغرب، فالشعوب في المنطقة خاضعة باستمرار لتوصيف اية معارضة بأنها "ارهابية"، في عالم عربي لا يمكن أي حكومة فيه، عدا استثناءات محدودة، ان تدعي بأنها بالغة في مسارها الديموقراطي. وهكذا، باتت كلمة "الارهاب" غطاء مزدوجاً لقهر دولي وداخلي يصعب على أي مواطن صادق ان يقتنع بجدواه في البحث عن العدالة. ومن الناحية القانونية، يواجه توصيف اعمال العنف السياسي بالارهاب صعوبات في العالم اجمع، وليس فقط في العالم العربي، ولا يزال اهل القانون قاصرين عن توفير تحديد واف له منذ ان درج استعمال الكلمة في نهاية القرن التاسع عشر للدلالة الى العمليات الانتحارية التي كانت تقوم بها المنظمات الفوضوية ضد القياصرة الروس. بل كان الفاصل بين السلبي والايجابي قد ضاع منذ استخدمت سياسة "الارهاب" رسمياً من جانب روبسبير خلال الثورة الفرنسية، وفترة الارهاب هذه LA TERREUR تمثل محطة مميزة لجدل واسع في الموضع لدى المؤرخين الفرنسيين في شق اساسي من البحث عن معايير مشروعية العنف و"ارهاب الدولة". وهذه الخلفية المبهمة "للحرب ضد الارهاب" الحالية تبين كيف انها مبنية على غلط اساسي، يضعها في تناقضات وتداعيات امتدت اكثر من قرنين، وقد وجد اصحاب القرار الاميركيون انفسهم امام مأزق تجلى واضحاً بعدما طال الوصف الارهابي منظمات ك "حزب الله" و"حماس" الموجودة على اللائحة المدرجة في التقرير السنوي للخارجية الاميركية، الى جانب دول مثل سورية وكورية الشمالية "الداعمة للارهاب"، في الوقت الذي تتردد الحكومة الاميركية في ادراج هذه المنظمات والدول في سياستها العدائية المفتوحة حتى الآن، فيما ظهر السودان واليمن بشكل مفاجئ من بين المستفيدين الجدد من السياسة الاميركية الرسمية. هذا المأزق النظري لم يمنع جميع القرارات الدولية منذ تاريخه من اعتماد "الارهاب" وصفاً قانونياً لما حدث في 11 ايلول، والجريمة الاساسية التي تترتب عليها النتائج كافة على المستوى العالمي. ومع ذلك، واصلت الاصوات الجدية داخلياً ودولياً تذكرنا بالمأزق العميق المرادف لهذا الوصف: ففي اجتماع استثنائي في 20 ايلول، اكدت المجموعة الاوروبية وجود المشكلة بالاشارة "الى الضرورة الملحة لتفاهم مشترك، ليس فقط سياسياً بل ايضاً قانوني، لما يعنيه الارهاب". وهذا اعتراف معلن بأنه ليس من اتفاق اوروبي على معنى هذه الكلمة، واوروبا أدرى بصعوبات "محاربة الارهاب" لما عانته عقوداً طويلة في مكافحة العنف السياسي داخل مجتمعاتها، فعلى رغم كل التشريعات المعادية للارهاب ANTI - TERRORIST LAWS في العقود الماضية، وجدت الحكومات الاوروبية نفسها مضطرة للحوار والتآلف مع منظمات عديدة كالجيش الجمهوري الارلندي في بريطانيا، او القوميين الباسك والكورسيكيين في فرنسا، بعدما نعتتها الحكومات المتتالية بالمنظمات الارهابية التي يستحيل التعامل معها بسبب اقدامها على تبني العنف ضد اهداف مدنية وعسكرية في الدول المعنية. ونرى وضعاً مماثلاً بتفاصيل مختلفة في القانون الاميركي. فإذا كان الكونغرس الاميركي قد اعطى في قرار مشترك وضعه في 14 ايلول تفويضاً للرئيس بوش يسمح له باستعمال القوة العسكرية "ضد الدول، والمنظمات، والاشخاص الذين يعتبرهم الرئيس ضالعين في تحضير او السماح او الاقبال