Georges Malbrunot. Des Pierres aux Fusils: Les Secrets de L'Intifada. من الحجارة إلى البنادق: أسرار الانتفاضة. Flammarion, Paris. 2002. 360 Pages. لا أكتم القارئ أنني ترددت في الكتابة عن هذا الكتاب. فليس أدعى إلى الحرج من التعاطي النقدي مع النضال الوطني لشعب يتعذب ما يتعذبه الشعب الفلسطيني ويتحمل ما يتحمله من تضحيات، فيما الأمة الواسعة العريضة التي يفترض في هذا الشعب أنه ينتمي إليها تقف، حكاماً وشعوباً، في وضعية ذليلة ومذلة من اللافعل. والواقع أن عبارة "التعاطي النقدي" في الصدد الذي نحن فيه تبدو مخففة. فهذا الكتاب هو، في الحقيقة، رحلة تشريحية في عمق الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وكما في كل عملية تشريحية، فإن مشهد الأعضاء المبضوعة والأحشاء المشقوقة لن يكون مما يبهج النظر. ما النقد الأساسي الذي يوجهه مؤلف هذا الكتاب، وهو مراسل صحافي موجود بصورة شبه متواصلة على الأرض منذ 1994، إلى الانتفاضة الثانية؟ كونها قد تحولت من لغة الأولاد إلى لغة المقاتلين، أي "من الحجارة إلى البنادق" كما يقول عنوان الكتاب. الانتفاضة الثانية التي تفجرت عفوياً يوم 29 أيلول سبتمبر 2000 على اثر "زيارة" ارييل شارون، زعيم ليكود المعارض في حينه، لباحة المسجد الأقصى، بدت في البداية وكأنها تجدد التراث "الطفلي" للانتفاضة الأولى، لا سيما بعد مصرع الصبي محمد الدرة في ثاني أيامها في "لقطة تلفزيونية" حية اهتز لها - من دون مبالغة - ضمير العالم. لكن ما كسبته الانتفاضة الثانية على صعيد الرأي العام العالمي يوم 30 أيلول عادت فخسرته يوم 12 تشرين الأول اكتوبر عندما نقلت عدسات تلفزيونات العالم صورة الجنديين الإسرائيليين اللذين ضلا طريقهما في رام الله، فرميت جثتهما من الطابق العلوي لمخفر الشرطة الفلسطينية وسحلتهما الجموع الغاضبة في الشوارع سحلاً. كانت تلك بداية "الخطيئة الاستراتيجية المميتة" التي انجرفت إليها الانتفاضة الثانية بعد أن تخلت عن طريق المقاومة السلمية، المدنية والطفلية، واختارت طريق "العسكرة". فخيار العسكرة Militarisation كان خياراً خاسراً على الجبتهين اللتين يمكن أن تكسب فيهما حرب تحرر وطني لشعب ضعيف في مواجهة محتل أقوى منه بما لا يقارن: 1- الجبهة الإعلامية في زمن باتت فيه الشاشة الصغيرة تتمتع بقدرة لامتناهية على "عولمة" وعي العالم. 2- الجبهة العسكرية التي تمثل، في الوضعية الفلسطينية - الإسرائيلية - حالا عكسية لما كانت عليه الوضعية الفيتنامية - الأميركية. فمن الناحية الإعلامية، ومع الانجراف نحو خيار العسكرة، بات العنف الفلسطيني يكافئ العنف الإسرائيلي، على رغم أنه، في الأساس، لا يقبل التكافؤ بوصفه عنف شعب يعاني من الاحتلال في مواجهة عنف دولة وجيش دولة تمارس الاحتلال. أما من الناحية العسكرية، فإن عدم التكافؤ مطلق: من جهة أولى مقاومون لا يملكون سوى أسلحة فردية وبنادق رشاشة من طراز كلاشنيكوف في الغالب ولا يحوزون حتى على قذائف صاروخية لمقاومة الدروع أو طائرات الهيلكوبتر، ومن الجهة الثانية جيش هو الأقوى بما لا يقارن بين