كرر الرئيس الأميركي جورج بوش مراراً كلامه عن "الفرصة الذهبية" التي وفرتها ضربة 11 ايلول سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن لنشر "افكار الحرية" في آسيا. فما المقصود بأفكار الحرية وهل تعني تغيير الأنظمة وكسر الخصوصيات الثقافية وإعادة دمجها بالمنظومة الامبراطورية الجديدة ضمن افق احادي الجانب وهيمنة القطب الواحد؟ وما المقصود بالفرصة الذهبية وهل يعني الأمر ان ضربة 11 ايلول هي مناسبة فريدة من نوعها وفرها الخصم الإيديولوجي لتبرير سياسة السيطرة الكلية على منطقة استراتيجية تعتبر تقليدياً قلب العالم آسيا الوسطى ومن يسيطر عليها يتقدم للسيطرة على غيرها؟. السياسي والمفكر السوداني محمد ابو القاسم حاج حمد يبحث في تلك العلاقة بين الطرفين وهو ما يسميه "المواطأة" العفوية بين الفعل المبدئي والتوظيف الاستراتيجي. وهنا حلقة ثانية. لماذا استهدفت افغانستان من دون غيرها بهذه الفخاخ الأميركية منذ استدراج الاتحاد السوفياتي للتدخل في عام 1979 وابتعاث ظاهرة المجاهدين ثم استدراج تنظيم القاعدة لتفجيرات 2001 وتدخل اميركا وحلفائها عسكرياً في افغانستان من بعد تشكيل حكومة موالية؟ هنا نلتفت الى قضايا استراتيجية عدة: اولها: وضع افغانستان الجيو - سياسي كمنطقة فراغ استراتيجي متداخلة مع كل من آسيا الوسطى من ايران غرباً وإلى الصين شرقاً وبمحاذاة الجمهوريات المطلة على بحر قزوين الغني بثروات النفط والغاز والمجاورة لروسيا جنوباً، ومتداخلة مع الهند كشمير شمالاً وباكستان غرباً. ونظراً لمميزات هذا الموقع، وقعت روسيا القيصرية مع بريطانيا، التي كانت تحتل افغانستان، اتفاق 1907، الذي قضى بتفاهم الدولتين على سياسة افغانستان الخارجية بما يعني تحييدها واستمر التحييد طوال الحربين العالميتين. بل واستمر "عرف" التحييد الأفغاني قائماً حتى في ظل التدخل السوفياتي في افغانستان 1979 - 1989 اذ لم يمد الكرملين نطاق عملياته العسكرية لتهديد باكستان ضياء الحق 1977- 1988 التي وفرت قواعد الإسناد اللوجستي للمجاهدين الأفغان، إذ كانت بيشاور ومناطق القبائل البشتونية المشتركة بين افغانستان وباكستان هي القواعد الخلفية للمجاهدين. ولم تشكل من خلال الحكومات المالية لها حلفاً استراتيجياً مع الهند لتغيير النظام الباكستاني وبالذات بعد وصول صواريخ ستينغر الأميركية عبر باكستان الى المجاهدين الأفغان. بقيت افغانستان منطقة محايدة وعازلة حتى في ظل الاتحاد السوفياتي، الذي لم يستثمر مميزات افغانستان بمنطق "هجومي" ضد الآخرين، وإنما اكتفى فقط بإبقائها تحت قبضته بمنطق "دفاعي" فوّت على الآخرين سانحة استخدام افغانستان ضد امنه الاستراتيجي كيفما اراد من قبل السردار داود خان حين دفعه السفير الأميركي للتنسيق مع ايران الشاه وباكستان الجنرال ضياء الحق لضرب طوق اميركي على الاتحاد السوفياتي من جنوبه. وهو طوق كان سيماثل طوق الأطلسي المضروب عليه من غربه، فالغزو السوفياتي لأفغانستان ابقى عليها حياديتها. ثانياً: أنه بعد تفجيرات 2001 انطلاقاً من افغانستان - على حسب المخطط الأميركي المسبق - وهيمنة اميركا وحلفائها، عسكرياً وأمنياً، عليها وتشكيل حكومة موالية بعد اغتيال اسد بانشير احمد شاه مسعود بتاريخ 9/9/2001 اخرجت