على رغم بعض التشاؤم حيال ما يحيق بمنطقتنا من اخطار وما يرتسم في الأفق من علامات غير مطمئنة، فإننا لا نشارك بعض المحللين والكتاب تشاؤمهم المفرط بمستقبل الأوضاع العربية عموماً والخليجية خصوصاً، ولا نجاريهم في اعلان وفاة العمل العربي المشترك سواء على المستوى العام أو على مستوى التجمعات الاقليمية وأبرزها بالطبع وأقواها تأثيراً "مجلس التعاون لدول الخليج العربية" الذي ولد في ظل صراع الجبارين وتعرض خلال مسيرته لامتحان صعب نتيجة تداعيات الحرب العراقية - الايرانية والغزو السوفياتي لأفغانستان، والذي حتى بعد عقدين على انشائه لا تزال الإرهاصات الخطيرة نفسها في منطقة الخليج، مما حال دون تلبية طموحات وآمال مواطني دول الخليج وشعوبها كافة، كما يقول عدد من المثقفين والمفكرين. نقول ذلك على رغم ان صورة ما جرى فجر الثاني من آب اغسطس عام 1990 لا تزال وستبقى لأجيال مقبلة، ماثلة في أذهاننا ككويتيين وفي أذهان الأحرار من أبناء أمتنا العربية، فما حصل حفر عميقاً في "الوجدان الكويتي"، وأحدث جروحاً وندوباً في جسد التضامن العربي من الصعب اندمالها وشفاؤها، لكنها سنة الحياة ان يخرج دائماً ضوء ولو صغير وسط الظلام، وان ينتفض طائر الفينيق من بين الأنقاض ليجد من يرعاه ويتعهده ويطلقه من جديد... وهكذا هو التضامن العربي واستطراداً التضامن الخليجي الذي لقي من جانب الكويت قيادة وشعباً على رغم جراحها ومأساتها كل تجاوب شهد عليه حتى الذين تحاملوا على الكويت في وقت من الأوقات. ولسنا هنا في هذه العجالة في معرض العودة الى فتح ملفات خلافية نجهد مع الطيبين الى اغلاقها وحصر مفاعيلها، لكننا ومن باب "الشيء بالشيء يذكر" نجد من الضروري التذكير بمواقف كويتية، منذ المؤتمر الاسلامي في الدوحة في كانون الأول ديسمبر 2000 ومروراً بقمة عمان العربية عام 2001، وموافقتها من دون تردد على اختصار تداعيات الغزو العراقي الى تعبير "الحالة بين العراقوالكويت" ضناً من القيادة الكويتية بالتضامن العربي وحرصاً على قلب الصفحة السوداء الى صفحة اكثر اشراقاً وأملاً للشعوب العربية. غير ان المواقف المتعنتة إياها حالت دون التقدم ولو خطوة واحدة على الطريق، فكان من الطبيعي ان ينتقل هذا الملف بكل أثقاله الى قمة بيروت العربية الأخيرة التي برز معها اصرار من جانب القادة العرب على ترجمة التمنيات الى واقع، ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم، فكان البند العشرون من مقررات القمة المتصل بالحالة بين العراقوالكويت والذي لم يلق مرة جديدة من الجانب العراقي غير التجاهل والمماطلة والتسويف، اللهم باستثناء ما صدر أخيراً عن الرئيس العراقي وسمي زوراً "رسالة اعتذار من الشعب في الكويت". لقد كان على الكويت التي تعرضت مرة جديدة الى جملة افتراءات وتهديدات والى حملة تحريض لافتة في توقيتها ومراميها، ان تضع ذلك كله أمام الأشقاء العرب، فكان تحركها باتجاه لبنان بوصفه الرئيس الحالي للقمة العربية لاستصدار موقف واضح حيال ما تعتبره افتئاتاً على مقررات قمة بيروت وتجاهلاً لها، وزعزعة لكل ما بناه القادة العرب من جسور ثقة كان على بغداد ان تقوّيها وتحصنها بمواقف ايجابية ومطمئنة تجاه الكويت، ثم كان توجه الكويت إلى شقيقاتها الخليجيات في قمة الدوحة التي جاءت فعلاً لتشكل انتصاراً جديداً للحق الكويتي، وتجسيداً لإرادة الأشقاء الخليجيين في نصرة الحق ودحض الباطل وحماية الدولة الصغيرة من جور الشقيقة الأكبر. لم يكن ذلك غريباً على العمل الخليجي المشترك ولا طارئاً على مواقف الدول الخليجية منفردة، فما صدر من مواقف حيال خطاب "الاعتذار" العراقي كان واضحاً في إدانته للهجة التحريض والتهديد ضد الكويت، فها هو أمين عام مجلس