صدر أخيراً كتاب يتناول مسيرة الفنانة سلوى روضة شقير: حياتها وفنها، في طباعة فاخرة وإخراج أنيق 182 صفحة من القطع الكبير باللغتين العربية والإنكليزية. وهو إنجاز كبير في زمن القحط الثقافي على المستوى الرسمي لعدم الاهتمام بإصدار كتب مماثلة عن كبار فنانينا. قدمت له هالا شقير في كلمة تنضوي على استذكارات حميمة عن والدتها تقول: "سبب وجود هذا الكتاب هو رغبة والدتي في رؤية أعمالها الفنية الكاملة مجموعة في مجلد واحد. لكن الشيخوخة غافلتها. فاستنفدت نشاطها ومنعتها من تحقيق مشيئتها". لعل الكتاب باح هذه المرة بما يرضي رائدة التجريد الهندسي في لبنان والعالم العربي سلوى روضة شقير، سواءً بالنصوص التي كُتبت أو الصور التي جُمعت بين دفتيه. لأنها قلما ترضى عن نص يُكتب عنها أو تثق بناقد يتناول تجاربها ومراحلها. فمن يخالفها في أفكارها أو يجادلها بها أو يبحث لتجاربها النحتية عن قرابة تربطها بالحقائق الفنية والمدارس الموجودة في الغرب، يكون خانها وظلمها. ولطالما لحق بها الظلم والغبن والخيانة حتى باتت هذه المواصفات لصيقة شخصيتها التي تعرف كيف تتحين الفرص كي تجادل وتصادق وتعادي وتهادن. وهي بالطبع شخصية فذة وصلبة ورائعة في آن، كافحت كي تدافع عن قناعاتها الفنية. ومَن مِن الفنانين الكبار لم يكافح كي يصل؟ ألم تعش النحاتة الإنكليزية برباره هيبورث طويلاً في ظلال شهرة هنري مور؟ وإن كانت سلوى عانت طويلاً الإهمال الرسمي لها، فإن هذا الإهمال طاول ويطاول معظم الفنانين التشكيليين والنحاتين منهم على وجه الخصوص. بيد أننا نكتشف من السيرة التي نسّقها سيزار نمور أن النحاته شقير هي أكثر فناني جيلها التي حصدت الأوسمة والجوائز التقديرية على المستوى الرسمي اللبناني والعربي، على رغم أن جل إنتاجها النحتي ظل ضمن نطاق الأحجام الصغيرة والمتوسطة التي في مقدروها ان تنفذها داخل مساحة محترفها ولم يتجل إلا نادراً في تماثيل نصبية ضخمة. ذلك بالطبع لا يقلل من قيمة تصاميمها النحتية القابلة للتكيف بأناقة لا مثيل لها مع الوظائف الحديثة للنحت المتصلة بهندسة العمارة داخل الفضاء المديني. ويبدو ان التكريم الذي لقيته في بينالي الشارقة الثالث للفنون من دولة الإمارات العربية عام 1997 أثار انتباه شركة سوليدير الشركة اللبنانية لإعادة إعمار وسط بيروت التي بادرت الى احتضان تلك الطاقة الاستثنائية في سبيل تجميل الساحات والحدائق، كموقف يعيد الاعتبار الى النواحي الجمالية والفنية لدى الذائقة العامة. فاقتنت منها منحوتتين حجريتين تتألف كل منهما من خمس قطع وُضعت في الحديقة المواجهة لمقر الأممالمتحدة في بيروت، ومقعداً حجرياً نصف دائري مؤلفاً من سبع عشرة قطعة، وُضع في حديقة عامة قرب ساحة رياض الصلح في بيروت. والمشروع الأخير هو من ابرز إنجازاتها التي أعدتها في السنوات الأخيرة. ولطالما حلمت سلوى أن تنطلق أعمالها لتتنفس وتعيش في محيط الناس ووسط الأبنية والحدائق. والنحت ليس للزينة بل هو متصل في شكل أساسي بالانسان والمعمار. فالهندسة المعمارية هي محور الفنون وتجسيد للثقافة الانسانية. وهذا المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه تيار البنائية في الفن التجريدي