افغانستان من حياديتها وتحولت الى أداة في يد المخطط الأميركي لفرض الهيمنة على كافة دول آسيا الوسطى، وللضغط على ايران التي جُمعت مع العراق وكوريا الشمالية في "محور الشر" وعلى باكستان نفسها التي أُخضعت للابتزاز الهندي والأميركي. هكذا ومن خلال افغانستان يكتمل الطوق المحاصر لروسيا جنوباً، وفي موازاة الطوق المحاصر لها غرباً. ثالثاً: انه مما اغرى السردار محمد داود خان بخرق حياد افغانستان، ومما اغرى اميركا حالياً بخرق هذا الحياد وتوظيف افغانستان ضمن استراتيجية الهيمنة في وسط آسيا. ان الحياد الأفغاني لم يؤسس على قواعد او بنية اجتماعية وسياسية وحضارية تحميه داخلياً كما هو عليه حال سويسرا، فالتركيبة السائدة قبلية متخلفة والنظام الملكي مع كل المواصفات الدستورية التي اخذ بها منذ الخمسينات في عهد محمد ظاهر شاه كان "فوقياً" محكوماً بحلف من العائلات التي عزلت حتى المثقفين عن الصفوف العليا للدولة. وانعكس هذا بدوره في افتقاد التنمية الأفغانية الاقتصادية وقواعدها الاجتماعية والفكرية للكادر المؤهل على رغم تدفق المعونات من الاتحاد السوفياتي والولاياتالمتحدةوالصينوبريطانياوالهند. لذلك لم تستطع حيادية افغانستان ان تستثمر حتى ظروف الاضطرابات من حولها بوصفها بلداً محايداً، فلم تتدفق إليها الرساميل الهاربة من الثورات في ايران، سواء على ايام ثورة مصدق عام 1950 - 1953 وتأميمه للنفط وثورة الخميني وطرد الشاه مرة اخرى عام 1979، أو حتى متغيرات باكستان وانقلاباتها. فالبنية الأفغانية لم تتأهل في اطار حيادية البلاد لامتصاص منعكسات هذه المتغيرات "كملاذ آمن". هكذا بقيت البنية الداخلية هشة مما سهل في النهاية تجاوز حيادية افغانستان نفسها وذلك عبر الفخ في عام 1978 ثم الفخ الثاني في 2001. رابعاً: انه من بعد انسحاب الاتحاد السوفياتي في عام 1989 لم تعد افغانستان الى الحياد بقدر ما عادت الى ما هو أسوأ من الفراغ الاستراتيجي وبالذات بعد حروب فصائل "المجاهدين" فيما بينهم وسيطرة "طالبان" من دون اي رؤية استراتيجية أو حضارية، ما جعل من افغانستان "بلداً مستباحاً" تعجز عن ضبطه ولا تستطيع ان تؤثر على ساحاته حتى أقرب البلدان إليه كباكستان وإيران. ولهذا تم اختياره للفخ الأميركي مجدداً عام 2001. فاستمرار افغانستان وتجنيبها "الفخاخ" مرهون بالحفاظ على حياديتها بمعزل عن الصراعات الإقليمية والدولية وقيام سلطة وطنية و فاقية مع اعادة البناء والتأهيل. الخطة الأميركية لاحتواء العالم تكرر الولاياتالمتحدة، وبعد تفجيرات 11 ايلول سبتمبر 2001 النهج نفسه الذي بدأت به حين نصبت الفخ الأفغاني عام 1978 ثم حاولت تزعّم "حلف دولي" ضد الغزو السوفياتي لأفغانستان. ومارست هذا النهج ايضاً في حرب الخليج الثانية حين استدرجت العراق لغزو الكويت، ولم تتدخل قبل الغزو ولا أثناء الغزو ولكن بعده، ثم دعت وقتها "لتحالف دولي" تحت زعامتها. وبما ان السابقتين "الفخ الأفغاني" في عام 1978 و"الاستدراج العراقي" في عام 1990 تشيران الى "مخطط متعمد" فإن الفرضية تنطبق حتماً على تفجيرات ايلول داخل اميركا نفسها. ان المقصود اميركياً من الفخ الأفغاني الثاني هو السيطرة على قلب العالم آسيا الوسطى بذريعة "مكافحة الإرهاب". وما أسامة بن