لأن دول الاتحاد الأوروبي لا يمكنها المحافظة على رفاهيتها إلا عندما يتمتع جيرانها المباشرون بالاستقرار، نص "اعلان برشلونة" على فتح الأبواب امام دخول سلع الدول المتوسطية الى اسواق الاتحاد، والإفادة من الاستثمارات المتبادلة، ونقل المعرفة والمهارات، وتفاهم اوسع في الميادين الثقافية والحضارية والإنسانية. ويشمل التعاون المسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية بهدف اقامة منطقة رخاء وسلام وتبادل تجاري حر. وحتى الآن يلاحظ عدم دخول أي دولة نفطية في الشراكة ما عدا الجزائر التي تعتبر دولة غازية اكثر مما هي نفطية. اما دول مجلس التعاون الخليجي فمستمرة في مفاوضات طويلة مع الاتحاد الأوروبي. والانخراط في الشراكة يتطلب ملاءمة هيكلية وإعادة هيكلة الاقتصادات وتحديث وسائل الإنتاج، لأن لا احد يريد خوض عملية تنافس مفتوحة من دون ان تتوافر لها الضمانات الاقتصادية الكافية. فلا بد من اندماج متدرّج وضمن مهل زمنية طويلة خصوصاً ان انضمام اكثر من 12 دولة من اوروبا الشرقية الى الاتحاد سيرفع عدد الدول الأعضاء الى 27 دولة ويزيد من حدة المنافسة داخل اسواقه. وفيما تشهد الدول العربية عجزاً تجارياً متنامياً مع دول الاتحاد يتجاوز 25 بليون دولار حالياً، لا ينبغي للشراكة ان يكون لها تأثير في اتجاه زيادة الصادرات الأوروبية نحو الدول العربية المتوسطية فحسب، بل في اتجاه زيادة التبادل التجاري بين المجموعتين. وإذا اردنا تقويم هذه الشراكة، نستطيع القول انه على رغم اقامة حوار سياسي على مختلف المستويات، لا تزال فكرة اقامة منطقة سلام واستقرار في منطقة البحر المتوسط كما تهدف إليه الشراكة، بعيدة المنال في ظل تعثر عملية السلام واستمرار الطغيان الإسرائيلي. كما تعثر إعداد ميثاق السلام والاستقرار الذي يشكل احد اهداف الشراكة السياسية - الأمنية. وعملت لجنة من كبار الموظفين على صوغ بنوده منذ مؤتمر شتوتغارت عام 1999، فأعدّ الجانب الأوروبي مشروع ميثاق قابله الجانب العربي بمشروع خاص وضعته الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ولا تزال المسألة عالقة. وبرزت خلافات في موضوع التسلح، فإسرائيل تملك اسلحة نووية وأخرى محظورة عالمياً ولا تزال ترفض الانضمام الى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية. ويلاحظ ان الجانب الأوروبي لا يمارس الضغوط اللازمة عليها لحضها على تطبيق اعلان برشلونة او السماح بتصدير المنتجات الفلسطينية، كما يتعامل معها كما لو كانت دولة اوروبية عادية لتفيد الى أقصى حد من الأسواق الأوروبية الواسعة. وبرزت أيضاً خلافات في تحديد مفهوم الإرهاب، اذ تصر الدول العربية على ان مقاومة الاحتلال وعمليات التحرير لا يمكن اعتبارها ارهاباً، في حين لا تعتبر الدول الأوروبية الممارسات الإسرائيلية القمعية في حق الشعب الفلسطيني اعمالاً إرهابية. ولكن في المجال الاقتصادي - المالي سجلت الشراكة بعض النجاحات وقدمت بعض المساعدات ضمن برنامج "ميدا" وبعض القروض من البنك الأوروبي للاستثمار. اما في المجال الاجتماعي، فيمكن ملاحظة قيام مشاريع لحفظ التراث الأوروبي المتوسطي المشترك، وبعض المشاريع الثقافية المشتركة. ومن الناحيتين الاقتصادية والمالية يلحظ الاتفاق عدداً من الأمور الاقتصادية والمالية، كمنح مؤسسات كل من الطرفين حق اقامة مشاريع عند الطرف الآخر، وإفادتها من المعاملة ذاتها التي تحظى بها المؤسسات الوطنية، وتحرير تجارة