في الغرب ومدرسة الباوهاوس، ومن قبلهما المبادئ التي ترتكز عليها مختلف مجالات الفنون الاسلامية. وصف الناقد جوزف طراب سلوى روضه شقير بأنها "محلقة فوق السرب"، لأن أفكارها سبقت عصرها. ويتذكر التأثيرات الجمالية التي أوجدها معرضها عام 1962 في نفسه، وكان ما زال طالباً في العلوم الإنسانية والاقتصادية يبحث عن ذائقته الخاصة التي وجدت مجالها في النقد الفني. ما يثير إعجابه بها هو إصرارها على تنفيذ عملها بنفسها. إذ انها امتلكت من الخصائص الفنية ما جعلها رائدة في لبنان والشرق عموماً، معتبراً أن تلك الخصائص مرتكزة على جوهر المبادئ الفلسفية للفن الإسلامي من دون أن تكون أسيرة الزخرفة. "لذا فهي مجدِدة". أما جاك الأسود فكتب نصاً ذا طابع نظري متوكئاً على حواراته مع الفنانة ومصحوباً بالاستطرادات والشروحات والاستشهادات والمراجع التي توارب في وصولها إلى مقاصدها ومعانيها وهي تدور أحياناً من حول الموضوع. فهو يجتهد كي يدافع عن وجهة نظر الفنانة، وهو يثبت ريادتها التي لا يسَع احد نكرانها - متحدثاً عن السياق الاجتماعي الثقافي الذي صعّب الاعتراف بفن سلوى في بداياته المتفردة كما لا يزال يشوب بشيء من سوء الفهم الإجماع النخبوي الحالي على تقدير هذا الفن. ويلقي الأضواء على علاقتها بالواقع الذي رفضت نقله منذ البداية حين كانت على مقاعد الدراسة متنكرة لما سماه "قانون الشفوف" الذي اعتبره انه لا يزال من المسلَّمات الواعية واللاواعية التي تسّير معظم الممارسات النظرية والعملية المتعلقة بالفن، متهجماً بسخرية على بعض النقاد الذين افسدوا علاقة الفن بمتلقيه. فكيف إذا كانت له عواقب وخيمة على فنانة مثل سلوى روضة شقير؟ علماً أنها حصدت جوائز متحف سرسق من ستينات القرن العشرين إلى أوائل السبعينات. تقول الفنانة في سياق النص الذي كتبته صديقتها هلن الخال بعنوان "تجسيد الروح" انه في المعرض الذي أقامته في الاونسكو عام 1962 لم يفرق النقاد بين الانطباعية والتكعيبية والتجريد ووصفوا أعمالها بأنها زخرفية: "لقد فشلوا في رؤية الرابط الذي يجمع بينها" وكان المعرض يضم آنئذٍ سبعة وستين عملاً، منها زيتيات وغواش وتصاميم معمارية وبسط وأعمال من الحديد والزجاج ولوحات خزفية وأعمال من الميناء على النحاس ومجوهرات. وكان هذا المعرض نقطة فاصلة في حياة سلوى روضة شقير لأنها ستنصرف من بعده كلياً إلى النحت. ماذا كانت قبل ذلك؟ كانت رسامة ذات أفكار ثورية. ازداد تعمقها بالفن الإسلامي بعد زيارتها مصر واطلاعها على روائع الآثار الفاطمية والمملوكية. عرضت للمرة الأولى في بيروت رسوماً ذات نزعة هندسية في النادي الثقافي العربي الذي كانت مسؤولة فيه عن تنظيم المعارض والمحاضرات. ثم انتقلت إلى باريس حيث أقامت فيها ثلاث سنوات 1948 1951 والتحقت بمعهد الفنون الجميلة ثم بالغراند شوميير ومحترف فرناند ليجيه. تعرفت إلى فنانين عالميين كبار وآخرين شبان أصبحوا عالميين أمثال فازاريللي وبولياكوف وسونيا دولوني وجاكوبسون. عملت في محترف الفن التجريدي للفنانَين جان ديوان وادغار بيلي، كمساعدة إدارية مسؤولة عن إعداد محاضرات ومقابلات مع الفنانين. وفي تلك الآونة أقامت معرضاً في غاليري كوليت ألندي