نجوم الواقعية الإيطالية الجديدة في السينما ليسوا مجرد شخصيات عادية اصبحت نجوماً بالحظ، إذ لا بد من ان يكون لدى كل منهم شيء ما يتميز به عن الآخرين يجذب من خلاله الجمهور الذي ما زال يحتفظ عنه بذكريات جميلة. والكثير من هؤلاء نماذج ارتبطنا بمحبتها ونحاول في كل مرة الكشف عن اسرارها الخاصة. وما يقال عن النجوم يقال ايضاً عن عدد غفير من المخرجين وما قدموه من افلام كانت بمثابة دعوة عامة الى المشاهدة والتأمل في واقع التقطته عدساتهم لتقيم محاكم لكل من يمتهن حرية الإنسان وكرامته، وتعلن الاتهام وتصحح الأوضاع. ووجدنا من خلال ما قدمته من وعي اجتماعي ناضج وبأساليب سينمائية مبتكرة ما يمكن اعتباره الثورة السينمائية التي استنهضت الجميع لمعرفة الناس والتعبير عن مشاعرهم وهمومهم وتقاليدهم ونزعاتهم وأهوائهم ومحباتهم بمقاييس سينمائية جديدة، حتى اصبح الكثير من الأفلام الإيطالية مفتاحاً اساساً لتفسير الواقع بواسطة الإبداع. وفي معرض كبير عن الفن السينمائي الإيطالي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحت شعار "روما 1948 - 1959 فنون محلية وثقافة الواقعية الجديدة للحياة الحلوة" افتتحه رئيس الجمهورية كارلو تشامبي في قاعات قصر العروض التاريخي في قلب العاصمة الإيطالية، يؤرّخ بالصور الفوتوغرافية والوثائق والأزياء والعروض السينمائية لأبرز فترة تاريخية نهضت فيها صناعة السينما الإيطالية بعد الخروج من الهيمنة الفاشية التي تحاول العودة من جديد من خلال سياسة إبعاد العناصر المثقفة اليسارية الإيطالية من مواقعها لتحل محلها عناصر من احزاب الائتلاف اليميني الذي يقوده رئيس الوزراء سيلفيو بيرلوسكوني، والتي وصلت الى حد رفض مؤسسات الدولة المسؤولة دليل المعرض الذي قدمته الفنانة الكبيرة ميريام مافاي، بحجة انه يمثل دعاية للشيوعية. وسبقت هذه الحادثة جملة من الإجراءات اليمينية تمثلت بتنحية مدير مدرسة السينما القومية وتعيين احد رجال بيرلوسكوني الذي اختاره من عالم الموضة والأزياء. وأعقبت ذلك تنيحة المسؤولة عن المفوضية الثقافية للاتحاد الأوروبي، ثم استبدال مدير مهرجان البندقية السينمائي بعنصر سينمائي يميني مغمور، وتعيين لوكا باربريسكي مديراً عاماً للمسرح الإيطالي. اضافة الى الحملة التي استهدفت تغيير مدير وكادر ورؤساء القنوات التلفزيونية الرسمية... افلام الواقعية الإيطالية في عقدها الأول كانت تحمل توقاً كبيراً الى الحقائق التي كان يتم تقويم الأفلام على اساس ارتباطها او عدم ارتباطها بها، على اعتبار انها وسيط اخلاقي، اضافة الى قيمتها الفنية المتميزة. فهي ترتبط تاريخياً باستديوهات مدينة السينما "يشيني تشيتا" في العاصمة الإيطالية التي افتتحها موسوليني في 28 نيسان ابريل 1937 لتكون أبرز معامل الأحلام الإيطالية. ازدهار قبل الحرب العالمية الثانية بيع اكثر من 359 مليون بطاقة دخول الى دور السينما التي كانت تنتشر في كل مكان، فأنتجت "تشيني تشيتا" عام 1941 نحو 90 فيلماً، إلا ان الإنتاج تدنى اثناء فترة الحرب في شكل خطير وصل الى حدود الصفر بسبب سرقة الألمان كل المعدات والأجهزة السينمائية. ونقل المخرج الإيطالي فريدي مجموعة من تلك المعدات وآلات التصوير خفية الى مدينة البندقية فينيسيا. إلا ان فترة التحرير والقضاء على الفاشية، دعت القوى الديموقراطية الى انتزاع السينما من احتكارات المؤسسات الفاشية، لإدراكها ان هذا الفن هو اداة تعبيرية حيوية ومهمة، ووسيط حيوي يمكن من خلاله المساهمة في انعتاق الطبقات الكادحة من براثن الفاشية ومؤسساتها التي سخرت الفيلم السينمائي لممارسات النظام وأفكاره. ودعت هذه القوى الى ايجاد سينما تعبر عن حاجات هذه الطبقات المسحوقة لأجل المعرفة وتقويم الواقع الثقافي والاجتماعي والتاريخي. وأسس اليساريون الإيطاليون تعاونيات سينمائية اخذت تنتشر في عموم البلاد. وبرز من هذه التعاونيات كبار مخرجي الواقعية الإيطالية الذين استطاعوا خلال سنوات قليلة ايجاد سينما تتوغل في جوانب مهمة من حياة الناس، ما دفع المسيرة السينمائية الى الأمام شكلاً ومضموناً، بخلاف ما قدمه الكثير من المخرجين الذين خدموا الفاشية امثال الساندرو بلازيتي وكاميرتي وماريو ماتيولي. الناس كما هم كانت اطروحة رائد الواقعية الإيطالية روسيلليني "قبل كل شيء علينا ان نعرف الناس كما هم، يجب ان نحمل الكاميرا وننطلق الى الشوارع والطرقات، وندخل البيوت، إذ يكفي ان نخرج الى اي منعطف ونقف في اي مكان ونلاحظ ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيلماً سينمائياً ايطالياً حقيقياً". كانت تلك الأطروحة بمثابة استنهاض لكل السينمائيين الإيطاليين من اجل تحطيم الحواجز ما بين الفن والحياة، وبالتالي نقل الناس الى الشاشة في ظل ضغوط الحياة وإشكالياتها القاهرة في زمن كانت الفاشية لا تزال تسيطر بمفاهيمها على الواقع الفني وتجرده من محتوياته الأصيلة كرؤية جميلة للعالم والأشياء موازية لوجود الإنسان على الأرض. يومها لم يكتف الفنانون الإيطاليون بحمل كاميراتهم السينمائية للانطلاق في الطرقات والشوارع والبيوت، ما شكل خروجاً كبيراً وجريئاً الى الحياة الجديدة، بل اصبح هدفهم المشترك هو الشعب البسيط الذي كان يعاني الفاقة والانكسار والتسلط. وكان هذا الشعب هو اساس واقعيتهم، فبرز روسيلليني، فسكونتي، فلليني، زفانتيني، ودي سيكا، لترتبط السينما بتقاليدهم الجديدة، وتتابع الواقعية الإيطالية دورتها بإطلاق الطاقات الإبداعية في مجال العمل السينمائي بعد ان ركزت نفسها وبدأت تأثيراتها في الظهور على مستوى السينما العالمية وأنذرت بثورة سينمائية تقودها "تشيني تشيتا" وتحاول اعادة ابداع هذا الفن من جديد في ضوء ما أفرزته السينما الهوليوودية من افلام الغرب ورعاة البقر، وقطاع الطرق، والجاسوسية، والأفلام الموسيقية. فظهرت في إيطاليا الموجة الثانية الجديدة في الواقعية لتحمل على متنها مخرجين وممثلين ابدعوا اساليب سينمائية متميزة ذات تقاليد عريقة تبلورت في مجرى معارك الاستقلال والبناء، فبرزت أسماء فيريري وروزي وبيتري وبونتكورفو ودامياني وسكولا وبازوليني، وانطونيوني وبيرتولوتشي وعشرات غيرهم، ليعطوا السينما سلاحها الفاعل والمؤثر، إلا ان حركة الواقعية الجديدة هذه سرعان ما اصطدمت بالبنى الاقتصادية التي تسارع نموها وازدهارها، فجاء الرفاه الاقتصادي الذي ارتكز على ثلاث دعائم: الأسواق التجارية الخارجية الكبرى، مصادر الطاقة الرخيصة، وقوة العمل الرخيصة، فخرجت البلاد التي كانت بلداً يعمل سكانه في الزراعة اكثر من الصناعة، من علب السردين التي كانت غالبية الناس محشورة فيها، لتحتضن في طريقها السينما الجديدة بما يلائم اغراضها ومصالحها. من جهة اخرى فإن المؤسسات السينمائية الأميركية بدأت تخاف على صناعتها السينمائية من المنافسة الإيطالية القوية، فعمدت الى توظيف رؤوس اموالها على الساحة الإيطالية، لتنتج أفلاماً تاريخية مثيرة، وتقدم اموالاً سخية وإغراءات خيالية للممثلين والمخرجين والتقنيين الإيطاليين، ما أضعف السينما الإيطالية ابداعياً شأنها شأن اي جهاز ثقافي حساس يسقط في سوق رأس المال، وما ظل منها هو ما يسمى بالسينما الثقافية التي تمثل رموزاً قليلة جداً ضمن المجرى العام الإنتاجي التجاري الكبير الذي غرقت به الأسواق في الثمانينات، وهو لا يعدو ان يكون الوريث الرديء لما أنتجته سنوات الخمسينات والستينات الإيطالية. الشيء الذي يفخر به الإيطاليون هو صناعتهم السينمائية. وهم اذ يفاخرون بأنهم انتجوا مبدعين مثل ليوناردو دافنشي ومايكل آنجلو ودانتي وجيوتو وألبيرتي وبوتيشيللي وبوكاتشيو وبيترارك وبيرانديللو ومونتاله وكوزيمودو وكالفينو، يفخرون ايضاً بأنهم انتجوا فلاسفة فن السينما امثال روسيلليني وأنطونيوني وفلليني ودي سيكا وبازوليني وفسكونتي وروزي، ونجوماً سينمائيين امثال توتو وألبيرتو سوردي ومارشيلو ماستورياني وجان ماريا فولنتيه وأوغو تانياتسي وجينا لولو بريجيدا وصوفيا لورين وآنا منياني وإدواردو دي فيليبو وكلاوديا كاردينالي وفيتوريو كازمن، وعشرات غيرهم باعتبارهم جانباً اساساً من ثقافة عصرنا الراهن وينبوعاً من ينابيع الإبداع تخرجوا في "تشيني تشيتا" المركز الأكثر سخونة في عموم اوروبا والذي بهر العالم بأفلام لا يزال العالم يطلق عليها اسم الروائع.