سائر جيوش منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن أنه جيش محارب لم يتوقف عن ممارسة القتال منذ ما قبل نشوء إسرائيل إلى اليوم. ولا شك أن المقاومين الفلسطينيين حاولوا التعويض عن هذا الخلل الخطير في التكافؤ العسكري عن طريق اللجوء المعمم إلى تقنية العمليات الانتحارية. ولكن في حين أن الجدوى العسكرية لمثل هذه العمليات محدودة، فإن عائدها على مجمل القضية الفسلطينية على المدى القريب والبعيد معاً مردود سالب. فهذه العمليات، إذ تستهدف المدنيين في الدرجة الأولى، لا تفلح إلا في إعادة لأم وحدة المجتمع الإسرائيلي وتعبئته حول قيادته الليكودية الأكثر تطرفاً واضعاف معسكر أنصار السلام الإسرائيليين إلى درجة اللافاعلية التامة. فالعمليات الانتحارية هي التي أوصلت شارون إلى السلطة، وهي التي جعلت منه الشخصية السياسية والعسكرية الأكثر شعبية في إسرائيل، وهي التي أحدثت تحولاً جذرياً في الرأي العام الإسرائيلي إلى درجة التغت معها اللعبة الانتخابية التقليدية ما بين حزبي العمل وليكود. ولو اعيد اليوم اجراء الانتخابات في إسرائيل لفقد الكثيرون من المعتدلين مقاعدهم لمصلحة المتشددين. هذا على صعيد الداخل الإسرائيلي. أما على صعيد الرأي العام الدولي، فإن العمليات الانتحارية لا يمكن إلا أن تقابل بالإدانة حتى لو اعيد بناؤها في سببيّتها السياسية. أولاً لأن ضحاياها هم من المدنيين. وثانياً لأن حساسية البشرية السلبية ازاء العنف قد تضاعفت بعد أن بات العنف منظوراً، بما هو كذلك، مع صيرورة الشاشة الصغيرة الوسيلة الإعلامية الأولى في العالم المعاصر. وثالثاً لأن العمليات الانتحارية باتت تندرج في الوعي البشري العام في مقولة "الإرهاب" أكثر منها في مقولة "مقاومة الاحتلال" بعد اعتداءات 11/9 التي أحدثت تحولاً عميقاً في "القوالب المسبقة" للتفكير وللإحساس عند الناس، لا سيما في الغربين الأميركي والأوروبي، أي تحديداً في تلك المنطقة من العالم التي تملك وحدها في الوقت الراهن قدرة الضغط على إسرائيل ولجمها في تماديها ونهمها الدائم، كدولة ذات بنية استيطانية، إلى الأرض، وتحديداً ما تبقى في أيدي الفلسطينيين من أرض فلسطين. والسؤال الذي يطرح نفسه: إذا كان خيار العسكرة خياراً خاسراً إلى هذا الحد، فما شبكة العوامل والأسباب التي جعلت منه خيار الفلسطينيين الأول في سياق انتفاضتهم الثانية؟ إن تعليل خيار العسكرة ينبغي البحث عنه بادىء ذي بدء في الجانب الإسرائيلي. فعدا زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى، التي كانت السبب المباشر في اندلاع الانتفاضة الثانية، فإن تصعيد العنف الإسرائيلي قد بلغ واحدة من نقاط أوجه في الأسابيع الأولى للانتفاضة. فبين 28 أيلول و2 كانون الأول ديسمبر 2000، اوقع الجنود الإسرائيليون 204 قتلى في صفوف الفلسطينيين، في عدادهم 73 صبياً قاصراً و24 عضواً في أجهزة الأمن الفلسطينية. وأقل ما يمكن قوله ان هذا العدد الكبير من ضحايا الفلسطينيين في الأسابيع الأولى للانتفاضة قدم المبرر الشرعي والنفسي معاً للجوء إلى استعمال السلاح، لا سيما في