لادن سوى ستار دخاني لنيران تشتعل. فالأمبراطورية الأميركية الآخذة بخناق العولمة لم تعد تقبل من كل قوى العالم حتى مجرد التنسيق والتوازن معها، وإنما الهيمنة المطلقة وهذا ما يحدث اليوم، فأميركا لم تعد تكتفي بوراثة اوروبا وشراكتها، ولا بملء الفراغ الناتج عن تفكيك الاتحاد السوفياتي، وإنما تريد الهيمنة المطلقة كقطب عالمي أحادي. بل إنها لا تقبل من الآخرين الذين تدعوهم لتحالفها الدولي ضد الإرهاب مجرد التحالف معها فقط بل تمضي للهيمنة على هذه الأنظمة من داخلها وإلحاقها بنظامها هي. فالذي ينقص اميركا ليس هو قيادة العالم، فهذا متحقق لها في الواقع ولكن إلحاق العالم كله بنظامها حتى تستوعب العالم استيعاباً كلياً كضمان لهيمنتها. فلم تعد المسألة بالنسبة إليها ان "تملأ الفراغ" السوفياتي أو أن ترث أوروبا وتشاركها. فهذه مرحلة تم تحقيقها، ولكن الأهم هو ضبط العالم ضمن مواصفاتها ومقاييسها للتحكم فيه داخلياً وليس خارجياً أو من فوق، اي انها تريد سيادة نظامها كضمانة لها وليس سيادة قوتها. فسيادة القوة تخضع للمتغيرات متى اختلت الموازين ولكن سيادة النظام تعني الهيمنة المطلقة. جاء النظام الأميركي ليمارس هيمنته الامبراطورية في ظل عولمة تعطي الآخرين ما كان حكراً لها وعليها من ثورات فيزيائية وبيولوجية وكيميائية، فمن بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي وإجهاض برنامجه النووي وأبحاثه الفضائية والإبقاء على ما تبقى ضمن نظام شبه ليبرالي لم يستقر بعد، ولكنه ليس ايديولوجياً منافساً، تمتد خبرات الثورات العلمية الى الهند وإيران وباكستان وكوريا الشمالية وربما الى ارجاء اخرى من العالم. كما تتجذر ثورات الاتصالات وتقانة المعلومات حتى على ادنى مستويات الفقراء في العالم، ويتوازى ذلك مع نشاط الشركات الكبرى المتعددة الجنسية والعابرة للقارات والباحثة عن مصالحها الذاتية، وتتعدد مصادر التمويل العالمي وتتنوع على رغم محاولات البنك الدولي لإحكام قبضته او محاولات الصندوق الدولي لفرض وصايته، بل انه حتى هيئة الأممالمتحدة لم تعد تلك المؤسسة الدولية المفضلة لأميركا. إذاً، فكبح جماح العالم في ظل العولمة هو مهمة اميركا الامبراطورية الأساسية لتقرر للعالم بمختلف قواه، ما ينبغي له ان يفعله وما لا ينبغي. بذلك تتحكم الامبراطورية الجديدة في مقومات العولمة التي تعتبرها وليداً لها وحكراً عليها. ولا تقوم اميركا بهذا الدور إلا عبر الهيمنة ايضاً على اقتصادات العالم، وبالكيفية الابتزازية نفسها التي مارستها في حربي الخليج. هذه هي وجوه التحكم الأميركي المطلوب في العولمة والعلم والاقتصاد ضمن استراتيجية القطب الواحد. غير ان التحكم في هذه الأوجه يتطلب انظمة سياسية متكيفة مع ضرورات الهيمنة الامبراطورية، إلحاقاً أو تنسيقاً أو تحالفاً. هنا تتدخل اميركا بالضرورة في طبيعة هذه الأنظمة، في ايديولوجياتها وثقافاتها حتى تنفي عنها اي خصوصية او ذاتية تدفع بهذه الأنظمة لخيارات او مواقف مستقلة. هنا تستخدم اميركا سلاح العولمة الذي يفكك هذه الخصوصيات الذاتية، ايديولوجية او حضارية او ثقافية، انها تريد انظمة كنظامها الذي يجمع بين الليبرالية الفوقية والنفعية. فكل نظام مركب على موقف ديني او قومي أو ايديولوجي