كان التمرد على الشعرية التقليدية موازياً للتمرد الميتافيزيقي والاجتماعي والسياسي في ديوان "الناس في بلادي". وإذا كان التمرد الأول استجابة إبداعية إلى المطالب العقلية والحاجات الروحية للجيل الطالع من الشبان الذين تفتَّح وعيهم على حرب السويس، واستلهموا من انتصاراتها القومية شعاراتهم عن الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية، فإن التمرد الثاني كان بمثابة الوجه الآخر من العملة نفسها، والعملية التحررية ذاتها، خصوصاً بما فتحه من آفاق جديدة، وما حمله من وعود مغرية على مستويات التقنية والأداء، تلك المستويات التي لم تكن تنفصل عن رؤى عالم جذرية في جدتها ومغايرتها. وكان تغيير الأساس العروضي لبناء القصيدة هو الوجه الأول من أوجه التمرد على الشعرية التقليدية، لا من حيث الاقتصار على استبدال وحدة التفعيلة بوحدة البيت، أو الانتقال من نظام القافية الموحّدة إلى نظام القوافي المتنوعة، وإنما وصل ذلك ببناء إيقاعي تتموج حركته بتموج انفعالاته، فتطول الأسطر أو تقصر بحسب الدفقة التي يجسّدها السطر الواحد، وتتراوح أطوال الأسطر بحسب التوزيع الشعوري للمعنى، وبما يبقي على حيوية التوتر الإيقاعي، ويحول بينه والوقوع في الرتابة، ويصله الوصل العضوي بتدفق المعنى أو امتداد الدلالة في أحوال البسط والقبض على السواء. ومثال ذلك ما تلجأ إليه قصائد الديوان من حيل للتوزيع التفعيلي، تصل حيوية الإيقاع بحركة المعنى، وتباين أطوال الأسطر وأحرف التفعيلة المباينة التي ترتبط بالدلالة وتثريها، مؤكدة الاتكاء على الإيقاع لا التفعيلة وحدها، واصلة الإيقاع في تموجه بالدلالة الكلية للقصيدة في علاقات عناصرها التكوينية. ويحدث ذلك في قصيدة "الملك لك" التي أتوقف منها عند هذا المقطع: صباحي البعيد وأرعد إن مسّ قلبي رجع فجائعه المرة الجائرة وهذا الرجل؟! أخي وابن أمي وكانت خطاه خطى العنفوان وفي عينه ومضة الكبرياء وفي ليلة عاد من حقله وقد قطّبت وجهه علَّتهُ ومات! فالحركة الإيقاعية للمقطع تبدأ بتفعيلتين اثنتين في السطر الأول، وفي السطر الثاني تمتد إلى ثماني تفعيلات متصلة من دون فواصل داخلية. وهذا الامتداد له ما يبرره، فهو يقدِّم للقارئ مفاجأة صغيرة تنبهه لما يأتي، ثم تتغير سرعة الأبيات مرة أخرى طوال السطرين التاليين اللذين يقوم كل منهما على تفعيلتين اثنتين على وجه التقريب، وتتحول نغمتهما فتصبح سريعة وحاسمة كي تلفت الانتباه إلى "هذا الرجل" بالذات، لأنه سيلعب دوراً مهماً في حياة الشاعر. وبعد أن يتحقق الانتباه المطلوب، يطيل الشاعر في عدد التفاعيل من جديد، وتتغير سرعة الأبيات مرة أخرى، فتأخذ طابعاً هادئاً نسبياً، ويحرص الشاعر على المساواة بين المقاطع في كل سطر، ويتحقق إشباع التوقعات النغمية للقارئ طوال أربعة أسطر متساوية نسبياً، الأمر الذي يهيّئ الذهن لا شعورياً لتقبل إشباعات نغمية جديدة من النمط نفسه، ولكن تأتي المفاجأة بواسطة التفعيلة الناقصة: "ومات!" فتصدم القارئ، وتجبره على الوقوف عندها قبل أن ينطلق إلى غيرها، فهذا الرجل الذي يرافقه القارئ، في حياته العادية الرتيبة على امتداد أربعة أسطر، تنتهي حياته فجأة وبلا مبرر واضح أو مقنع. ويحاول الشاعر أن ينقل إلى القارئ الإحساس بهذه المفاجأة القدرية بالمفاجأة الوزنية، وذلك بهدف استفزاز القارئ نغمياً، كما استفز الموت المفاجئ غير المفهوم توقع