رواية الهنغاري ساندور ماراي "جمرات"، صدرت أخيراً في ترجمة انكليزية في الولاياتالمتحدة الأميركية وبريطانيا وسط اهتمام نقديّ. هنا قراءة في الرواية بقلم الناقد الفلسطيني سمير اليوسف: "اننا نؤنسن ما يجري في العالم وفي نفوسنا من خلال الكلام عليه" تقول حنة ارندت في إطار تقويمها للمفكر الألماني غوتلد ليسنغ، وتضيف: "وفي سياق هذا الكلام نتعلم ان نكون إنسانيين". اما الكلام على ما يجري في العالم والنفس، فإنه جوهر الصداقة بمعناها الوثيق بالمدار العام والسياسة. ولعل هذا هو التفسير الاقرب لدافع اللقاء ما بين هنريك وكونراد في رواية الهنغاري ساندور ماراي "جمرات". ونحن اذا ما استعنا بما تقوله آرندت بخصوص الصداقة- وما تقوله إنما هو إحياء لما قاله ارسطو من قبل - فليس لأن رواية ماراي هذه تستفتي الصلة الانسانية ذاتها، ولكن لأن كلا الكاتبين يحاول إحياء المعنى الاغريقي لمفهوم الصداقة في سبيل فهم او أنسنة العالم الذي كُتب عليه شهود تصدّعه وتفتته وانحداره، اخيراً، الى درك البريرية، النازية والشيوعية. فآرندت وماراي، شأنهما في ذلك شأن كافكا وجوزيف روث وستيفان زفايك وغيرهم من كتّاب المانيا ووسط اوروبا ما قبل الحرب العالمية الاولى، ألفا نفسيهما يقيمان في عالم لم يعودا ينتميان اليه بعد، وهو ما دفعهما الى اتخاذ الولاياتالمتحدة ملجأً يقيمان فيه الى ان وافتهما المنيّة. وساندور ماراي المولود عام 1900 في كاسشو، التابعة الى هنغاريا عهد ذاك، نشأ مواطناً للإمبراطورية النمسوية الهنغارية، وفي قلب عالم اوروبي متعدد الثقافات غنيّ. غير انه سرعان ما وعى تشتت هذا العالم وتفتته الى دول مفرطة الإحساس بهويتها القومية، ومن ثم الى تقلص انتمائه الى بلد واحد، لم يسلم هو نفسه من ويلات الوقوع في قبضة النازية مرة، والشيوعية السوفياتية مرة اخرى. ومثل هذا الوعي إنما يكمن خلف رواية "جمرات" وغيرها من اعمال ماراي الروائية، لا سيما تلك التي وضعها في عقد الثلاثينات. لقد آل العالم الى فساد شامل، بل بربرية، بما يدفعه، تحت وطأة إحساس سوداوي ساحق الى الاستنجاد بالقيم الانسانية العريقة، لا سيما تلك التي ازدهرت في الحقبة ما قبل الحرب العالمية الاولى. ولعل الاحتفاء الذي حظيت به اعمال ماراي، ان في القارة الاوروبية وقد بلغت مبيعات رواية "جمرات" 700 الف نسخة في المانيا وحدها ام في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، انما مرده الى حنين لصورة اوروبا سابقة، وربما بدافع امل الى مستقبل اوروبيّ بريء من حوادث القرن العشرين الكارثيّة العواقب. وبحسب زمن الرواية، فإن اللقاء المذكور ما بين هنريك وكونراد انما يجري عام 1940، اي عشية إقبال اوروبا على افظع حرب عرفتها البشرية. مع ذلك، فإن الرواية لا تشير الى هذا الامر الاّ على نحو عابر. بل انها لا تشير الى جلّ حوادث القرن العشرين الجسيمة الاّ على وجه هامشيّ. اما العالم الذي تردنا اليه فهو ذاك الواقع قبل عام 1899. فإلى هذا العالم ينتمي كونراد وكرشتينا، زوجة هنريك، ونيني، مربيته العجوز. وما القطيعة التي تحدث في علاقاتهم الشخصية في العام الاخير من القرن التاسع عشرّ الاّ بمثابة إيذان بأفول هذا العالم: يفرّ كونراد الى المدار الاستوائي، فيحيا حياة مغامر خاطئ او منفيّ هارب من العدالة، وتموت كرشتينا بعد رحيله بثمانية اعوام. اما هنريك فإنه يخلد الى الانقطاع والعزلة في تلك القلعة الشاهقة، الباقية شاهدة على عصر انقضى، وبمعية مربية عجوز لا تقل دلالة عن القلعة على ان ما تبقى من ذلك العصر إنما فاض عن حده وتجاوز عمره. وهذا سيبرهن عليه تاريخ الامبراطورية النمسوية -الهنغارية غداة الحرب الاولى. "لقد كانت صداقتنا مستمدة من الملاحم القديمة" يقول هنريك مخاطباً صديقه كونراد، العائد بعد 41 عاماً من الغياب. وهذه الصداقة التي يتشبث بها هنريك، ويحاول إحياءها من خلال الكلام على ما جرى في العالم والنفس، ولهي السبيل الوحيد للانعتاق من حال التوحش التي فرضها كل منهما على نفسه طوال هذه المدة المديدة وبلوغ ما هو إنساني. فلأي غرض، بل وأي معنى للقاء صديقين، انقطعا عن واحدهما الآخر أطول ما اتصلا وعاشا حياة مشتركة؟ يزعم هنريك انه يطلب "الحقيقة". فهو ما انتظر لقاء كونراد طوال هذه العقود الاّ لمعرفة الحقيقة في ما يتصل بما جرى بينهم جميعاً، هو وكونراد وكرشتينا. صحيح انه لا يفتقر الى جملة الحقائق المادية التي سبقت حلول القطيعة في ذلك اليوم من تموز يوليو عام 1899، وانه قد ظفر من الوقت ما يكفي، ويزيد، لكي يُدرج هذه الحقائق في سياق سرديّ تقريبيّ لما جرى، غير ان ما يحتاج إليه هو الحقيقة الشاملة والنهائية ينطق بها صديقه القديم. لقد كانا صديقين مخلصين، فلماذا، يتساءل هنريك، حدث ما حدث؟ لماذ عمد كونراد الى خيانته مع زوجته؟ لماذا حاول قتله؟ ولماذا تردد في اللحظة الاخيرة، ومن ثم بادر في اليوم التالي الى الاستقالة من منصبه العسكري والرحيل عن البلاد تاركاً كرشتينا وهنريك يواجهان صدمة ما حدث؟ يتساءل هنريك مستعيداً وقائع حياتهما المشتركة منذ انضوائهما، هو وكونراد، في الكلية العسكرية، وما تلا ذلك من نشوء اواصر صداقة لم تشبها شائبة سوى الفارق البيّن في حال كل منهما المادية. فلقد كان هنريك ابن عائلة ارستقراطية، عريقة، واسعة الثراء، بينما لم يكن هنريك سوى ابن عائلة تصرّ على الانتماء الى الطبقة ذاتها وضمان حصول ابنها على التربية المطلوبة حتى وإن اضطرها ذلك الى حرمان نفسها من ابسط متطلبات الحياة. على ان هذا لم يكن الفارق الوحيد او الحاسم في حياة الصديقين. وحتماً فإنه ما كان بالواعز الذي يدفع كونراد الى اقتراف ما اقترف من خيانة الصداقة والفرار. لهذا يعمد هنريك، الراوي، او بالاحرى المتكلم، في جلّ صفحات الرواية الى التماس تفسير آخر يستند الى حقيقة اختلاف في الطباع والميول اعمق: فلقد كان كونراد ذا مزاج فنيّ، مزاج رجل مستغرق في الموسيقى استغراقاً قد يدفعه الى اطاحة كل ما يوجد. ومثل هذا التفسير يروق لنظر هنريك، طالما انه لا يفسر الكثير وإنما فقط يلامس الغامض الذي ما برح الرجل يجابهه كلما تفكّر بأمر ما جرى. ففي سلوك كونراد ما يثير الحيرة ويبعث على الظن أن خلف هذا السلوك قوة غامضة لا سبيل الى معرفة كنهها. فكونراد لم يكن خائناً، مع ذلك فلقد خانه مع زوجته وحاول قتله. ولم يكن جباناً، ومع ذلك فإنه احجم عن فعل ما كان صمم على فعله وعوضاً عن مواجهة المسؤولية فإنه اختار سبيل الفرار والبقاء في البلاد الغريبة، لا يعود الى موطنه، او الى اوروبا. واذا ما عاد، اخيراً، فكمواطن انكليزي يطمح الى قضاء البقية الباقية من حياته في احدى ضواحي لندن. يزعم هنريك، اذاً، انه يتأمل من هذا اللقاء المتأخر استجلاء الحقيقة، الشاملة والنهائية؟ ولكن اهي الحقيقة ام الصداقة التي يطلب؟ هذا هو السؤال الذي تضعنا الرواية في مواجهته في النهاية وهو بالمناسبة، السؤال الذي تثيره آرندت في السياق المشار اليه سابقاً. فبعدما يتولى هنريك سرد الوقائْع، تتقلص الحقيقة المنشودة الى حدود الاجابة عن سؤالين إثنين: الاول، هل كانت كرشتينا تعلم بأمر اقدام كونراد على محاولة قتله؟ الثاني، هل التوق الى إمرأة ميتة هو المعنى الصحيح لحياتهما؟ غير ان الاجابة عن السؤال الاول لا تكفل الوقوف على الحقيقة بالمعنى الذي يرمي اليه هنريك. اما السؤال الثاني نفسه فما هو، بحسب السرد الذي يسوقه هنريك، سوى نتيجة انتظاره لمعرفة الحقيقة اصلاً. فلو صحّ ان معنى حياتهما لم يكن سوى التوق الى الراحلة كرشتينا، وان هذه هي الحقيقة التي يشاء هنريك بلوغها، فإنها حتماً حصيلة انتظار وترقب لمعرفة حقيقة لم توجد، وما كان لها ان توجد، الاّ مع انقضاء كل تلك الاعوام.