يتناقض مع النظام الليبرالي البراغماتي الأميركي ويفضي الى خيارات مستقلة سيكون خطراً على التحكم الامبراطوري. في ظل هذه الرغبة الجامحة للهيمنة الأحادية والمتكاملة على العالم، عولمة وعلماً، وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، وكذلك سياسياً، وبترسيخ واضح للواقعية البراغماتية والحرية الليبرالية، وجدت واشنطن انها في حاجة لما هو اكثر من وراثة اوروبا وشراكتها على المستوى القيادي ولما هو اكثر من ملء الفراغ السوفياتي، ولهذا كانت ضربة 11 ايلول الماضي. وبحكم مميزات الموقع كان الانطلاق من افغانستان وتفعيل فراغها الاستراتيجي بما يؤمن السيطرة على آسيا الوسطى، فمن سقف العالم تطل اميركا على العالم، فبعد ان بدأت المسرحية بالثأر من بن لادن وطالبان امتدت لمكافحة "محور الشر" في ايرانوالعراق وكوريا الشمالية، ثم باتجاه القرن الافريقي ومنطقة البحيرات الاستوائية، وما بين ذلك دمغ كل الحركات الجهادية والاستقلالية بالإرهاب. الذين انساقوا لهذا المشروع الامبراطوري ونظامه العالمي الجديد أوروبياً، انساقوا له عن وعي، فأميركا ستوفر نيابة عنهم موارد السيطرة على العالم وهم بعد شركاء ومن مؤسسي الليبرالية البراغماتية، وهم الذين ورثت عنهم اميركا المتغيرات التي احدثوها في العالم الثالث، ثم انه لا تحفظ كبيراً على استقلاليتهم وسيادتهم طالما انهم حلفاء لأميركا ويمارسون دورهم في ظل عولمة شاركوا في صنعها، ثم ان الموقف الأميركي وانتفاء المنافسين يخفف عنهم اعباء التسلح مع ضبط اميركا لتسلح الآخرين، اما بريطانيا فإنها مؤيدة بالمطلق للموقف الأميركي لأن ترسانتها النووية اميركية. والذين انساقوا لهذا الموقف ايضاً في روسيا انما يقدرون ان اميركا ستلعب الدور الذي كان ينبغي لهم ان يلعبوا لولا حاجز القدرات في جمهوريات آسيا الوسطى المتمردة - سراً وجهاراً - بقومياتها ودينها. وكذلك في باكستان وأفغانستان. اما الصين فقد استجارت بحكمتها التقليدية ولاذت بالصمت لأنها تدري، وتنتظر وتترقب. اما الذين انساقوا من المسلمين وغير المسلمين، ولو أبدوا بعضاً من "التحفظات الخجولة"، فإنهم ينظرون للأمر كسوابق حربي الخليج الأولى والثانية، ولم يطلبوا مقابلاً سوى تسوية اوضاع الفلسطينيين في مقابل مشاركتهم في الحلف الدولي لمكافحة الإرهاب. هؤلاء لم يتنبهوا جيداً ان الأمر يتجاوزهم هذه المرة الى طبيعة الأنظمة نفسها لتحويلها الى انظمة ليبرالية براغماتية متدامجة مع اسرائيل في سوق شرق اوسطية واحدة، ومن يرفض تنسحب عليه اتهامات "اللادنية - بن لادن" اسوة بمن نالتهم "المكارثية" باتهاماتها في اميركا من قبل. لم يسأل هؤلاء لماذا تدعوهم اميركا لحلف دولي جديد وهم متحالفون معها اصلاً؟! ولماذا تكال الاتهامات لأسامة بن لادن وهم اكثر الناس معرفة به وبمعاونيه وبقدراتهم؟ وكذلك هم اكثر الناس معرفة بطالبان وطلبتها؟ وسايرت السلطة الفلسطينية التوجه الأميركي تبرئة لنفسها من تهمة الإرهاب وطمعاً في موقف اكثر ايجابية تجاه مطالبها، وحذراً من سابقة وقوفها مع النظام العراقي في حرب الخليج الثانية ولكن هذا الموقف لا يؤهل السلطة الفلسطينية لأكثر من الالتحاق بالعولمة الأميركية في ظل اسرائيل. فهل كان لأميركا ان تكتشف بدائل عن هذا النهج لدورها الامبراطوري العالمي الجديد؟ يبدو السؤال اكثر من افتراض، إذ انه يقدر لدى قادة اميركا نوعاً من الحكمة توازي دورهم العالمي الجديد. فبمقدورهم بعد وراثة اوروبا ومشاركتها، وملء فراغ الاتحاد السوفياتي وتسوية الأوضاع مع الصين وإمساكهم بأهم الأوراق في الشرق الأوسط، بمقدورهم - بعد كل ذلك - تفعيل دورهم العالمي عبر امكانات التنسيق ومن دون افتعال حرب مع الخصوصيات. غير ان دوافع الهيمنة المطلقة على العالم حدت بهم لما هم عليه الآن. إذن جاء الدور الآن علينا، مسلمون عرباً وغير عرب، انظمة ومعارضة، حكاماً ومحكومين، وبمعية كل العالم الثالث، النامي منه والمتخلف، فإذا كنا علمنا ما هم فاعلوه بنا فماذا نحن فاعلوه بأنفسنا وبهم؟ صعدت الأمبراطورية الجديدة الى قمتها في ظل عولمة جديدة، بخلاف الموروث الإمبريالي الأوروبي السابق، إذ لا تكتفي الامبريالية الجديدة بالهيمنة على العالم كما هو وإنما تريد تفكيكه ليتكيّف مع نظامها الليبرالي البراغماتي بمنطق التبعية المطلقة، هذا من ناحية، ومن ناحية خرى فإن الامبراطورية الأميركية الجديدة لا تقر بمنطق التنافس والتوازن مع الآخرين وإنما تأخذ بأحادية الهيمنة، ولهذا لم تكتف بمنطق الوراثة والشراكة مع اوروبا ولا بمنطبق ملء الفراغ السوفياتي. اما جدة العولمة على غير سابقاتها منذ منتصف القرن التاسع عشر فترجع الى الثورات الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية بعد ما مضى من ثورات صناعية شكلت الأساس للعولمة الأولى التقليدية التي اقتصرت منجزاتها على أوروبا. لماذا اختارت اميركا ستار مكافحة الإرهاب "المصيدة"؟ سبق ان اختارت الأمبراطورية الأوروبية التقليدية ستاراتها الدالة على طبيعتها بداية برسالة الرجل الأبيض الحضارية، وسارعت لإنشاء الطبقات الحديثة في المجتمعات التقليدية المستعمرة لتكون متماهية معها ووكيلة عنها، وتحدت الشيوعية بشعارات الرأسمالية، ثم أصدروا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10 كانون الأول ديسمبر 1948 بمواده الثلاثين التي صيغت ضمن مشروعية الفرد الليبرالية الغربية بوجه كل ما هو شمولي، دينياً كان أو شيوعياً. اما جدة المشروع الامبراطوري الأميركي فإنه وإن استند الى موروث المشروع الأوروبي التقليدي - بما في ذلك عنصرية السيادة للرجل الأبيض حتى داخل الولاياتالمتحدة عملياً بخلاف ما هو نظري - فإنه اضاف الى ذلك تفكيك القيم بمنطق العولمة الجديدة، بادئاً لا بمجرد العقائد والأفكار ولكن بالسياسة والاقتصاد، وهنا المصيدة الإيديولوجية الكبرى. بطرحها لستار "مكافحة الإرهاب" اختصرت اميركا الطريق لمشروعها الليبرالي البراغماتي، وبطرحها لستار "التحالف الدولي" اختصرت الطريق لهيمنتها الأحادية على العالم. فتعريف الإرهاب هو في حقيقته مشروع ايديولوجي تماماً كتعريف حقوق الإنسان الغربي في مواجهة الأديان والشيوعية. وعلى اساس هذا التعريف يقوم التحالف الدولي لتحديد المنظومة العالمية المنضوية ايديولوجياً لهذا التعريف تماماً كمنظومة "العالم الحر". وراجت محاولات التعريف وستروج يوماً بعد يوم العالم بأسره، فهناك اسس ايديولوجية ودينية وقومية للتعريف، ويأتي التعريف سياسياً تبعاً لذلك، ولم يستبصر الجميع "الورطة