يستعيد الاردن الروائي الراحل غالب هلسا 1932 -1989 باعادة طبع رواياته ومجموعاته القصصية ومقالاته النقدية. الناقد العراقي سعيد الغانمي يقدم هنا قراءة في ما يسميه "شخصية الظل البديلة" في كتاب غالب هلسا "زنوج وبدو وفلاحون" الذي صدرت طبعته الاولى عام 1976 وصدر أخيراً في طبعة جديدة: هناك تقنية سردية يمكن ان نسميها ب"نمو الشخصية الظلية"، إذ تلجأ احدى شخصيات العمل السردي الى خلق شخصية ظلية لها، لكن هذه الشخصية الظلية سرعان ما تنمو وتكبر حتى تبتلع الشخصية الفعلية، او في الأقل تنافسها على سرد الأحداث والتصرف بها. ولعل خير مثال على هذه الشخصية الظلية في عمل كلاسيكي يتوافر في رواية اوسكار وايلد: "صورة دوريان غراي". يرسم دوريان غراي في الجزء الأخير من الرواية صورته، لكنه يكتشف ان صورته تنافسه في الوجود، فكلما اتضحت ملامحها فقد هو ملامحه، وكلما بث فيها الحياة، شعر بدبيب الموت يسري في أوصاله. وقد استثمر هذه التقنية السردية الروائي التشيكي ميلان كونديرا في اعماله الروائية والسردية، إذ تخلق شخصياته شخصيات بديلة لها في لعبة مرح لا تتبين مصدر خطورتها في البداية، حتى تفاجأ في آخر المطاف بأن الشخصيات الظلية البديلة هي التي صارت تتحكم بمصيرها الفعلي. وهذه التقنية بعينها هي التي تلجأ اليها مجموعة غالب هلسا القصصية "زنوج وبدو وفلاحون" التي صدرت طبعتها الأولى 1976، وصدرت طبعتها الثانية 2002 عن دار أزمنة، ضمن اصدارات اللجنة العليا لإعلان عمان عاصمة للثقافة العربية. تنطوي مجموعة "زنوج وبدو وفلاحون" على خمس قصص، تتفق الأربع الأخيرة منها في اجوائها، فتجري في وسط مدني في القاهرة، وتطغى عليها اللهجة المصرية، والحياة المشبعة بازدحام المدينة القلق وما يفرزه من مشكلات اجتماعية وشخصية. بينما تنفرد القصة الأولى التي تحمل المجموعة عنوانها باختيار يعيشه البدو، لتنتهي بانتقالة اخرى الى الريف الأردني، ربما لأن الكاتب يطالب القارئ فيها بعقد مقارنة ايديولوجية بين الحياة في الصحراء والحياة في الريف. تحتل قصة "زنوج وبدو وفلاحون" ثلث المجموعة تقريباً، وهي لا تختلف عن قصص المجموعة الأخرى في فضائها المكاني واللهجة المستخدمة فيها فقط، بل تختلف عنها بخلوّها من الشخصية المركزية. ذلك ان هذه القصة لا يوجد فيها بطل مركزي، بل شخصيات متعددة تشترك في ثلاثة افعال رئيسة: مقتل شيخ العشيرة بأيدي الزنوج الذين أساءت العشيرة معاملتهم، وقتل سحلول البدوي لأحد الفلاحين ومحاولته الاعتداء على زوجة اخيه زيدان الذي احتمى بالبدو، ثم قتل زيدان لسحلول، والهرب مع زوجته الى الريف. وعلى رغم حرص الراوي على عدم التدخل الإيديولوجي في مساق الأحداث، وترك الشخصيات تتصرف بحرية، فإن القارئ يخرج بانطباع ان الراوي منحاز لوجهة نظر الريف، ضد وجهة نظر البادية. فالمقطع الأخير من القصة الذي يصور استقبال اهل الريف لزيدان المتعب وزوجته، وهما قادمان على حصان بعد قتل سحلول، يقيم تناظراً ضمنياً بين نمطين من الحياة ولهجتين وثقافتين، يمكن القول إنهما بطلا القصة الحقيقيان. وتعكس لهجة البدو القاسية نمط حياتهم المغلقة: أشوفك مربي جدايل، ما قلت والله غير انك بدوي، وأنت فلاح مقطوع الأصل ص36. بينما تصور لهجة الريف الشفافة تسامح اهلها وطيبتهم: والله ما حد رايح الصلاة في هالسمطة أبونا الله يسامحه ما يقطع فرض لو كانت حتى ثلج ص60. والحقيقة ان الحياد في نقل وجهة النظر على المستوى الايديولوجي واللغوي يخفي انحيازاً من جانب الكاتب الى وجهة نظر اهل الريف، ذلك اننا لا نجد هنا شخصيات مكتملة تنمو ويتابعها الكاتب، بل نجد ثلاثة احداث مركزية في صورة بانورامية شاملة تظهر فيها الشخصيات وتختفي، لتترك في النهاية انطباعاً عن صراع ثقافتين ونمطين من الوجود، هما النمط