الخدمات. وتمكن لبنان من تأجيل تطبيق الانفتاح امام الخدمات الى ما بعد السنة الأولى من سريان الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي، وهذه فرصة لقطاع الخدمات كي يحيد عن منافسة غير متكافئة لا سيما في قطاعات التأمين والنقل والسياحة، فضلاً عن القطاع المصرفي الذي استطاع تنويع خدماته ومد شبكاتها الى الخارج استعداداً لمثل هذه التطورات، وهو على رغم صغر حجمه قياساً مع المصارف الأوروبية، إلا انه يواكب بفاعلية العصرنة الخدماتية. اما في ما يتعلق بتعزيز المنافسة وتحرير تدفق الرساميل، فالهدف إلغاء كل انواع الاحتكار التي من شأنها منع المنافسة المتكافئة في الأسواق، اضافة الى التخلي عن كل انواع القيود او التمييز في ما يخص تدفق الأموال، ومكافحة التبييض واعتماد التشريعات الحديثة في مجالات المنافسة وتحرير الرساميل من اي عوائق على حركتها، إلا في بعض الحالات الاستثنائية. اما في مجال التعاون المالي، فتعززت مسالك الإصلاحات الاقتصادية ومسيرة الإعمار ومعالجة آثار تحرير الأسواق والدعم المقدم للقطاعات المتضررة، وتشجيع الاستثمار الخاص، ودعم خاص لبرنامج التصحيح الهيكلي لدول المتوسط. ويدور التعاون اساساً حول الدعم المالي والمنح والمساعدات اضافة الى قروض البنك الأوروبي للاستثمار. وتشكو دول وقعت اتفاقات سابقة من عدم حصولها على ما كانت تتوقعه من مساعدات مالية اوروبية في اطار برنامج "ميدا 1" الذي انفق 25 في المئة فقط من موازنته. ومن المقرر تقديم دعم مالي لدفع عملية التحول الاقتصادي من خلال برامج ميدا المتتالية وقروض البنك الأوروبي للاستثمار، ودعم مالي لمشاريع ذات بعد اقليمي. اما مسألة التراكم الإقليمي المرتبطة بقواعد المنشأ فلا بد من تنظيمها عربياً لتسهيل دخول السلع العربية المنتجة في اكثر من دولة عربية متوسطية الى الأسواق الأوروبية. وتكمن فوائد الاتفاق اولاً في اهمية توقيع عقد الشراكة بالنسبة الى لبنان وسورية وفي البعد الاستراتيجي الذي يحمله الاتفاق، اذ يمكن للبنان وسورية ان يفيدا منه لدعم دورهما المالي والخدماتي والإنتاجي في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، وتحسين قدرتهما التنافسية، اضافة الى الدفع الذي تعطيه الشراكة لعمليات الإصلاح المالي والاقتصادي والإداري في البلدين التي باتت ضرورية لكي يتمكنا من تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويعتبر الاتحاد شريك لبنان الأول على صعيد الاستيراد، وتبلغ قيمة الصادرات الأوروبية الى لبنان ثلاثة بلايين يورو سنوياً في مقابل 150 مليوناً من الواردات. ويعتبر الاتحاد اهم ممولي عملية التنمية في لبنان، وأكبر مساهم في اعطاء الهبات المالية لتمويل عملية النهوض الاقتصادي ومشاريع البنية التحتية الممولة من البنك الأوروبي للاستثمار. ويساهم الاتحاد في برامج عدة تصب مباشرة في تهيئة الاقتصاد اللبناني لمواجهة تحديات الشراكة لا سيما برنامج التحديث الصناعي. وحصل لبنان على مساعدات انسانية لاستثمارها في اعمال اعادة التأهيل والتمويل المشترك للمنظمات غير الحكومية، ولمكافحة المخدرات، ولقضايا المساواة بين الرجل والمرأة. كما يواصل برنامج "ميدا 2" التركيز على الإصلاحات الاقتصادية عبر دعم تطبيق اتفاق الشراكة، وعلى المسائل الاجتماعية والبيئية وحقوق الإنسان وتنمية الموارد البشرية كالتدريب المهني مثلاً. وتتواصل المحادثات على الأولويات في مجالات التعاون