الفكرية الكبرى" بعد، فما تعرّف به اميركا الإرهاب هو بالنسبة الى غالبية المسلمين عين الجهاد وخصوصاً في الأرض المقدسة. ابتدأت معركة هذا المفهوم الآن تطبيقاً على مشروعية الجهاد - النضال الفلسطيني ضد إسرائيل، وهي الحليف الاستراتيجي لأميركا، إذ تحاول الأنظمة العربية ان تنال اعترافاً بمشروعية النضال الفلسطيني بمعزل عن تعريف الإرهاب، وذلك في مقابل ما يُسهل على هذه الأنظمة مساندة المشروع الأميركي من دون ان تطالها نقمة ضميرها القومي والديني ونقمة شعوبها، اما الورطة الأميركية هنا فإن اعترافها بمشروعية النضال الفلسطيني بمعزل عن تعريف الإرهاب فسيعني تطبيقها لكل ما سبق ان صدر من قرارات دولية لمصلحة الفلسطينيين بما في ذلك اقامة دولتهم المستقلة، وهو امر يمكن ان تقبل به إسرائيل نسبياً وليس مطلقاً، سواء بصيغة كونفدرالية تجمعها مع اراضي السلطة الفلسطينية والأردن، أو صيغة استقلال شكلي. والصيغتان ليستا كافيتين لإيقاف الجهاد - النضال الفلسطيني خصوصاً ان له أبعاداً وامتدادات وأعماقاً ايديولوجية ودينية وقومية. لذلك شكلت هذه الورطة الايديولوجية اولى معارك تحديد مفهوم الإرهاب في مقابلته لمفهوم الجهاد نتج عنه تحذير إسرائيل لأميركا بألا تقايض الموقف العربي ببيع اسرائيل وأمنها كما فعلت حكومة تشمبرلين البريطانية حين قايضت تشيكوسلوفاكيا بتفاهمها مع هتلر. هنا تكمن الورطة الحقيقية للمشروع الأميركي عربياً وإسلامياً، فلكي تندرج الأنظمة في المشروع الجديد لا بد لها ان تنال مقابلاً فلسطينياً لتسهيل قبولها للمشروع امام شعوبها على الأقل، وسبق ان كانت الضفة الغربية تحت الحكم الملكي الأردني وسبق ان كانت غزة تحت الحكم الملكي المصري ولم ينل الفلسطينيون في الحالين حتى حقوق الحكم البلدي. غير ان المقابل الفلسطيني المطلوب لا يمكن ان ينتج إلا عن تعقّل اسرائيلي، والتعقل الإسرائيلي يفترض بدوره مقابلاً عربياً ودولياً وفلسطينياً، فالمقابل العربي - أدناه - من وجهة النظر الإسرائيلية التطبيع الكامل، وللتطبيع الكامل بدوره منطقه الإسرائيلي، ومن لا يقبل به سيكون وقتها اما ارهابياً أو مسانداً للإرهاب. وهناك من تحول اوضاعهم الداخلية دون التطبيع الكامل. وهناك من تحول اوضاعهم الاستراتيجية دون التبيع الكامل إلا بشروط تبدو متعذرة. اما المقابل الفلسطيني - فأدناه - من وجهة النظر الإسرائيلية الهيمنة الإسرائيلية على الدولة الفلسطينية المستقلة بالفرضيات التي ذكرناها، ومن لا يقبل بذلك من الفلسطينيين سيكون إرهابياً وهناك من الفلسطينيين من سيرفض ذلك تحت طائلة نزعته الدينية او الوطنية. اما المقابل الدولي - فأدناه - من وجهة النظر الإسرائيلية ان تُطلق يد إسرائيل في المنطقة الشرق اوسطية برمتها وأن تزداد المساعدات الاقتصادية والعسكرية لها، وغالباً ما يطلب الاسرائيليون اثماناً باهظة لمواقفهم ولو على اساس ديون سياسية مؤجلة. من دون عبور هذا المشكل الذي يبدو في ظاهره سياسي - استراتيجي لا يمكن عبور جزء من المشكل الإيديولوجي - الديني والقومي - في تعريف الإرهاب. وأقول عبور جزء لأن هناك امتدادات باقية على متسع العالم الإسلامي بما فيه الوطن العربي ومحيطه في تركيا وإيران والقرن الافريقي. * سياسي ومفكر سوداني.