المختصة بالفن التجريدي في باريس وشاركت في صالون الحقائق الجديدة. ولو استقرت هناك على ما تذهب إليه لكانت الآن في عداد الفنانين العالميين. وخير دليل على ذلك الدعوة التي وجهها إليها النحات سيزار للمشاركة في صالون أيار مايو في باريس أوائل السبعينات. وجلي أن سلوى روضة شقير اقتنعت في باريس بصوابية توجهها الفني وبأن كل لغة تشكيلية مستمدة من التشبيه هي لغة ميتة، هي التي راهنت على روحية الزخرفة العربية الإسلامية كمصدر الهام حقيقي لها في حقل التجريد الهندسي. ذلك التيار الذي كان يشهد انطلاقة مهمة في ثلاثينات القرن الفائت بفضل الفنانين الروس تاتلان وبفنسر وكندنسكي. وكان اللجوء إلى المعادلات الرياضية بدأ مع موندريان حتى وصل التجريد إلى أقصى درجات المنطق ومن بعده ماليفيتش الذي نادى بالمعرفة الصافية التي لا تعترف بغير المطلق. وعاشت سلوى في خضم هذه الأفكار وخاضت فيها وأفادت من إنجازاتها، ولكن من منطلقات مغايرة. إذ ان الفن الغربي وصل الى التجريد الهندسي من مبدأ اختزال الشكل الواقعي أو من نتائج التكعيبية، في حين أنها جاءت إلى التجريد من فلسفة الفنون الإسلامية، أي من النقطة والوتر والقوس والدائرة. ذلك ما أرادت توضيحه في نص جاك الأسود حين قالت: "إن أبحاث كندنسكي عن النقطة والخط التي رأيناها جديدة، هي أبحاث قام بها الفنان المسلم منذ القرن الأول للهجرة". لعل ابرز ميزة لهذا الكتاب انه يعرض تصنيفاً ممنهجاً لمراحل سلوى روضة شقير في تسلسلها الزمني، ما يتيح التعمق في دراسة أعمالها والنظر في طريقة تعاطيها مع الكتلة والمادة ومع الحركة في خطوطها الظاهرة والباطنة ومن ثم علاقة تلك الحركة بالفضاء الثلاثي الأبعاد. وعلى رغم تنوع المواد التي شغفت بها سلوى وطوعتها برؤية محدثة في غير مجال تصاميم مصغرة لمبانٍ وقطع حلي وفوارات مياه ظل الخشب مادة أثيرة لها كما يتجلى ذلك في مرحلة من أجمل مراحلها، وهي تلك التي نظمت فيها قصائد نحتية مستوحاة من الشعر العربي، جعلتها تتألف من قطع سمتها أبياتاً مثل أبيات الشعر. وهي مستقلة ومتصلة ببعضها بعضاً. النظم فيها يشبه التستيف في البناء وهو نظم حر على نحوٍ ما وقابل للتغيير والتعدد والتنوع. ومنها أيضاً معلقات مثل ناطحات حديثة تعكس عبقرية تلك المرأة الصلبة التي اقل ما توصف بأنها واحدة من كبار نحاتي هذا العصر. إلا أن العاصفة التي أثارتها سلوى روضة شقير في الستينات من القرن العشرين وما زالت مفارقاتها بلا أجوبة، هي انتقادها شعراء الحداثة على إهمالهم المعنى والوزن! ومثلما أن مقاربة الفن الإسلامي لإنجازات سلوى روضة شقير في النحت تظل شخصية واستنسابية محضة بلا براهين حسية واستدلالية: علمية أو رياضية، كذلك فإن النحاتة ذات الأفكار الثورية التي فجرت شكل القصيدة النحتية في مداها البصري وفككت أجزاءها في علاقة تفاعلية حديثة، إذا بها تتخذ من الشعر العمودي مرجعاً لها؟ القصائد التي أنشدتها سلوى روضة شقير أكثر تعقيداً مما نظن، شأن كل مراحلها التي تحتاج حقاً إلى التحليل والدراسة من الناحية التشكيلية وهي مسألة تكاد تغيب عن متن الكتاب! ذلك أننا إزاء فنانة كبيرة، مبادئها الفلسفية والجمالية ما زالت مثيرة للجدل؟