البدوي العدواني والنمط الريفي المتسامح. وعدم اكتمال الشخصيات، أو لنقل الصورة المقتطعة عنها، هو الذي يمثل انحياز الكاتب لوجهة نظر اهل الريف. وإلا فلماذا يذهب زيدان الفلاح الى أهل البادية ليعيش بينهم، وهو يعلم انهم يحتقرونه ويسمونه "الفليليح". لكن اختلاف قصة "زنوج وبدو وفلاحون" عن بقية قصص المجموعة في اختيارها الصحراء فضاء مكانياً، يقابله تماثل من ناحية البناء في ما سميته ب"الشخصية الظلية البديلة". لكل شخصية من الشخصيات مناجاة فردية يضعها الراوي بين قوسين، تفضح افكارها الداخلية وتداعياتها وأحلامها وترددها في المواقف الحاسمة. لكن هذه المناجاة في لحظة ما تتحول الى شخصية بديلة، تأخذ زمام المبادرة من الشخصية الفعلية لتقرر عنها مصيرها. قرار سحلول البدوي بالاعتداء على زوجة الفلاح جاء من هذه الشخصية الظلية: "الليلة بالمية ألف، مرة الفلاح بحضني" ص37. وقرار زيدان بقتل سحلول، بعد ان تركه منفرداً مع زوجته في الخيمة جاء من هذه الشخصية ايضاً. في القصة الثانية "امرأة وحيدة" التي يتهجم فيها محمود على نزيلة بيتهم الأرملة ام علي وطفليها، ويتركها بعد إشباع رغبته منها، فريسة اعتداء زوجته وأمه، لا تظهر الشخصية الظلية إلا تلميحاً، وفي حلم يقظة يستغرق فيه محمود ص81. الخوف في قصة "الخوف" لا تظهر الشخصية الظلية لدى اسماعيل، بل لدى سعدية. لقد التقيا عند الكورنيش مصادفة، ونما الحوار بينهما فأصبح علاقة ظلت سعدية تكنّ لها أنبل العواطف، بينما اعتقد اسماعيل انها تمثل عليه دور الفتاة البريئة. وبعد انقطاع منها عن زيارته، قالت له انها رأت حلماً في المنام، وأنها تخشى احلامها، لأنها تتحقق. وقد يهجرها ويتخلى عنها ثم تأتي سيارة مسرعة فتدهسها وتموت. لم يصدق اسماعيل الحلم. وبعد فترة جاءت تزوره، وقرعت الباب، وهو في الداخل، ولكنه بقي مصراً على عدم فتح الباب، يئست منه باكية مخذولة وانصرفت، وهو يسمع وقع خطاها على السلم، وصوت سيارة مقبلة في الشارع، ربما ستصدمها بعد قليل. إن أحلام سعدية في هذه القصة، تلعب دور الشخصية الظلية البديلة. في قصة "الهذيان" لن نعرف ان الشخصية الظلية البديلة هي التي تتحكم بالأحداث إلا في المقطع الرابع من القصة، يصحب البطل لعله محمود فيفي من دون ان يعرف اسمها الحقيقي: فاطمة او فريال أو فتحية او سلوى الى اماكن حلمية في شقته وفي البار وفي المقبرة، فيكتشف ان التي اوصدت الباب تريد ان تغلقه عليهما إلى الأبد، وأن القوام الجميل الذي حلم بامتلاكه ينتهي برجل اصطناعية مشدودة من اعلى الركبة. في المقطع الرابع فقط نعرف ان كل ما حدث بغرائبيته لم يحدث إلا لأن البطل استسلم في احلام اليقظة لشخصيته الظلية الأخرى، امام شباك شقة حبيبته. طوال المقاطع الثلاثة الماضية لم تكن هناك شخصية اصيلة ابداً، بل هذيان رجل مسعور غرق في احلام يقظته الكابوسية. ولم يعد امامه من خيار لحل معضلته السردية إلا في اللجوء مرة اخرى الى احلام اليقظة. لقد اصبح الواقع عنده حلماً طويلاً، وانسحبت شخصيته الأصيلة امام شخصيته الظلية البديلة. بطل القصة الأخيرة "خيانة زوجية" كاتب روائي يحاول ان يموّه على رتابة الواقع الذي يعيشه مع زوجته بابتكار واقع ثان بديل دائماً. تسمح له رسّامة جميلة اسمها نادية بأن يزورها، وكلما أطلت لحظة البوح بالرغبة الدفينة في صدريهما، شعر بأنه يتشمم رائحة بوتاغاز. ولم يكن البوتاغاز سوى حيلة نفسية للتملص من لحظة الخيانة. شعرت نادية بتردده المضمر، فقالت له انت سكران، وأوحت إليه بضرورة انصرافه، ولم يكن من التهذيب ان يبقى بعد ذلك. وفي لحظة خروجه من شقتها، أدرك عالمه الآخر، عالم الشخصية الظلية البديلة التي كرس وجوده لها، ففكر أن يعود الى مواصلة روايته "فمن خلالها سيحقق كل شيء، كل ما عجز عن تحقيقه" ص187.