"رسالة إلى صديقي فيرتز" هو عنوان كتاب صدر أخيراً لجان كلود جيراردان. إنه الكتاب الأول لهذا الاستاذ الجامعي المتقاعد، وهو، كما يشير العنوان، على شكل رسالة طويلة يتبعها، في الثلث الأخير من الكتاب، نص يكملها في ما ترويه من سيرة ذاتية، لكنه نص أكثر حميمية وذاتية. الرسالة إذاً موجهة إلى فريتز لام الذي تعرّف إليه الكاتب جيراردان عام 1960 حين هرب الأخير من بلاده فرنسا إلى المانيا بسبب رفضه الخدمة العسكرية في الجزائر. التقى جيراردان فريتز لام قبل أكثر من أربعين عاماً. لم تقم بين الرجلين علاقة صداقة حميمة أو طويلة أو فريدة. لكن جيراردان انتقى لام الذي عرفه في شتوتغارت لفترة قصيرة لأنه وجده، عبر صفحات ذاكرته الشخصية وذاكرة الأحداث التي عصفت بالقرن الماضي في أوروبا، الصورة الأقرب إلى روح النقد الحرة التي جعلت لام يقع في النهاية ضحية كل أنواع معسكرات الاعتقال، وضحية كل أنواع الأكاذيب النضالية التي أخرجته من كافة الانتماءات ومن الحدود كافة. فهو الماني عادى النازية، وهو يهودي لم يهادن الصهيونية، وهو مفكر حر واشتراكي ثوري بلا وطن انتهت به حياته إلى الهرب إلى كوبا المأمولة حيث قضى، حال وصوله، أشهرا طوالا في أحد المعسكرات الخ الخ الخ. يعود جيراردان إلى فترة شباب فريتز لام الذي لم يعرفه الكاتب الا كهلا في الستين. يروي سيرة حياة لام ليختصر قرناً أوروبياً ولد جيراردان قُبيل حربه العالمية الثانية وكأن ذاكرته الشخصية لا تستقيم من دون جذورها الضاربة في ذاكرة لام الشخصية. الذاكرة الغنية التي تنتهي إلى فراغ هي المادة الأولية لهذا الكتاب الآسر. ذاكرة القرن الماضي التي تنتهي إلى فراغ القرن الحاضر هي ما يجعل قراءة هذا الكتاب إنسانية شاملة ولو انه لا يتكلم سوى عن سيرة كاتبه وسيرة فريتز لام الأوروبية. النص الذي يشكل الثلث الأخير من الكتاب هو مشوار شخصي بين الأب والابن. محاولة بائسة لربط الحلقتين كما يتوجب على كل إنسان أن يفعل. بين المقبرة حيث ووري الاب الثرى بحضور الابن الأكبر "المتمرد" الذي طرده الأب من بيته اثر رجوعه من الحرب وعودته إلى صنع الحياة بعاصمية حزينة، والطريق التي يسلكها ذات يوم مع زوجته الخلاسية الغريبة وابنه الفتى، سيدني، الذي يريد أن يورثه تلك الذاكرة المثقلة، ويخاف عليه جداً من هذا الميراث، وسيدني على عتبة زمن جديد يحلم له به خفيفاً ومتخففاً من قرن بغيض. آخر فصول هذا الكتاب - الذي يقبض بقوة على قلب القارئ ويعيش معه كالهاجس - يقع في صفحات قليلة ويروي الأيام التي قضاها جيراردان بين سيارة الاسعاف ومستشفى بروسّي الباريسي، ثم خروجه النهائي من سلك التعليم الجامعي. *** يعد جان كلود جيراردان من كبار المثقفين الفرنسيين، بل الأوروبيين، من دون أن نسمع عنه الكثير أو يكون مشهوراً. إنه "معتزل" بشكل ما بهرج الحياة الثقافية وأضواءها، ولا يرى - في ما يبدو - ضرورة لأن يعلّم أحداً شيئاً عن تجربته المعرفية. علّم في باريس الثامنة وكتب منشورات سياسية - فلسفية وكتب في مجلة "الأزمنة الحديثة" الشهيرة وعرف الكبار من أمثال فوكو وغيره... لم أعرف ذلك من كتابه، بل من المعلومات المكتوبة على غلاف كتابه الصادر منذ شهرين عن دار نشر متواضعة، إذ على رغم أهمية هذا الكتاب وتراثه وأسره لمشاعر القارئ الأوروبي وغير الأوروبي لم أقرأ تعليقاً واحداً في الصحافة أو أسمع نبأ صغيراً عن صدوره أو محتواه في الراديوهات والتلفزيونات... والأرجح ان جان كلود جيراردان كتب هذا الكتاب من أجل ابنه سيدني... فقط. *** من هو سيدني؟ اكتب هذه المقالة لأصل إلى سيدني جيراردان. سيدني هو صاحب رضا، إبني. سيدني يكاد يقيم معنا في البيت. يبقى الساعات الطوال حتى نكاد ننسى وجوده. وقد يخرج رضا من غرفته ويبقى سيدني - في الغرفة - ينتظر عودة رضا وحيداً. نتصل أحياناً برضا ونقول له: لا تنسَ سيدني. إنه ما زال هنا ينتظرك... يخطر لي ولديمة أن نفتح الباب لنرى ما يفعل سيدني وحده، من دون إحداث أي حركة أو ضجيج، فنجده غافياً في السرير أو محدقاً في الحائط يستمع إلى الموسيقى. سيدني هو صاحب رضا منذ سنوات بعيدة ولعله الأقرب إليه، مذ كانا في المرحلة التكميلية، لذا تمنعني محبتي واعتيادي من توجيه النقد اللاذع. فسيدني ترك الجامعة منذ السنة الأولى وهو لا يريد أن يتعلم شيئاً. يخجل من سؤالي حين الح مدفوعة بمحبتي - وهو شديد التهذيب - فيقول متوارياً بسرعة: معك حق طبعاً... ربما السنة المقبلة... حتماً السنة المقبلة. اتساءل أحياناً بالصوت المرتفع أمام رضا - وتتواطأ معي ديمة - ما الذي يعجبك في سيدني يا رضا؟! إنه يثير الضجر... رأسه فارغ هذا الصبي ولا شيء فيه يشد الانتباه... إنه طفولي ويتمرد على "السيستيم" من دون أن يكون لديه فكرة عن شيء... حتى أنه ضعيف في الفوتبول ويغلط في أسماء اللاعبين - الStar... ورضا يتجاهل ولا يجيب عن أسئلة يعتبر أن ليس من حقنا طرحها. كان ذلك قبل أن نعرف أن سيدني هو "سيدني جان كلود جيراردان" الذي كان مَن أصرّ على والده أن يهديني كتابه "رسالة إلى صديقي فريتز"... ربما دفاعاً عن النفس، ليقول لي سيدني إنه "أحدٌ ما"... وان أباه يكتب كتباً أيضاً كما يروي رضا عني... حتى أكف عن أسئلتي السخيفة المحرجة التي تعني دوماً أن سيدني مجرد هواء يسري أحياناً في البيت. قبل جان كلود جيراردان - نزولاً عند الحاح لسيدني - أن يهديني كتابه. تحيّر كثيراً في ما عساه يكتب في الاهداء إلى شخص لا يعرفه أبداً... كان رضا وسيدني يشاهدان التلفزيون ساهيين عن طلب النصيحة والرد على المشورة فكتب الرجل: "اليك هذا الكتاب الأول، تحت أنظار ولدينا الزائغة الجفلة... مع محبتي".