هل يجب أن تخشى الدول العربية المتوسطية الموقعة على اتفاقات شراكة مع الاتحاد الأوروبي توسع هذا المجال الجغراستراتيجي شرقاً بضم عشرة بلدان جديدة إليه، بدءاً من سنة 2004؟ الاشارات الواردة أخيراً، من دول المغرب العربي تحديداً، تؤكد جميعها هذا القلق المتنامي على رغم محاولات الطمأنة التي يظهرها مسؤولو الاتحاد في عدد من المناسبات اليورو - متوسطية من جهة، ومن جهة أخرى، على رغم الضمانات التي يعطيها المشرفون على "البنك الأوروبي للاستثمار" في طليعتهم نائب رئيس هذه المؤسسة، فرانسيس ماير. وسبق لهذا الأخير أن أعلن في تشرين الأول اكتوبر الماضي تأسيس صندوق خاص لدعم دول جنوب المتوسط وفق وتيرة تدفق مالي سنوي تراوح بين 4.1 و2 بليون يورو، من الآن حتى سنة 2006. وعشية اجتماع المجلس الأوروبي في كوبنهاغن، الذي من المفترض أن يعطي الضوء الأخضر النهائي لتوسع الاتحاد الأوروبي ليضم دول شرق أوروبا ووسطها والمتعارف على تسميتها بمجموعة بيكو، تبدي دول جنوب المتوسط وشرقه تخوفها من أن تؤدي عملية الاندماج هذه إلى نشوء منافسة حادة تكون في غير مصلحتها، إضافة إلى تهميش شراكتها الحالية مع أوروبا. وازداد هذا القلق مع تباطؤ النمو في هذه المنطقة من العالم وتدني حجم صادراتها الذي يتناقض مع المقاومة المتصاعدة لدول "بيكو" لهذا التباطؤ، كذلك فعاليتها المتزايدة لناحية اختراق أسواق شمال أوروبا. ومما يزيد الأمور صعوبة أيضاً بالنسبة للدول العربية المتوسطية، انعكاسات الحال الضبابية المحيطة بالوضع في الشرق الأوسط، وآفاق الحرب المحتملة في العراق على مجمل اقتصاداتها. فمسألة توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً لا تزعج المسؤولين السياسيين فقط، بل أيضاً النخب المثقفة والدوائر الاقتصادية التي تشارك في صنع القرارات في منطقة المغرب العربي، التي بدأت تتحدث عن تخلي أوروبا. وفي إحدى المداخلات التي قام بها لمناسبة مرور سبع سنوات على توقيع بلاده على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي الأولى مع بلد عربي متوسطي، لم يخف طاهر صيود، وزير المال التونسي السابق السفير الحالي لدى المجموعة الأوروبي في بروكسيل، وأحد مهندسي هذا الاتفاق، خشيته من نتائج هذا التوسع، بقوله: "إذا ذهب يورو واحد ل12 دولة في جنوب المتوسط وشرقه، هنالك عشرة يورو على الأقل ستذهب في المقابل الى الدول التي ستنضم للاتحاد"، مضيفاً: "ليس بهذه الطريقة ستساعد أوروبا دول المغرب على تثبيت انتعاشها الاقتصادي. فالبنسبة للقادة المغاربة، فإن هذا التوسع المنوي ترجمته قريباً هو بمثابة الرجوع عن العلاقات التاريخية والثقافية والاقتصادية". في هذا الإطار، لم يتردد رئيس دولة مغاربية خلال لقائه مع وفد من النواب الدانمركيين الذين تترأس بلادهم الاتحاد في هذه الفترة، من اخفاء امتعاضه من الفارق بالتعامل بين بلاده ودول شرق اوروبا ووسطها، وقال بحدة: "اعتقد أن المغاربي هو أقرب الى اوروبا الغربية من البولوني، إلا إذا كانت هنالك اعتبارات أخرى أجهلها". مداخلة فاجأت زواره الذين حاولوا اعطاء تطمينات بالنسبة لمستقبل العلاقات مع الاتحاد واحترام التعهدات والتواقيع. المهم في كل ذلك أيضاً أن عملية التوسع المقبلة تأتي في الوقت الذي يرى فيه عدد كبير من المحللين السياسيين الاقتصاديين في الغرب وداخل الدول العربية المتوسطية، أن اتفاق الشراكة اليورو - متوسطي المعروف باسم "عملية برشلونة" يراوح في مكانه منذ فترة على رغم توقيع عدد من الاتفاقات كان آخرها مع لبنانوالجزائر. من ناحية أخرى يرى اقتصادي مغاربي أن توسع الاتحاد شرقاً ليس مسألة ذات طابع اقتصادي بحت، بل ان للديموقراطية دوراً في الخيارات التي لم تتوافر بعد حسب تقدير الأوروبيين. انطلاقاً من هذه المعطيات والفرضيات، يطرح التساؤل التالي: "هل يمكن تبرير المخاوف الناجمة عن المنافسة بين المنطقتين الأقرب للاتحاد الأوروبي؟ وهل يمكن، بشكل موضوعي، تصور احتمال ازاحة الدول المتوسطية من قبل بلدان شرق أوروبا؟". مصادر القلق في هذا السياق، يحدد خبراء بروكسيل وعدد من المسؤولين عن ملفات الشراكة في الدول العربية المتوسطية المخاوف المطروحة بمحاور ثلاثة اولها تلك المرتبطة بالتحويلات المالية العامة والخاصة لأوروبا، التي، وفق نظرة آلية، ستتأثر سلباً بفعل المبالغ التي سترصد لشرق أوروبا. واقع يقر به فرانسيس ماير على رغم الابتعاد بعض الشيء عن صلب الموضوع من خلال الاشارة إلى "أن دخل الفرد الوسطي السنوي في دول شمال المتوسط يصل إلى 20 ألف دولار، بينما لا يتجاوز ال2000 دولار في دول الجنوب، في حين يبقى أيضاً أقل بكثير منه في دول شرق أوروبا حيث يصل هذا الدخل إلى نحو 8000 دولار. لذا، فإن دخول مجموعة "بيكو" الى الاتحاد من شأنه أن يعزز دخل أفرادها، وبالتالي تعميق الهوة، هذا إذا ما أخذنا في الحساب النمو السكاني الآخذ بالانفجار في دول جنوب المتوسط". في المقابل، يرى خبراء آخرون بأن القلق من تأثر المساعدة العامة للاتحاد الأوروبي بالعبء المالي الذي تفرضه مرحلة ما قبل الانضمام وخلالها لدول "بيكو"، ليس له ما يبرره بالمطلق حتى الآن، كونه لم تتخذ أية قرارات في هذا الشأن. ويستفيد هؤلاء في تشخيصهم على ما هو حاصل عملياً. إذ أن الالتزام تجاه دول جنوب المتوسط، حسب معلوماتهم، يسير وفق ما هو مرسوم، بل يزيد في بعض الحالات. فالمساعدة المالية الأوروبية، المقررة للفترة 2000 - 2006، المعروفة باسم "ميدا" ارتفعت من 4.3 بليون إلى 35.5 بليون يورو، مقابل المرحلة السابقة بين 1995 و1999. وبالنسبة لفترة زمنية مماثلة، قدم الاتحاد 4.6 بليون يورو على شكل قروض أشرف على إدارتها "البنك الأوروبي للاستثمار"، الذي تعهد بدوره صرف بليون يورو اضافي للدعم. بناء عليه، وصل حجم الهبات والقروض إلى نحو 13 بليون يورو، تم توفيرها على مدى ست سنوات لمنطقة جنوب المتوسط وشرقه. تُضاف إليها المساعدات الثنائية للدول الأعضاء في الاتحاد التي يزيد حجمها في العادة على المساعدات الأوروبية مجتمعة. لكن هذه المبالغ الموضوعة بتصرف البلدان المتوسطية لم تستخدم كلها. وتعود أسباب هذا التقصير لضعف القدرة الاستيعابية لاقتصاداتها لهذه الأموال، وأيضاً للصعوبة الذاتية والموضوعية عندما يصل الأمر الى تنفيذ المشاريع المقدمة. وكذلك للبيروقراطية المعششة داخل اللجان والمؤسسات الفرعية لبروكسيل التي تعرقل، في نهاية الأمر، صرف المستحقات في أوقاتها. كما لا بد من الاشارة الى التنافس القائم بهدف جذب الاستثمارات الأوروبية المباشرة التي شهدت، بقدرة قادر، تحولاً أساسياً في وجهاتها، لتصب في مصلحة دول وسط وشرق أوروبا. وإذا كانت التدفقات المالية من استثمارات خارجية مباشرة ومحافظ مالية وانسيابات مصرفية تزايدت في منطقة جنوب وشرق المتوسط، وفي بعض الدول العربية فيها على وجه الخصوص المغرب وتونس ومصر، إلا أنها تبقى متواضعة بالمقارنة مع اداءات دول "بيكو". لكن ذلك لا يمنع القول بأن جاذبية هذه الأخيرة للاستثمارات الخارجية المباشرة لا تتم بصورة اوتوماتيكية على حساب دول الجنوب، حيث النمو البطيء لتدفقات هذه الاستثمارات يعود بالدرجة الأولى لعوامل داخلية، غير المواكبة للتطورات العالمية، أبرزها البيئة الاقتصادية والترهل الإداري، كذلك ضعف البنيات التحتية والتفاوت الحاصل على مستوى تأهيل اليد العاملة، تضاف إلى ذلك، عناصر عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي السائدة في الدول العربية المتوسطية، ما عدا استثناء أو اثنين. وينبع التخوف الثاني من المنافسة الخارجية التي يمكن أن تحصل بين مجموعة "بيكو" والدول العربية المتوسطية. فالتنافس الأقوى سينحصر في اطار الصناعات التصديرية لهذه الأخيرة، القائمة على السعر الرخيص لليد العاملة المحلية، خصوصاً في مجال صناعة النسيج. لكن هذه المنافسة غير موجودة على وجه التحديد في هذا المجال القطاعي، وفي المدى الجغرافي. لكن الدول الشرقية المتوسطية سبق ان قاومت منذ فترة تحدي دول شرق وسط أوروبا، بحيث لم تسمح لهذه الأخيرة بتسجيل نقاط على حسابها. لكن التكامل الذي من شأنه ان يحدث قريباً بعد عملية الانضمام، سيعدل حتماً في الميزان لصالح دول "البيكو". ومن مؤشرات هذا التحول، نشوء غلبة في المجال الصناعي كون هذه الدول تستورد قسماً من احتياجاتها الزراعية من دول جنوب المتوسط، ما سيضمن تدريجياً موقعها التجاري والاقتصادي، وسيضمنها بالتالي من انتاج التجهيزات التي تحتاجها دول الجنوب وتستوردها بكثرة. فدينامية الانتاج التي تتسم بها مجموعة دول "البيكو" عدلت بالفعل وبشكل محفوظ. فبعضها اليوم يصنع السيارات ويصدرها اضافة الى التجهيزات الكهربائية وخلاف ذلك. كما وتخشى الدول العربية من الانعكاس الثالث لهذا التوسع اذا ما تم استبدال عمالها المهاجرين الى أوروبا، تحديداً القادمين من دول المغرب العربي وبنسبة أقل من منطقة الشرق الأوسط بعمالة آتية من شرقها ووسطها، ولأن تشكل أسواق العمل العربية منفذاً وصمام أمان اجتماعي لدولها الأكثر تأثراً بالبطالة فحسب، بل مصدراً أساسياً للمداخيل التي تعدل بشكل ملموس عجوزات الموازين، خصوصاً ميزان المدفوعات، والمتمثلة بالتحويلات المالية للعمال المهاجرين. ويظهر هذا التخوف للوهلة الأولى من خلال آفاق اندماج مجموعة "بيكو" وتسهيل انتقال رعاياها الى أوروبا الغربية في الوقت الذي تظهر فيه دول الاتحاد تشدداً ملفتاً في هذه المرحلة لأسباب عدة. لكن، يمكن القول بأن هذا التطور لم يؤد حتى الآن لنشوء عملية الاستبدال هذه. ولا يتوقع بعض الخبراء بأن تسير الأمور على النحو المقلق الذي تتوقعه بعض الدول المغاربية في المستقبل في هذا الشأن، علماً بأن تجربة اسبانيا والبرتغال بدخول الاتحاد، سهلت على العكس، عودة موجات من رعايا البلدين. كما يجب ان يؤخذ الوضع الديموغرافي لدول "بيكود" وشيخوخة مجتمعاتها، وتضاؤل عدد القوى العاملة فيها، والمشابه لدول غرب أوروبا، ما سيمنع هجرة أبنائها الى هذه المنطقة وتشكل عنصراً للمضاربة الحادثة. بل ومن المتوقع، كما حصل مع ايطالياواسبانيا، ان تتحول دول شرق ووسط أوروبا لموقع استقطاب واستيعاب لمهاجرين، بعدما كانت لفترة مصدرة لعمالتها. سينتج من وراء ذلك، ان المنافسة بين المجموعتين تبقى بعيدة عن كونها آلية، ولأن التكامل المستقبلي بينهما يمكن ان يتجاوز مع مرور الزمن تأثيرات المنافسة ويزيل عناصر القلق الموجودة، مع ذلك، يجب الإقرار بأن وضع اقتصادات الدول العربية المتوسطية يبقى مقلقاً، سواء بسبب ضعف قدراتها على الانخراط بشكل فاعل في المبادلات الدولية، أو نتيجة الصعوبات التي تصادفها لناحية جذب الاستثمارات بشكل دائم. ويعود هذا الوضوع ايضاً لعوامل داخلية عدة، من بينها، بطء الاصلاحات المعلنة، وبروز ظواهر تشير الى ثغرات في مسألة الاسقرار السياسي والاجتماعي والبيئة الإدارية غير السليمة التي تجعل من هذه الدول قابلة للتأثر اكثر فأكثر حيال المنافسة الجدية، وتمنعها في الوقت نفسه من الاستفادة من فرص الانفتاح المتوافرة. وتتوقع بعض الأوساط الاقتصادية بأن يكون لمناطق التبادل التجاري الحر، فيما اذا سارت كما هو مخطط لها من تخفيف وطأة هذه المنافسة مع شرق أوروبا وتؤمن مداخيل اضافية. في خضم هذا التخوف والقلق الحاصل، تحاول الدول المتوسطية المغاربية التوجه أكثر فأكثر نحو الولاياتالمتحدة الاميركية، ويبدو ذلك جلياً مع المغرب، الذي قطع شوطاً كبيراً على طريق اقامة منطقة التبادل التجاري الحر مع الولاياتالمتحدة، والتي أعلن عنها الرئيس جورج بوش وبدأت فرق العمل بوضع أسسها مع الزيارة التي قام بها الى واشنطن "الطيب الفاسي الفهري" وزير الدولة للشؤون الخارجية والمكلف بهذا الملف، سبقتها بأيام زيارة "دونالد ايفنز" الى الرباط. "وإذا كانت أوروبا لن تساعدنا كما تعهدت ووسعت دائرتها على حساب اقتصادنا، فإننا سنتوجه بشكل نهائي الى اميركا". وهذا ما أسمعه رجل أعمال جزائري كبير لوفد أرباب العمل الفرنسيين الذين قدموا الى الجزائر في بداية تشرين الثاني نوفمبر الماضي. هذا "التهديد" سبق ان سمعه الديبلوماسيون الأوروبيون والفرنسيون منهم تحديداً، لكنه بدأ يؤخذ هذه المرة بجدية أكبر بعدما اتضحت نوايا الولاياتالمتحدة ليس بالنسبة الى المغرب العربي، بل الى باقي القارة الافريقية. * اقتصادي لبناني.