او المساعدة على الهجوم الارهابي الذي وقع في 11 ايلول 2001"، غير ان الارهاب ليس محدداً بشكل واضح في القوانين الفيديرالية الاميركية، وهي في غالبيتها منحدرة من اعتناق واشنطن لمعاهدات دولية، وجميع هذه المعاهدات مرتبطة بخطف الطائرات او الاستعمال الجرمي لمواد سامة. يتساءل الكاتب تيموتي ارتون آش في دراسة نشرت في ا"نيويورك ريفيو اف بوكس" 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2001 "هل هناك ارهابي جيد"؟، - هذا عنوان المقالة -، ويتناول مثالاً لسؤاله قائد "جيش التحرير الوطني" الالباني المقدوني علي أحمدي، الذي يعمل في جمهورية مقدونيا الجديدة دفاعاً عن الاقلية الالبانية المنتهكة حقوقها تاريخياً. وفي زيارة لأحمدي، عرض عليه آش وصف الكثير من المسؤولين له بأنه ارهابي. أجاب احمدي بهدوء وصوت خافت. كنت انتظر منه ان يقول: "لا، لست ارهابياً بل انا مكافح من اجل الحرية FREEDOM FIGHTER. لكن جوابه كان اكثر عمقاً: "لا يمكن لشخص ان يكون ارهابياً اذا حمل اشارة عسكرية، وحارب من اجل قضية، واحترم معاهدة جنيف ومحكمة لاهاي، وعمل باسم واضح معلن، وكان مسؤولاً عن كل ما يقوم به... وليس ارهابياً من يعمل من اجل الاصلاح والديموقراطية في البلد، ولكي يكون الناس سواسية امام القانون". "طبعاً" يتابع آش، "ليس ممكناً مجرد الموافقة على هذا الكلام، من الضروري النظر الى ما يقوم به هذا الجيش. وليس ممكناً العودة فقط الى جملة سمعتها في اوروبا مراراً وتكراراً في الاسابيع الماضية، ان الارهابي في عين البعض هو مكافح من اجل الحرية بعين الآخرين. صحيح ان هذا الموضوع مليء بالمعايير المزدوجة في العالم. فالأكراد مجاهدون من اجل الحرية في العراق وارهابيون في تركيا، والعكس بالعكس، اذا اختلف مقام الناظر. والتقلبات المستمرة التي نشاهدها في السياسة الغربية مدعاة للجحود. فالارهابي المنبوذ أحمدي يصبح شريكاً فاضلاً في محادثات السلام، في حين يغدو اسامة بن لادن الذي مولته الCIA ضد السوفيات، الارهابي الاول في العالم. والارهابي السابق ام هو مكافح من اجل الحرية؟ مناحيم بيغن يحصل على جائزة نوبل للسلام". هناك مأزق آخر يلازم الموضوع، وهو ما يربطه ماكس فيبر باحتكار الدولة للعنف. وحدها الحكومة، في عبارة فيبر المشهورة، صاحبة حق في استعمال العنف اسلوباً للتعاطي مع الناس، تمارسه كل يوم عن طريق جهاز الشرطة والقضاء. ولكن عندما تشتد الازمة تزداد حدة العنف الى درجة من القمع تفرض السؤال، كما في فلسطين او كشمير او ايرلندا الشمالية او لوس انجليس سنة 1991، عن مدى حق الدولة في احتكار العنف الى درجة تجعلها مساوية في ممارسة الارهاب للعدو الذي تحاربه: هنا ليس الشخص ارهابياً او جماعته، بل الدولة بمقوماتها العميقة الواسعة، والامثلة لا تحصى في تاريخ القرن العشرين الاستعماري عن ارهاب الدولة. ما المعيار في مثل هذه الاحوال؟ الجواب هنا ايضاً ليس سهلاً، ويعيدنا الى الحديث عن المقاومة المشروعة ضد الاحتلال او الاستعمار، بل الى الحق في الثورة ضد الحكومة الطاغية، في حين تستمر الحكومات تلقائياً في اعتبار استعمالها للعنف امراً مشروعاً بهدف "الامن والقانون" وبحثاً عن الاستقرار LAW AND ORDER، ويستمر الثوار في اعتبار انتفاضتهم حقاً مقدساً ولو ارتبط بعضه باستعمال العنف. من الصعب نظرياً تجاوز اي من المأزقين. وليس العنصر الدولي او الداخلي - اي التفريق بين اعمال داخل حدود دولة ما والعمل العسكري عبر الحدود -، ولا سيما في عالم اضمحلت فيه عناوين السيادة والحدود، ليس العنصر الدولي مختلفاً بشكل جوهري عن صنوه الداخلي في معادلة الارهاب واعتماد مفهوم يشفي المنطق من تناقضاته. فلنأخذ ختاماً بعض الامثلة لهذه التناقضات كما تتجلى في النصوص القانونية داخلياً ودولياً. من المعروف، وان كان استعمالها في الاجتهاد نادراً، ان القوانين الجزائية اللبنانية نصت على هذه الجريمة بالاسم، فجاء تحديد الارهاب في المادة 314 من قانون العقوبات اللبناني كالآتي: "يعنى بالاعمال الارهابية جميع الافعال التي ترمي الى ايجاد حالة ذعر وترتكب بوسائل كالادوات المتفجرة والمواد الملتهبة والمنتجات السامة او المحرقة والعوامل الوبائية او الميكروبية التي من شأنها ان تحدث خطراً عاماً". هذا النص يتلاقى مع عدد من التشريعات في العالم لا سيما الفرنسية والانكليزية، وان جاء اكثر توفيقاً، اذ اعتمد في فترة لم تكن عرضة لضغط الحدث اليومي كما بات معهوداً في التشريعات المعاصرة، وقد أقره القانون الجزائي اللبناني سنة 1943. وتلاحظ فيه اركان الجرم المادي - استعمال المتفجرات، منتجات سامة، العوامل الميكروبية - واركانه المعنوية - النية في ايجاد حالة ذعر -، كما نتائجه على المجتمع - احداث خطر عام. ويلاحظ ايضاً انه ليس محدوداً بالتأثير على المدنيين، ولا يكترث للاسباب الدفينة وراء الفعل الجرمي، ولا سيما منها الدوافع السياسية. لكنه لا يخلو من النقيصة الاولى المرتبطة بجميع التحويرات الملاحقة للارهاب، وهي صعوبة فصله عن الجرائم العادية من قتل او تشويه او تسميم او تفجير. وعلى المستوى الدولي كذلك، اخفق القانونيون في دول العالم التي بحثت في تحديد قانوني للارهاب يصلح مرتكزاً لمعاهدة شاملة - وليست محدودة مثلاً باستعمال المواد السامة او مقتصرة على خطف الطائرات، - فكان اقرب ما توصلوا اليه التحديد الذي ورد في تقرير للجنة السادسة في الاممالمتحدة المعنية بتثبيت معايير ومفاهيم القانون الدولي في اواخر سنة 2000. وجاء في التقرير ان الارهاب يشكل "عملاً من الاعمال الجنائية الهادفة الى احلال حالة ذعر في العموم، او في مجموعة اشخاص او اشخاص محددين لاسباب سياسية،... وبغض النظر في أي حال من الاحوال عن ظروف سياسية، فلسفية، فكرية، عصرية، طائفية او اي ظرف آخر يستعمل لتبريرها". هنا يعود الدافع السياسي الى قلب التحديد، فيما تغيب الوسائل ويضعف الهدف، لكن هذا التحديد شأنه شأن محاولات اخرى سابقة او لاحقة، لم يلق نجاحاً - ولا عجب - فإننا لا نرى سبباً في تخطي النقيضتين المشار اليهما - الثورة ضد الظلم في مقابل رفض العنف، والتفرقة بين الشخص او الجماعة وبين الدولة في اجهزتها القمعية -، وهاتان النقيضتان رافقتا العالم الحديث منذ الثورتين الاميركية والفرنسية على الاقل، ونعرف كيف تتمثل جذورها عميقة في الخلافات الفقهية حول الفتنة وشرعيتها في التاريخ العربي والاسلامي العميق. * محام دولي، واستاذ للقانون الاوروبي في جامعة القديس يوسف، بيروت.