في الأدب العربي الحديث ترددت كثيراً صورة المقاتل الفلسطيني، وهذه الصورة تُرسم عادة بما يتفق وجلال الدور التاريخي الذي يلعبه هذا المقاتل. ولقد اكتفينا بالتوقف أمام ما خطه محمود درويش شعراً وليانة بدر نثراً في هذا الصدد، الأول في قصيدة "احمد الزعتر" والثانية في رواية "عين المرآة"، فهما معاً تتناولان محتوى واحداً، هو مسألة "تل الزعتر" وبالتالي تصبح المقارنة بين التناول الشعري والتناول النثري ذات دلالة خاصة، نظراً لثبات المضمون. وهذه المقارنة ستكشف عن الفارق النوعي بين كلا التناولين. وحين يتعلق الأمر بكيفية تناول صورة المقاتل في كلا العملين، فإنه يصبح من الضروري البحث في "كيفية" الكتابة ذاتها، وفي هذا الصدد يقرر جون كوهين أن "المحتوى في الشعر ليس مما يفوق التعبير، ما دام الشعر قد عبر عنه، لكن الحقيقية أنه يستعصي على النثر، لأنه يتجاوز العالم التصوري الذي تحدد فيه اللغة المعنى. لكننا نرى أنه ليس هناك محتوى يستعصي على أي نوع من الكتابة، اذ ان الاختلاف بين الأجناس الأدبية في تناول المحتوى الواحد، هو اختلاف في "كيفية التناول" وليس في "القصيدة على التناول"، على العكس ما يشير كوهين، ونحن اذ نتحدث عن "طريقة التناول"، فإنه من الطبيعي ان يتم التناول الشعري بطريقة تلفت الانتباه الى جماليات اللغة الشعرية، على حساب المضمون ذاته، بينما ستؤكد الكتابة الروائية المضمون، ليكون الاهتمام به أسبق من الاهتمام بالشكل. وسيؤدي هذا بناء الى اعادة انتاج مقولة سارتر الشهيرة، لتكون: "المضمون في الكتابة النثرية يستخدم اللغة، وفي الكتابة الشعرية يخدمها". ملامح الصورة: أول ما نلمحه في رسم صورة المقاتل الفلسطيني، هو اضفاء لمسة من التقديس عليها من خلال التسمية، فالبطل في كلا العملين - القصيدة والرواية - اسمه أحمد، وهذه التسمية ليست مجانية او اعتباطية، حيث ان استدعاء الاسم النبوي يضفي صبغة خاصة على شخصية المقاتل، خصوصاً اذا عرفنا أن "خير الاسماء ما عُبد وحُمد". فإذا ما ذكرنا على بطل "عين المرآة" سنجد أن له اسماً حركياً يشتهر به هو: جورج. وهذا الاسم المسيحي اضافة الى انه يوجد بين عنصري الأمة الفلسطينية، حين يقف الى جوار التسمية الأصلية، فإنه - من جانب آخر - يضفي قداسة أخرى على شخصية المقاتل، نتيجة ارتباط هذا الاسم بعدد من القديسين في التراث المسيحي. وبذلك فإن الاسم يدخل بالبطل مباشرة الى بؤرة التقديس، كما يشكل إطاراً وجدانياً لصورته داخل ذاكرة التلقي. والى جانب التسمية، فقد تمت اسطرة ملامح المقاتل الفلسطيني في كلا العملين، بهدف تساميه على الواقع المتدني الذي يحيله من منفى الى آخر. ففي "عين المرآة" تصف الرواية شخصية البطل المقاتل بأنه: كان أجمل من المخيلة نفسها، فلا عين رأت ولا أذن سمعت مثيلاً لجاذبيته، السحر يطل معه حينما اطلت عيناه العسليتان النفاذتان، والفتنة ترافق خطواته المهيبة الآسرة. وبالطبع فإن الصفات التي تطلقها الرواية عليه، هي صفات تليق بالملائكة اكثر مما تنطبق على البشر، فليس هناك من هو "اجمل من المخيلة" إلا ما لا يستطاع ان يدرك بالخيال!! وهنا، يتحول هذا البطل المقاتل لكي يصبح كائناً خرافياً، يليق بالحلم اكثر مما يليق بالواقع، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا حين يتوحد هذا المقاتل مع حلمه، حتى يصعب الفصل بينهما. وفي موضع آخر من الرواية: "تنظر اليه عائشة، كأنما تراه للمرة الاولى، كرجل حقيقي، وليس كصورة في أيقونة". فلكي تستطيع الحبيبة الامساك به فإن ذلك يستلزم ان تجرده من أسطوريته، وأن تخرج القديس من داخل الايقونة، لكي يصبح مجرد رجل، تستطيع أن تعايشه في الواقع بعد أن زهدت في معايشته داخل الحلم. وعن المقابل، فإن قصيدة "أحمد الزعتر" لا تبتدع كثيراً عن فعل "الاسطرة"، لكن الكيفية هي التي تختلف عبر اختلاف الأداة، اي بإحلال اللغة الشعرية بدلاً عن اللغة النثرية، حيث تبلغ الكثافة اللغوية والاقتصاد الادائي ذروتيهما. فالقصيدة تضفي على البطل صفات اسطورية، بدءاً من تماهي المجموع به: وصدري باب كل الناس او تراسله مع بعض مفردات الطبيعة: وهو يوم الشمس والزئبق، او من خلال تفرده الكوني: إن التشابه للرمال، وأنت للارزق وكذلك قدرته على الحلول في الآخر: والآن، اكمل فيك اسئلتي / وأولد من غبارك وتستمر القصيدة في أسطرة شخصية المقاتل، فهو خصر كل الريح، وأسبوع سكر، وهو اسم العيون، ورخامي الصدى كما انه يجمع بين المتناقضات يدي تحيات الزهور وقنبلة، إضافة الى أنه قد صار من خلال وحدة الوجود هو العبد والمعبود والمعبد وهذه الصفات جميعاً، من خلال تراسل مع الطبيعة، والجمع بين المتناقضات، والحلول، والتماهي، والتفرد، ووحدة الوجود، الخ، كل ذلك أدى الى اسطرة شخصية احمد الزعتر، فتحول بدوره الى صورة داخل أيقونة اللغة الشعرية. وينتقل فعل الأسطرة من الصفات الى الوسط الذي يتحرك عبره - عادة - البطل الأسطوري، والذي يتميز بأنه مملوء بالمخاطر والدروب المظلمة، وفي رواية "عين المرآة" يقوم الشعر الشعبي بذلك الدور، من خلال اضفاء الحزن العظيم على واقع البطل، في ما يشبه المرائي. وفي المقابل، فإن القصيدة تزخر بذلك الحزن العظيم والنبيل، الذي يمتد بامتداد الكون حول البطل وتأتي تلك المرائي على هيئة "مربعات"، تتفق مع الشعر الشعبي في أنها تقترب من شعر "العديد". ففي الرواية لا تختلف معظم أبيات الشعر الشعبي عن هذا البيت المؤسسي: يا أم الاثنين ابكي على واحد منهما/ ويا أم الواحد أبكي عليه فكأن حال الموت / الاستشهاد هي فرض عين على كل اسرة فلسطينية، وهل هناك جو أسطوري مظلم يتفوق على هذا الواقع الذي يدخل فيه الحزن كل بيت؟ وفي القصيدة تتعدد أنواع العديد ذات الأسطر الرباعية، مثل: لا تسرقوه من السنونو/ لا تأخذه من الندى/ كتبت مراثيها العينون/ وتركت قلبي للصدى، وتصل المرائي داخل القصيدة الى ذروة الحزن العظيم، حين يتحول المقاتل الى مخلص جديد، بعد أن يفتدي الجسد الخريطة: لا تسرقوه من الأبد/ وتبعثروه على الصليب/ فهو الخريطة والجسد/ وهو اشتعال العندليب. على أنه من أهم ملامح المعاجلة الشعرية والروائية لصورة المقاتل الفلسطيني، هو تفاؤل الإرادة الذي يقهر التشاؤم الواقع. والقصيدة تلخص ذلك التصور في سطر واحد، طبقاً لمبدأ الكثافة اللغوية، حين تصف المقاتل بأنه: الجسد الذي يتزوج الأمواج فوق المقصلة، إن هذا الارتباط بين الجسد المحدود والبحر اللامحدود اشار الى الانطلاق من النسبي الى المطلق، ومن الانغلاق على الواقع الى الانفتاح على الحلم، ومن سجن الذات الى حرية الأفق، وذلك لا يتحقق إلا بتفأول الارادة الذي يتغلب على تشاؤم الواقع، الذي ترمز إليه المقصلة. وفي الرواية، نجد أن المقاتل يعبر نثراً عما أوجزته القصيدة شعراً، فيقول: "أنا لولا الأمل ما صرت فدائياً. هل يمكن أن أقاتل علشان الموت وحده". فالهدف النبيل الذي يسعى اليه البطل في كل من القصيدة والرواية، هو الذي يصنع تفاؤل الارادة المتمثل في الأمل، وهذا التفاؤل هو الذي ينتقل بالفعل من تخوم الحلم الى حدود الواقع، لينتصر الحلم على المقصلة. وتحفل كل من القصيدة والرواية بذلك الوجع العربي، الذي أحالنا الى مجرد "ظاهرة صوتية" حيث لم نعد نملك سوى الشجب والإدانة، أو الصمت المهين في معظم الأحوال. فالبطل في الرواية يصرح بمرارة، عندما لا يستأسد الاشقاء سوى عليه: كيف تتحرر فلسطين؟ مرة ايلول، ومرة الكحالة، ومرة بيروت، واحنا مش ملاحقين هون ولا هون. ونصل الى ذروة المأساة حين ندرك أن المذبحة تمت تحت حماية قوات الردع العربية، وتحت سمع وبصر كل الحكومات العربية. ويلخص فريد/ صديق البطل مأساة الاشقاء، حين يقرر أنهم قبل تحرير فلسطين يريدون تحرير الدول العربية من وجودنا أولاً وهذا المعنى هو ما ترمي اليه القصيدة: كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة. اما المأساة نفسها في تل الزعتر، فقد كانت نتيجة منطقية للمقدمة التي تسوقها القصيدة: ومن الخليج الى المحيط، من المحيط الى الخليج/ كانوا يعدون الجنازة/ وانتخاب المقصلة. وتظل أجمل ملامح المقاتل الفلسطيني في كلا العملين، تراسله مع صورة العنقاء او طائر الفينيق، حيث ينبعث مرة أخرى من رماد فنائه، ليصير أقوى وأكثر إصراراً مما كان، والقصيدة تحدد ملمح التجدد المستمر في هذه الصورة: يا أيها المتفرجون تناثروا في الصمت.. وابتعدوا قليلاً كي يتلو وصيته الأخيرة على الموتى اذا ماتوا وكي يرمي ملامحه على الأحياء إن عاشوا!