التقني خلال السنوات الثلاث المقبلة، وأبرز النشاطات المرجح تمويلها: دعم الإصلاحات في ميدان التبادل التجاري، والتنمية الريفية، والصناعات الغذائية الصغيرة والمتوسطة الحجم. وتتناول الميزات الأخرى للاتفاق الأبعاد الآتية: - تكريس الاتفاق لبنان شريكاً اقتصادياً وسياسياً رئيسياً للاتحاد الأوروبي في المنطقة، وإرسال اشارة واضحة الى المستثمرين الأوروبيين والدوليين حول الفرص المتاحة للاستثمار المباشر فيه. - دخول حقبة جديدة من العلاقات السياسية بين الجانبين بعد اعلان مؤتمر برشلونة سنة 1995 وتحقيق تحرير التبادل التجاري وإفادة رجال الأعمال والمستهلكين اللبنانيين من ارتفاع درجة التنمية وحجم التجارة والاستثمارات فضلاً عن الحرية الكاملة لدخول المنتجات الصناعية اللبنانية الى اوروبا. - إعطاء الحرية الفورية الكاملة لدخول المنتجات الزراعية اللبنانية من دون رسوم او سقف، باستثناء لائحة محدودة من المنتجات الحساسة التي وضعت لها سقوف متحركة. وفي المقابل يضمن الاتفاق إزالة تدريجية للرسوم على دخول المنتجات الصناعية الأوروبية الى لبنان، على فترة تمتد 12 عاماً بدءاً من العام السادس على دخول الاتفاق حيز التطبيق. كما يقوم لبنان بخفض التعرفة على دخول الصادرات الزراعية الأوروبية بعد خمسة اعوام من بدء تطبيق الاتفاق، اضافة الى سلسلة من التخفيضات في الرسوم اتفق الجانبان على تطبيقها على المنتجات الغذائية. وبالنسبة الى الزراعة، جرى الاتفاق على رفع حصص تصدير بعض المنتجات، وتم إلغاء نظام الحصص على انواع محددة من المنتجات، ولا تزال بعض المنتوجات الأخرى تخضع لنظام الحصص، لكن الثابت ان الاتفاق مفيد للبنان، فهو افضل بكثير من الاتفاقات التي وقعت مع بلدان اخرى. واعطي لبنان ميزة لم تعط لأي بلد آخر، وهي التصدير بكميات غير محددة ومن دون رسوم جمركية. من جهة اخرى، يضع الاتفاق ارضية مهمة لمزيد من التحرير في الاقتصاد اللبناني، عبر التزام لبنان إدراج تشريعات حديثة في مجالات المنافسة والملكية الفكرية وتقرر ايضاً اطلاق محادثات مبكرة لفتح الأسواق امام تبادل الخدمات في مجالات متعددة مثل الخدمات المصرفية والنقل والتأمين والسياحة، علماً ان تحرير الخدمات بين الاتحاد الأوروبي ولبنان يعد من ابرز بنود الاتفاق، على عكس سائر اتفاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي. ويتمتع لبنان استناداً الى هيكلية الإنتاج في اقتصاده، بنظام حر بالنسبة الى تأسيس الشركات والحق في إنشائها، وبالتالي سيشجع هذا الأمر بلدان الاتحاد الأوروبي على انشاء شركات في لبنان كي تفيد من روابطه المتينة مع البلدان العربية المجاورة، في كل المجالات الاجتماعية والمالية والاقتصادية والثقافية والسياسية، إذ ان شركاتها ستعامل في لبنان معاملة الشركات الوطنية، فيما ستتمتع الشركات اللبنانية في بلدان الاتحاد الأوروبي بوضع الدولة الأكثر رعاية، وبالتالي فإن لبنان سيحقق مكاسب كبيرة من تحرير قطاعاته الإنتاجية. ويتيح اتفاق الشراكة مجالات تعاون اوسع بكثير من التجارة والاقتصاد، فهو يؤسس بنى جديدة لتكثيف الحوار السياسي والتعاون في عدد من المجالات من التربية والثقافة الى مكافحة الجريمة وتبييض الأموال والمخدرات. كما يفرض احترام مبادئ حقوق الإنسان والديموقراطية. واطلق برنامج تعاون اقتصادي طموح بين لبنان والاتحاد الأوروبي لمساعدة الشركات الصناعية اللبنانية على مواجهة تحديات الانخراط في الاقتصاد العالمي، ولدعم جهود لبنان في التوصل الى تنمية اقتصادية واجتماعية. وحصل لبنان على معاملة استثنائية عبر موافقة الاتحاد الأوروبي على تطبيق البنود التجارية في الاتفاق فور توقيعه. كذلك حصل على استثناء مهم آخر في موافقة الاتحاد الأوروبي على حذف بند يتعلق بالتعاون الإقليمي يشمل اسرائيل، وهو بند رفضه لبنان قبل حلول السلام العادل والشامل المبني على الشرعية الدولية وقرارات الأممالمتحدة، كما يأمل لبنان من البنى المؤسسية التي يضعها الاتفاق للحوار السياسي بينه وبين الاتحاد الأوروبي كسب مزيد من التأييد الأوروبي لمواقفه السياسية، وتحديداً موقفه المتعلق بعملية السلام في المنطقة ومقاومة الاحتلال. اما انعكاس الشراكة على واردات الموازنة، فمن المعروف ان غالبية الايرادات الجمركية تتأمن من سلع اساسية لا يطولها الاتفاق وهي: المحروقات واستيراد السيارات، والتبغ، والمشروبات الروحية، وتالياً، فالنقص الذي سيلحق بواردات الخزينة نتيجة الاعفاءات أو الخفض الجمركي، سيعوض من خلال عائدات الضريبة على القيمة المضافة، فضلاً عن العمل على زيادة حجم التبادل التجاري مع بعض الاستثناءات التي تتمثل بحماية الصناعات الناشئة. ويضع الاتفاق سقفاً لاجراءات الحماية التي يمكن تطبيقها. ويتناول هذا السقف، الحد الأقصى للرسوم الجمركية المسموح بفرضها وهو 25 في المئة والمهلة الزمنية التي تعتمد خلالها هذه الرسوم، وهي خمس سنوات. كذلك، يمكن لكل من الطرفين وقف العمل ببنود تحرير تجارة السلع في شكل موقت، لحماية قطاعاته الانتاجية المتضررة، أو لمواجهة ممارسات اغراقية يتعرّض لها، مما يسمح له باتخاذ الاجراءات اللازمة بعد اقرارها ضمن اطار مجلس الشراكة، على ان ينسجم ذلك مع ما ينص عليه اتفاق الغات. واشترط الاتحاد الأوروبي اعفاء كل صادراته الى لبنان من الرسوم، علماً ان نحو 80 في المئة من الصادرات الاوروبية الى لبنان تخضع لرسم يبلغ خمسة في المئة في حين ان السلع الزراعية المنافسة للانتاج اللبناني، تدفع رسوماً جمركية مرتفعة اضافة الى رسم نوعي مرتفع ايضاً. ولا تشكل الاعفاءات التي قدمها لبنان للسلع الأوروبية الزراعية المستوردة خطراً حقيقياً على انتاجه الوطني. من هنا عمد لبنان الى خفض الرسم المفروض حالياً من 70 في المئة الى نحو 50 في المئة، واعتباراً من السنة الخامسة لتطبيق الاتفاق، يبقي بعض الحماية على الانتاج اللبناني مكرساً لائحة سلبية ازاء بعض السلع الزراعية الاوروبية. واستوجب تحقيق الانجازات التي سبق ذكرها، بعض التنازلات التي تمسك بها الجانب الأوروبي بشدة، ومنها ما يتعلق ببند الازهار وصناعة الاجبان باستثناء الاجبان المصنعة في لبنان. وهذان البندان يخفضان فوراً لدى دخول الاتفاق حيز التنفيذ، وبالتالي يخفض الرسم على الازهار في لبنان الى 30 في المئة وعلى الاجبان الى 20 في المئة. في المقابل، تمكن لبنان من المحافظة على الحماية لسلعتين لا تقلان أهمية وحساسية، هما زيت الزيتون والنبيذ. اما العمالة والهجرة وحقوق العمال فلم يتطرق اليها الاتفاق بما في ذلك الضمان الاجتماعي والعطاءات الاخرى فيما تطرقت اليها اتفاقات الاتحاد الأوروبي مع تونس والمغرب بهدف الحد من تدفق المهاجرين الناتج من الفروقات الشاسعة في مستوى الدخل والمعيشة بين الفريقين. ولم تطبق هذه الاعتبارات على لبنان ربما لأن المهاجرين اللبنانيين الى أوروبا هم عادة من اصحاب الكفاءة والخبرة ورجال الاعمال. اقتصادي لبناني.