أقبل عليهما مبتهجاً باسماً مشرق الوجه والنفس جميعاً، وقف يعدل من هندامه، يدخل منديلاً أحمراً في جيب سترته الزرقاء مرةً ثم يخرجه أخرى، يبدو راضياً كل الرضى ومنصرفاً إلى نفسه عن كل إنسان، كأن فيها حاجةً إلى شيء من اللذة بعد أن أغرقت في الألم، وإلى شيء من السرور بعد أن أسرف عليها الحزن. ابتسم أحد مستقبليه فأسرف في الابتسام ووقف مرحباً، وهو يقول: مرحى مرحى... ما هذا الذي أراه؟ حلة بهية وطلعة ندية. رد عليه في غرور: أشكرك يا يوسف... ثم التفت إلى مجالسهما سائلاً: وأنت... ماذا تقول؟ أجابه في تكلف ظاهر: كعادتك دائماً... تبدو وسيماً. التفت إلى يوسف سائلاً: ماذا أصابه أيها العزيز؟ أجابه في شيء من الضيق: لا عليك... إنه على هذه الحال منذ أن عزمت الذي عزمت. نظر إلي دهشاً وقال: ألا زلت غير راضٍ يا محمد؟ أبعد كل الذي سقته من أسباب ترفض هذا الزواج! نظر محمد إلى محدثه نظرة استحالت إلى أغرب خليط من البؤس والعطف معاً، وكأن هذا الخليط الغريب قد تجمع واتخذ مكاناً بين جفنيه من دون أن يدري. وظل صامتاً لا يقول شيئاً، يدور بطرفه بين صاحبيه كالذاهل المنكر. ثم أخذ يتهته كأنما يحدث غيرهما قائلاً: لقد اجتهدت لمنعك من هذا الزواج ما وسعني الاجتهاد، وآثرت الخير والمعروف لك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. لكني بإصرارك هذا أراك كافراً للنعمة، جاحداً للجميل. لم يستطع أن يمضي في حديثه لأن صوته انحبس في حلقه، وأنهلت دموعه على وجهه غزاراً. فأغرق يوسف في الضحك، وأمسك بكتفي محمد وهو يقول: أراك تعرض على عصام العلل والآفات، كأنما حياته طوع بنانك تصرفها على ما تهوى وتتحكم فيها تحكم من يملك من أمرها شيئاً. صرخ محمد في وجه محدثه صرخةً أذهلته، وقال: صهٍ أيها الغبي! إني أحاول إصلاح أمره فلا أجد لإصلاحه سبيلاً. ألجمت المفاجأة صاحبيه، وظلا ينقلان بصرهما ردحاً غير قليل، ولملم عصام شتات نفسه، واعتدل في جلسته وقال وهو يحاول أن يغالب الغضب ويكظم غيظه ليلبس بُرد الهدوء: كفاك هراءً أيها العزيز فقد طفح الكيل، إنك تلح عليِّ بما لا أطيق، أتقول كل ما قلته في يوم عرسي بدلاً من مباركتي! أتغار مني لزواجي من تلك المليحة؟ فإن لم تطق أمري فليكتئب قلبك ما أردت له أن يكتئب. نقل محمد ناظريه بينهما محزوناً كئىباً لا يدري ماذا يقول، وقد أخذ وجهه ينقبض، وكادت كلمات صاحبه أن تخرجه عن طوره. لملم إليه بعض نفسه وقال: أعذرني أيها الصديق فإن عبء أمرك علي ثقيل، ولكني أرى أن بينك وبين نفسك شراً منذ اليوم. أما وقد انتهى الامر بيننا إلى هذا الحد، فإني أود أن أسألك سؤالاً واحداً انصرف بعده الى غير رجعة. ماذا عن هدى وأطفالك الثلاثة؟ ترنح عصام ترنح السكير، مسترجعاً سؤاله استرجاع الذاهل الذي يسمع ويعي لكنه ينكر ما يسمع ويعي. وأطرق يوسف إطراق الرجل الذي يعلم أنه يأتي إثماً. استجمع عصام بعض شتات نفسه وقال: نعم ... نعم... سأمسكها معززة مكرمة.. هي ... نعم...هي وأولادها. وسأوسع عليهم في الرزق، وأقوم لهم بأكثر مما يحتاجون إليه. فأجابه في صوت حزين: إنني لا أملك إصلاح ما فسد من أمرك والله وحده القادر على أن يرد الناس أخياراً وأبراراً... ولكن... خذ عني هذا المظروف الذي اثقلني، واستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه. أخذ عصام المظروف بيد مرتجفة وهو يرى صاحبه يوليه ظهره في وجهٍ كسته الظلمة ولفه الانقباض. شق المظروف، وجعل يقرأ في صوت عالٍ: "كل شيء منته إلى السأم إذا اتصل، حتى الحياة الراضية، والنعمة الدائمة والعيش الهادئ المطمئن، فلست انكر منك ان تمل هذا النعيم المقيم، وتطمع في الترفيه عن نفسك بقليل من البؤس يأتيك من بعيد ... إنك تعلم أنني أنثى لا تحسن احتمال المحنة ولا الثبات للخطب، وخوفي دائماً يتسرب الى قلبي، فيصرفني عن الحياة ويصرف الحياة عني ... اما وقد استوفيت مني حق طاعتك فلا تمسكني على ما اكره من الألم والبؤس، وأنت تدخل عليّ اخرى تنغص عليّ حياتي وتذيقني الم الغيرة وشقاء الحسد ... وسأظل اذكر فيك الزوج الوفي، ولكني انثى لا تقبل مشركة في بعلها". المخلصة هدى. وكرت مسبحة الذكريات، فذكر حين التقى هدى للمرة الأولى في رواق الجامعة وهي تخطب فيهم وتحثهم على الثورة والخروج الى الشارع، لأن اهل الحل والربط قد حادوا عن الطريق المرسوم. كانت تردد في صوت كأنه يخرج إليهم من بين انطلاق الفجر وإشراق الصباح، كنسيم عليل رقيق: يجب الا نزدري انفسنا فلا نقيم لها وزناً، ولنعمل ليوم يخترق فيه ضوء الحقيقة إن شاء الله هذه الحجب الكثيفة من ظلام الاكاذيب. فماذا حدث؟ ها هو يرى نفسه على حقيقتها فينكرها أشد الإنكار ويود ان يجهلها، او يستطيع ان يفلت منها. الندم يلدغ قلبه على ما أضاع من حق نفسه وأهله، وما بدد من مودة كان يجب عليه ان يحتفظ بها. هل يستطيع ان يصل ما انقطع من الاسباب ويجمع ما تفرق من الشمل؟ ام ان بينه وبينها امداً بعيداً لا سبيل الى قطعه، وهوة سحيقة لا سبيل إلى عبورها؟ قام من كرسيه محاولاً ان يقف، امسك بربطة عنقه يريد فكها، ثم شهق شهقة انقطعت بعدها انفاسه. الرياض - د. صلاح محمد أحمد البشير سوداني مقيم