الأخ الذي تمرد على هذا الموت المفاجئ، ويريد أن يدفعنا مثله إلى التمرد على الموت الذي يأتينا من حيث لا نتوقع، محبطاً كل ما نرجوه أو نحلم به من مستقبل. هذه المفاجآت النغمية التي تتصل بسرعة الإيقاع وجهها الآخر تعدد ظهور التفعيلة الواحدة بأشكال متنوعة، أو تكرارها في تجلياتها المتنوعة عروضياً، داخل السطر الواحد، الأمر الذي يقترب بإيقاع السطر التفعيلي من إيقاع السطر النثري. ومثال ذلك مطلع قصيدة "رحلة في الليل": الليل يا صديقتي ينفضني بلا ضمير الذي يتكون من أربع تفعيلات مستفعلن لبحر الرجز، ولكن لا تفعيلة واحدة تتماثل مع ما قبلها فتشبع التوقع النغمي الذي تخلقه التفعيلة السابقة، وذلك بسبب اختلاف الزحاف الذي يغاير ما بين التفعيلات. وإذا كانت التفعيلة الأولى سليمة تخلو من الزحاف الليل يا = مستفعلن فإن التفعيلة الثانية يصيبها زحاف "الْخَبْن". وهو حذف الحرف الثاني الساكن من التفعيلة، فتتحول مستفعلن إلى متفعلن أو مفاعلن = صديقتي التي يغدو اختلافها إحباطاً للتوقع الذي تفرضه التفعيلة الأولى. وتأتي التفعيلة الثالثة بما ينقض توقع الثانية، وذلك بسبب زحاف "الطَّيّ" الذي هو حذف الحرف الرابع الساكن من التفعيلة، فتتحول مستفعلن إلى مستعلن ينفضني التي لا يكتمل لها توقع لأنها تحبط بالتفعيلة الأخيرة التي تعود إلى مفاعلن، ولكنها لا تكتفي بذلك بل تضيف إلى آخر التفعيلة حرفاً ساكناً زائداً، فتغدو التفعيلة مفاعلان بلا ضميرْ. والنتيجة هي النثرية الواضحة في البيت. ولا يعني ذلك خلو السطر "الليل يا صديقتي ينفضني بلا ضمير" من الإيقاع النغمي. فوجود تفعيلة الرجز مستفعلن يضمن الوحدة النغمية الأولى للأساس الإيقاعي مهما أصابها من زحافات أو علل. لكن كثرة الزحافات والعلل، ومن ثم تباين تشكيلات التفعيلات ذات النوع الواحد، توقف التدفق النغمي، وتعوق تسارع الإيقاع الذي يمكن أن نراه بارزاً في المقطع الأول من "أناشيد غرام": يا أملاً تبسّما يا زهراً تبرعما يا رشفة على ظما يا طائراً مغرِّداً مرَنّما ما حطّ حتى حوَّما غير أننا يجب ألاّ نقرن بروز نغمية الإيقاع أو تسارعه المنبسط بقيمة جمالية موجبة، أو نقرن عدم بروز النغمية في حال تقبض الإيقاع بأية قيمة سلبية، فلا جماليات مجردة أو مطلقة للإيقاع الشعري، كما أنه لا جماليات مجردة أو مطلقة لأي شيء، والإيقاع الشعري لا ينفصل عن معنى القصيدة بل هو تجسيد له، ولذلك هو لازمة من لوازم غايتها التي تفرض على الإيقاع وظيفة نغمية بارزة في تسارعها أو تدفقها أو تسلسلها أو بسطها في أحيان، أو تفرض وظيفة متقبضة، شبه نثرية، أو حتى نثرية في أحيان أخرى. فالمعوّل كله على جذر الإيقاع الذي هو البعد الوظيفي لتجسيد المعنى. وإذا كانت مقامات الجهر الخطابي في القصائد الوطنية غير مقامات البوح الذاتي في النجوى العاطفية المهموسة، فهذه نقيض تلك، فإن لإبراز النغمية المنبسطة الإيقاع مقاماته، وللتقبض الإيقاعي أحواله الوظيفية وحالاته الشعورية التي تفرضه، خصوصاً حين تغدو النثرية ملمحاً جمالياً يكتمل مع ملامح ملازمة، تتولى تقويض البلاغة الإيقاعية القديمة. وإذا عدنا إلى قصيدة "رحلة في الليل" وجدنا نموذجاً لبلاغة إيقاعية جديدة، حتى على مستوى استخدام الزحافات في التفعيلة الواحدة، على نحو ما نرى من هذين السطرين: فحين يقبل المساء يقفر الطريق.. والظّلام محنة الغريبْ يهُبّ ثُلَّةُ الرفاق، فُضَّ مجلسْ السمرْ. اللذين يتكون أولهما من ست تفعيلات، والثاني من أربع. ويلفت الانتباه فيهما أن الشاعر يلتزم في كل تفعيلاتهما معاً زحافا واحداً لا يغادره، فتأتي كل التفعيلات على زِنَةِ مفاعلن بلا استثناء، سوى التفعيلة الأخيرة في السطر الأول التي يزاد على مفاعلن ساكن أخير فتغدو مفاعلان. وقد نبّه العروضيون القدماء إلى أن "الزحاف" في الشعر كالخال على وجه المرأة أو اللَّحن في كلامها، مستحب إذا كان قليلاً، مكروه إذا كثر أو زاد، ولذلك فالسطران السابقان محكوم عليهما بالإدانة من وجهة نظر العروضي القديم، ولكنهما ناجحان في أداء مهمتهما في العروض الجديد الذي أسهمت في تأسيسه قصائد "الناس في بلادي"، فالالتزام بالتفعيلة محذوفة الثاني الساكن حقق مهمته العروضية الجديدة، وذلك على مستوى إشباع التوقع الذي لا يخلو من رتابة الهبوط الثقيل البطيء الممتد عبر ست تفعيلات متماثلة، متجاورة، متصلة للمساء الذي يتحول إلى محنة، ينفضّ معها أي مجلس للسمر على الفور، فلا يمتد إلى أكثر من أربع تفاعيل متماثلة. وهو هبوط يدعمه تكرار خمسة من أحرف المد أو اللين في السطر الأول، في مقابل حرف واحد فحسب في السطر الثاني الذي هو نتيجة للأول، ومن ثم مغاير له مغايرة موقع حرف الرويّ الراء في قافية السطرين غريب/ سمر. وقد لاحظ محمد مصطفى بدوي ما لا يجاوز الملاحظات السابقة، بل ما يؤكدها في علاقة الوزن بالمعنى. وتوقف على السطر الأول من قصيدة "الناس في بلادي" نفسها: الناس في بلادي جارحون كالصقور لافتاً الانتباه إلى أن المحافظة على قواعد بحر الرجز مستفعلن الذي تنتسب إليه القصيدة تقتضي قراءة كلمة "بلادي" بخطف ياء المتكلم الممدودة كما لو كانت كسرة فنقول "الناس في بلادِ". وهذا أمر يكسب السطر طابع الكلام العادي وإيقاعه، ذلك أننا لا ننطق حرف العلة في الضمير المتصل في السطر ممدوداً في لهجة حديثنا. وتلك ملاحظة يؤكد بها محمد مصطفى بدوي ما يراه من أن صلاح عبدالصبور يفيد في صوغ إيقاعاته المحدثة حتى مما عدّه بعض الدارسين مثل نازك الملائكة ضعفا في الوزن. وعندما نصل هذه الملاحظة بجماليات الإيقاعات المحدثة نجد فيه ما يبرر اختفاء لهجة الخطابة في شعر صلاح، أو ما يبرر الشعور الناشئ بالألفة بين شعره والقارئ، الأمر الذي لا يحس معه أن الشاعر يقف على منصة ليلقي كلاماً مدبجاً منمقاً يظهر براعته الخطابية، وإنما يحدِّث القارئ بصوت خافت غير جهوري، ويقول كلاماً حميماً عن نفسه وعن أهله، كلاماً أقرب إلى "الدردشة" التي يزداد الإحساس بها حين يلمس القارئ ما فيها من صراحة تبلغ حد القسوة، فأهله جارحون كالصقور، لا جمال في غنائهم ولا في ضحكهم أو طريقة مشيهم، بل هم يقتلون ويسرقون ويتجشأون حين يشربون. هنا، يقوم الشاعر - في ما يقول بدوي - بأداء شيئين معاً: أولهما إزالة المسافة بينه وبين قرائه بما يجعلهم يطمئنون إليه، وثانيهما صدمتهم بمصارحة لا تخلو من قسوة، إذ لم يتعود القراء من الشاعر العربي حين يتحدث عن أهله وقومه إلا أن يسمعهم كلاماً كله فخر ومبالغة، والفخر - كما نعلم - من أغراض الشعر العربي التقليدي المتواضع عليها. والمسافة قريبة جداً بين هذا النوع من الإيقاع الذي لا تخلو رتابته من معنى والنغمية المتقبضة التي يجسّدها نوع من النثرية المقصودة والمدعومة بالتخلي المتعمد عن القافية، وذلك على نحو ما نقرأ في هذا المقطع من قصيدة "السلام": كنا على ظهر الطريق عصابة من أشقياء، متعذبين كآلهه، بالكتب والأفكار والدخان والزمن المقيت. طال الكلام، مضى المساء لجاجة، طال الكلام، وابتلّ وجه الليل بالأنداء، ومشت إلى النفس الملالة والنعاس إلى العيون. والأسطر من بحر الكامل، تعتمد على تفعيلته متفاعلن. ولكنها تمزج بينها وتفعيلة الرجز مستفعلن بتسكين الثاني المتحرك من تفعيلة الكامل. وتتجاوب التفعيلتان، أو تتداخلان، بما يخلق إيقاعاً نثرياً تؤكده تقنيات، أولاها: التلاعب بحروف المد واللين بما يتباطأ بالدفق الإيقاعي. وثانيتها: إضافة ساكن إلى التفعيلة الأخيرة في كل سطر، فيما عدا الثاني، وذلك على نحو يضيف إلى حروف المد، فتتعاقب تفعيلات: مستفعلان، مفاعلان، مستفعلان، فالان.. وثالثتها: التكرار الذي يبرزه السطر الرابع بما يؤكد طول الكلام. ورابعتها: المحافظة على عدد التفعيلات في أغلب الأسطر الستة، حيث تتكون أربعة أسطر من أربع تفعيلات، بينما يتكون السطر الثاني من تفعيلتين والسطر الخامس من تفعيلتين كاملتين وتفعيلة ناقصة فالان. أما التقنية الخامسة فهي الحذف المتعمد للقافية، لا من حيث حرف الرويّ الذي تنتهي به الوحدة العروضية لأحرف القافية، وإنما من حيث حذف تكرار وحدات نغمية ختامية يمكن أن تصنع تقفية ما. ولذلك تنتهي الأسطر بكلمات أشقياء، آلهة، مقيت، كلام، أنداء، عيون، من دون أن تجمع بينها وحدة نغمية متكررة. والنتيجة هي النثرية المباشرة التي تتجاوب مع ندرة استخدام التشبيهات والاستعارات، والتقبض النغمي الذي يزيده غياب القافية، فلا نجد إيقاعاً من النوع الذي يجسده بيت عمودي من مثل: عرسان في بنت المعزِّ وجلّقا هزَّا بلحنهما الشجيِّ المشرقا وهو من بحر الكامل الذي تنتسب إليه الأسطر التي نقلتها من قصيدة "السلام" والتي تحاول صوغ غياب السلام عن عالم عصابة الأشقياء التي تنغلق على الكتب، ضائقة بتكرار الكلام نفسه والدخان نفسه في الزمن المقيت نفسه. وأتصور أن الإيقاع المتقبض الذي يقترب عامداً من نثرية الكلام العادي وجد ما يدعمه في بلاغة "التضمين" التي هي وصل بين الأبيات، أو بناء بيت على كلام يكون معناه في بيت يتلوه من بعده مقتضياً له، كقول الشاعر: كأن القلب ليلة قبل يغدي بليلى العامرية أو يراح قطاة غرّها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح والتضمين بارز في المقطع السابق لصلاح عبدالصبور، حيث لا يمكن التوقف عند نهاية كل سطر دلالياً أو نحوياً، كما لو كان بيتاً تقليدياً اكتمل نحوه ومعناه بقافيته التي تؤكد استقلاله، فغياب القافية في المقطع قرين امتداد المعنى دلالياً ونحوياً عبر الأسطر الثلاثة الأولى على الأقل، كما يمتد عبر الأسطر الثلاثة الأخيرة بالقدر نفسه، بل من الممكن وصل الأسطر كلها في حال أشبه بحال البوح الذاتي في المحادثة العادية التي تتصل فيها الجمل نحوياً ودلالياً، من غير أن تستقل واحدة منها تماماً عن غيرها الذي يعقبها. وقد عدّ القدماء "التضمين" عيباً في الشعر لأن "خير الشعر ما قام بنفسه وكمل معناه في بيته وقامت أجزاء قسمته بأنفسها" في ما قال أحد البلاغيين القدماء. ولكنه في مقطع صلاح عبدالصبور يتحول إلى ملمح جمالي إيجابي، يؤدي وظيفة لافتة داخل القصيدة، وذلك على النحو الذي يؤدي إلى اتصال الأسطر وعدم استقلال أي سطر بذاته، مؤكداً تدفق المعنى بما يمتد عبر أسطر تكتمل به ويكتمل بها.