التعاون الخليجي "القطري" يبادر فور اذاعة "الخطاب" إلى إدانة ما ورد فيه، وها هو وزير خارجية الدولة المضيفة يدعو بكل صراحة الحكومة العراقية إلى الكف عن كل ما من شأنه ابقاء الوضع في المنطقة في دائرة التوتر، ويعلن بوضوح أن أمن الكويت هو من أمن شقيقاتها الخليجيات، وان ما تعتبره الكويت تحدياً لها هو في الواقع تحد لدول الخليج عامة. وبين هذا الموقف وذاك تبرز مواقف مشابهة لوزير الإعلام والثقافة في دولة الإمارات ولوزير خارجية سلطنة عُمان. إن العمل المشترك العربي، والخليجي بالذات، يجتاز في هذه الآونة أدق مراحله وأصعبها، وهو ان لم يلق العناية من أطرافه، وان لم يستوعب أولو الأمر في بغداد الدرس القاسي مما أقدموا عليه عام 1990، وان لم يتنازلوا عن مكابرتهم ويقروا بما فعلوه، فإن المنطقة مقبلة على مستقبل مظلم ووضع لا تحسد عليه وهو لن يؤدي إلى تخفيف الوجود الأجنبي الذي لم يكن ليتزايد لولا غزوه الكويت وتهديده لأمن المنطقة واستقرارها، ولقد كان ملك البحرين الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة واضحاً في تأكيد هذا الأمر، بإعلانه أمام وفد برلماني كويتي برئاسة رئيس مجلس الأمة السيد جاسم الخرافي أن الوجود الأميركي في المنطقة إنما جاء بطلب من دولها لحمايتها خلال فترة الغزو العراقي التي وصفها بالسوداء. وكم كان ملك البحرين صادقاً ومعبراً عن رأي خليجي عام طالما أكد عليه قادة دول مجلس التعاون في دعوتهم إلى التلاحم والتكاتف وإلى تغليب المصلحة القومية والخليجية على أي مصلحة ضيقة. ذلك أن الجميع يدرك أن الوجود الأجنبي يقوى بتفرق الصفوف وتنتفي الحاجة إليه، عندما تبنى الثقة ولا تعود الدول الصغيرة مهددة بوجودها وسيادتها وحدودها من جاراتها الكبيرة، وعندما نشد الرحال جميعاً باتجاه الوحدة ونغادر أهواءنا ونغلب مصلحة شعوبنا التي لن تكون إلا مصلحة مشتركة يتم من خلالها تحصين الوجود والحدود. ولسنا هنا بحاجة للاسهاب في التذكير بمواقف الكويت الرائدة وشقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي في مجال العمل العربي الوحدوي وفي رفد كل تحرك عربي مشترك بالقوة والمنعة، وفي التشدد ضد الوجود العسكري الأجنبي في المنطقة، يوم كان غيرها يخفض الجناح لمثل هذا الوجود، لولا أن الإطاحة بكل روابط الاخوة العربية على يد "الأشقاء" في العراق دفعت الكويت إلى اعتماد هذا "الخيار" المر. إن دول مجلس التعاون الخليجي التي أكدت من خلال الاجماع العربي رفضها توجيه أي ضربة عسكرية للعراق وللشعب العراقي الشقيق، والتي أعادت التأكيد على هذه الروحية من خلال تصريحات وزراء خارجيتها المشاركين في قمة الدوحة ومن بينهم بالطبع النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح المشددة على رفض استهداف العراق بأي عمل عسكري، تؤكد في الوقت نفسه على مسؤولية القيادة العراقية في سحب الذرائع وتفويت الفرصة على أي ضربة عسكرية، وفي مواصلة ابراز حسن النية تجاه الكويت وفي التعاون مع المفتشين الدوليين والقبول غير المشروط للقرارات الدولية، وتؤكد ايضاً وأيضاً على ان المطلوب من قادة العراق وفي هذه المرحلة الدقيقة ان يبادروا الى فتح صفحة جديدة عنوانها الرئيسي الافراج عن الأسرى والمرتهنين الكويتيين واعادة الممتلكات الكويتية وتسليم الأرشيف الكويتي الحقيقي، لأنه عن هذا الطريق وحده يستطيع العراق اقناع الكويت أولاً والعالم ثانياً بصدق نواياه وصحة توجهاته وبأنه استوعب الدرس... عندها تستطيع دول الخليج ان تعيش بأمن وأمان وتلتفت للتنمية الاقتصادية وتبتعد عن العسكرة في عالم ينكمش أمامنا وسط التكتلات الاقتصادية والمصالح المشتركة. أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت.