ما الذي سنخرج به بعد عرض الحلقات الأخيرة لمسلسلات رمضان هذا العام؟ هل ترانا كنا كمن يطحن الماء؟ سؤال يستدعي آخر، إن كان دور الدراما هو قتل الوقت في انتظار موعد الإفطار او السحور وإلهاء الجمهور بحكايات الآخرين فموسم المسلسلات كان ناجحاً هذا العام. وإن كان دور الدراما هدهدة المخيلة الشعبية بوصفات قيل انها ترضي ذوق العامة او "الجمهور" يمكن ان نجيب عن ذلك متى عرفنا من هو هذا المجهول "الجمهور" وهل كان في قطاف هذه السنة تنويع يضمن ارضاء مختلف الأذواق. وهل وضعت الإصبع على المواضيع التي تهمّ فعلاً هذا الجمهور؟ اما اذا كان دور الدراما هو الإمتاع والإفادة وعكس صورة لواقع ما، فهنا تصعب الإجابة عما اذا بلغت مسلسلات هذا العام الهدف وإلى اي حد. سيل من العناوين غزا الشاشات هذا العام، واحتلت البيوت فسيفساء من القصص والمشاهد. غزارة الإنتاج هي بالتأكيد شيء إيجابي يخدم الدراما كصناعة وكفن ويتيح الاختيار للمشاهد، مع العلم ان تحكم سوق المنتجين في حقوق العرض يحد من حرية فعلية لاختيار المشاهد، ولكن يبدو هذا العام ان الكثرة قضت او كادت على التميز، الى درجة ان جزءاً كبيراً من المسلسلات قدم قصصاً وسيناريوهات متشابهة، شخصيات متداخلة، ادواراً ومشاهد معادة. وكالعادة كانت المسلسلات مقسمة الى قسمين: المسلسلات الاجتماعية والمسلسلات التاريخية. اما الجديد في هذا التقسيم التقليدي فكان وجود عدد قليل من المسلسلات التي تتناول موضوع المقاومة من اجل فلسطين والمناهضة للصهيونية اهمها "ردم الأساطير" سوري و"فارس بلا جواد" مصري. حكاية لكل بيت الدراما الاجتماعية التي قدمت هذا العام تنقسم الى قسمين: فهنالك من جهة المسلسلات المحلية، يتم الإقبال عليها تماماً كالأكلات المحلية التقليدية لشهر رمضان، ويكفي وجودها لتحقيق بعض الرضا. المهم ان تكون جزءاً من برمجة رمضان كما تكون الأكلات المحلية جزءاً من مائدته. وهنالك من جهة اخرى المسلسلات الاجتماعية المصرية وهي الطاغية عربياً والتي نركّز عليها في هذه السطور. وسواء كانت هذه المسلسلات في مستوى المقبول ام دون ذلك، فقد اتسم جلها بالتمطيط المبالغ فيه الى حد الملل والسخافة من اجل احتلال الشاشة واهتمام المتفرج اطول وقت ممكن على حساب جودة العمل، سواء تحملت القصة طول عدد الحلقات ام لا. وهي عملية لا تخلو طبعاً من الفائدة التجارية التي تأتي احياناً قبل المصلحة الفنية. وعلى رغم كثرة المسلسلات المصرية التي أنتجت هذا الموسم لم يفلح إلا عدد قليل من فرض نفسه، ولا ندري بالضبط إن كان ذلك بسبب قيمتها الحقيقية ام لكثرة عرضها على اهم الشاشات الأرضية منها والفضائية واحتلالها الشاشات في اهم اوقات المشاهدة. ومن اهمها: مسلسل "اميرة في عابدين" للكاتب اسامة انور عكاشة وبطولة سمير احمد، "أين قلبي" اخراج مجدي ابو عميرة بطولة يسرى، و"العطار والسبع بنات" اخراج محمد النقلي بطولة نور الشريف. وإذا اضفنا الى هذه العناوين الأكثر عرضاً مسلسلاً آخر وهو "يحيا العدل" اخراج محمد عبدالعزيز وبطولة ميرفت امين ومصطفى فهمي ومديحة يسري، نخرج بقراءة طريفة من حيث التقسيم بين معسكر الشر وديار الخير. تشترك هذه العناوين بطريقة او بأخرى في تقديم عالم الثراء والمال والجاه، كوكر للفساد والسرقة والظلم، يكاد لا يصدر عن اهله سوى الغدر والاحتيال أو الجبن والظلم. في حين ان الأحياء الشعبية والحواري والعائلات المتواضعة الدخل هي مصدر الخير والفضيلة والأخلاق الحميدة، كأن النجاح المادي لا يأتي إلا عبر الفساد، وكأن الثراء مرادف دائماً للظلم: السعادة ليست في الغنى، فحبّب إليهم الفقر مصدر الهناء والفضيلة. ولكن الطريف ليس هنا وإنما في كون العناوين الثلاثة الأولى: "اميرة في عابدين"، "يحيا العدل" و"اين قلبي" تقدم الرجال والأزواج كسبب الفساد والتجارة غير الشريفة التي تجر الويلات على العائلات فتتولى النساء البريئات: سميرة احمد في "اميرة في عابدين"، يسرا وصديقاتها في "اين قلبي" وميرفت امين في "يحيا العدل"، دور محاربة الفساد والذود عن الخير وعن مصلحة العائلة والأبناء. إن كان صحيحاً ان المجتمعات مقسّمة بالفطرة الى خير وشر هل هذا الشكل هو الذي نعيشه فعلاً هذه الأيام؟ على العموم هذا اعتراف بفضل النساء مهما كان لا يردّ عسى ان يصبح في ارض الواقع وليس فقط على الشاشة! وهل يمكن ان نختم التعليق على المسلسلات الرائجة من دون التعرض للبطل الشعبي: رامبو رمضان "الحاج متولي، او العطار او عبدالرحمن او ما شئت؟" هل نخلص اخيراً من ملحمته بعد ان هوى نجمه هذه السنة إذ أسقطته مثاليته، في الظلم والجبن، على رغم اسم صالح، جبن امام زوجته الأولى وظلم لزوجته الثانية والإهمال لابنه واستغلاله له وحرمانه من الإرث. ثم في حياته الثانية! اسقطته استقامته الخرافية وطيبته الملائكية في السذاجة وثقل الدم، وما كان مقنعاً لا في الأولى ولا حتى في الثانية. هل يدرك مخترع هذه الشخصية انه قال كل ما لديه، ولم تعد "الخلطة" تدر التعاطف والإعجاب وأن الحاج رامبو يموت كغيره!! حق المشاهد ان كانت هذه المسلسلات حققت بعضاً من التسلية فيا حبذا، إذ من حق المشاهد ان يتمتع بما يريد من قصص، وللفنانين حرية ان يقدّموا فناً من دون وصاية الخطأ والصواب، ولكن المزعج هو ان جل هذه المسلسلات لا يزال يتدثر بغطاء الواقعية وإرضاء الذوق العام ما يكرّس عدداً من السلوكيات والتصرفات التي لا تخدم تطور المجتمعات والأجيال العربية في مسائل كثيرة مثل ضرب الأبناء او قمعهم، إذلال الذكور والإناث، مسايرة غرائز الوصولية والشغف بالمظاهر والقشور وكذلك الطرح السلفي لمواضيع الإنجاب والزواج او الطلاق. مع الإشارة الى ان مسلسلي "اميرة في عابدين" و"أين قلبي" يحتويان بعض الإشارات الإيجابية للشباب. في المقابل، هنالك مسلسل حاول الإفلات من القطيع وحاول التطرق الى موضوع مسكوت عنه وهو علاقة الحاكم بالمحكوم، بأسلوب طريف وهو مسلسل "جحا المصري" بطولة يحيى الفخراني وإخراج مجدي ابو عميرة. لقد حاول هذا المسلسل محاكاة عالم المقامات وتقديم الحكمة عبر النكتة والتهكم والفكاهة العبثية. كان يمكن لهذا المسلسل ان يحرز اهتماماً اكبر لو عرض خارج زخم المسلسلات السهلة الاستهلاك وبعيداً من حمّى الطبخات التقليدية التي تفرد لهذا الموسم. وهكذا في مجملها مع بعض الاستثناءات الهامشية حاولت هذه المسلسلات الاجتماعية تقديم صورة عن الواقع بالاستعانة بالخيال. اما النوع الآخر من الدراما فقد آثر تقديم صورة عن الواقع من التاريخ! مجد القوافي وحد السيف المسلسلات التاريخية كانت غزيرة بل لعلها بلغت رقماً قياسياً هذا العام. إذا كان انتاج المسلسلات التاريخية شيئاً مألوفاً خلال رمضان فإن هذا العدد الكبير من العناوين قد يعود للظرف السياسي والحضاري الذي يمر به العالم العربي الإسلامي هذا العام والذي جعل المنتجين يستعيدون ماضي الفروسية وأمجاد الشعر والبطولات للتعويض عن المعارك التي لم تخض في وجه العدو الحالي بمعارك ومجازر من الماضي التليد! ولا أعتقد ان صنّاع هذا النوع من الدراما وفقوا حيث فشل زملاؤهم في الدراما الاجتماعية "الواقعية". ان هذا النوع من المسلسلات الذي ابدعت فيه المواهب السورية خصوصاً حاول إعادتنا الى امجاد الشعر، صرح العرب المتين، ولكنه اعاد على مشاهدنا مواقف من تاريخنا جعلتنا في حيرة: أنحكم على المسلسلات ام على هذا التاريخ نفسه؟ إذ لا ندري إن كان حاضرنا يحاكي الماضي ام ان الماضي يعيش في الحاضر. غوغاء من الثأر وفوضى الانقسام والغدر؟ قطرة ضوء وبين مسلسلات الحاضر المعاش ومسلسلات الماضي البعيد، كان هنالك على اية حال مسلسل من النوع "البيوغرافي" او هكذا اقبلنا عليه فوجدناه تاريخياً من حيث لم يدّع ودينياً واعظاً متنوراً وسياسياً غير مراوغ او متهور إنه مسلسل "قاسم امين" من اخراج انعام محمد علي بطولة كمال ابو رية وعدد من الفنانين المقتدرين. لقد اتى مسلسلاً يسلط الضوء على فترة هي من اهم وأثرى فترات تاريخنا الحديث يعيش فيها ماض جميل بطموحاته، بنّاء بأطروحاته. بطل المسلسل هو المصلح قاسم امين ولكنه ليس هو فحسب بل كذلك هناك رواد النهضة والصحوة الإسلامية كمحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وتلاميذه وأتباعه ورواد الوطنية كسعد زغلول وغيره. وإن كان المسلسل ركّز بصفة نراها مبالغة على هموم سعد زغلول القلبية اكثر من السياسية، وما تعودنا على رؤية المراهق قبل البطل الوطني في سعد زغلول! السيناريو في هذا المسلسل وكذلك الأبطال اتوا جميعاً يحاورون العقل، هذا المغيّب الكبير في الأعمال الأخرى، ويقوّمون الأخطاء الشائعة بسبب استناد خاطئ للدين والسلفية، ويدعون التسامح محل التعصب. مسلسل "قاسم امين" على رغم بعض التطويل الممل في عدد من حلقاته بدا في زخم ما يعرض، العمل الأكثر ملاءمة لهذا الظرف والأبلغ فرجة وإفادة تغطي ايجابية افكاره ومتعة قصته على تصرف السيناريست في بعض الحقائق التاريخية واعتماد بعض المبالغات التي تحسب على حرية الإبداع والتصرف.