جو القنوط العام الذي ساد في الجانب الفلسطيني حيال إمكان الخروج من وضعية الاحتلال عن طريق المفاوضات السياسية بعد فشل هذه المفاوضات في كامب ديفيد وفي شرم الشيخ، وعلى الأخص بعد حل البرلمان الإسرائيلي وانتخاب شارون رئيساً لوزراء إسرائيل في 6 شباط فبراير 2001، وإعلانه فور انتخابه أن "أوسلو ماتت". على أن هذه المسؤولية الإسرائيلية المباشرة عن الانجراف نحو خيار العسكرة من الجانب الفلسطيني لا تعفي هذا الجانب من مسؤولية موازية. وهذه المسؤولية يتحمل جزءاً غير يسير منها الرئيس ياسر عرفات نفسه. فصحيح أنه لم يكن هو من أمر باستعمال السلاح من الجانب الفلسطيني، لكنه هو أيضاً من لم يأمر بعدم استعماله. فقد امتنع طيلة الأشهر الأولى للانتفاضة الثانية عن الكلام في الموضوع، تاركاً للآخرين أن يعملوا، وهذا على رغم نصائح الأميركيين والأوروبيين المكررة له بالتدخل الحازم للخروج من الحلقة المفرغة للعنف والعنف المضاد. وأقل ما يمكن قوله في هذا المجال أن الموقف التكتيكي لعرفات قد خدم استراتيجية شارون. فهذا الأخير ما كان له أن يحفر قبر أوسلو من دون معول العنف الفلسطيني، ذلك أن واحداً من البنود الأساسية التي تضمنتها اتفاقات أوسلو الموقعة في أيلول 1995 ينص على أن السلطة الفلسطينية ملزمة بتأمين الأمن لإسرائيل، بما في ذلك أمن المئتي ألف مستوطن في الضفة والقطاع، فضلاً عن "مكافحة كل أشكال العنف والإرهاب" وتعاون أجهزة الأمن الفلسطينية بهذا الخصوص مع أجهزة الأمن الإسرائيلية. والحال - وهذا هو الشق الثاني من المسؤولية الفلسطينية عن الانجراف نحو خيار العنف - ان أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية قد تورطت هي نفسها في أعمال "عنف وإرهاب". ويجد هذا التورط تعليله في تعدد هذه الأجهزة، وفي الصراع على مراكز النفوذ والقوة بين قادتها، وكذلك الصراع الذي تتالت فصوله بين جبريل رجوب، رئيس الأمن الوقائي في الضفة، ومحمود دحلان رئيس الأمن الوقائي في القطاع. أضف إلى ذلك ان قادة هذه الأجهزة، الطالبين للمزيد من المشروعية والسلطة، ما كان لهم أن يتركوا "حماس" الإسلامية تحتكر لنفسها شرف المقاومة العنيفة. ولهذا فقد أباحوا لرجالهم، صمتاً أو جهراً، أن يشاركوا في اطلاق النار على الإسرائيليين جنوداً ومستوطنين، بل أن ينفذوا بدورهم عمليات انتحارية. والواقع أن "حماس" نفسها اخترقت هذه الأجهزة، مثلما كانت الأجهزة قد اخترقتها. وبما أن خيار "حماس" هو من الأساس العنف، فمن الممكن القول إنها هي وحدها، بين سائر القوى الفلسطينية، التي لم يعد عليها خيار العسكرة بالخسارة. فهذا الخيار، الذي أتاح لشارون تدمير السلطة الفلسطينية، أتاح لها أن تغدو المنافسة الأولى ل"فتح" العرفاتية، وان تفرض نموذجها العنيف كنموذج أوحد للمقاومة الفلسطينية. وهذا معناه، في الأجل المنظور، استمرار عذابات الفلسطينيين في ظل صراع مسلح يزداد لا تكافؤاً يوماً بعد يوم مع الإسرائيليين. هذا هو، على أي حال، الحكم المتشائم الذي ينتهي إليه، في خاتمة كتابه، هذا الراصد الميداني ل"أسرار الانتفاضة" الثانية.