يمثل مسلمو البلقان التجمع الأكبر للمسلمين الاوروبيين الذين يعتبرون من السكان الاصلييين واتخذوا الاسلام ديناً لهم في فترات تاريخية متعاقبة. ويختلفون عن مسلمي الدول الاوروبية الاخرى وغالبيتهم من المهاجرين. ويوصف هؤلاء المسلمون، بأنهم محافظون اجتماعياً ومتمسكون بتراثهم ويعتزون بعاداتهم. وشبه بعض علماء الاجتماع مسلمي البلقان ب"الانعزاليين" شأنهم شأن بقية سكان المنطقة المتهمين بأن لا علاقة لهم بالأوروبيين سوى بوجودهم الجغرافي في القارة العجوز. تغيب الاحصاءات الدقيقة والمثبتة عن عدد مسلمي البلقان، وتقدر الدوائر الاحصائية الرسمية عددهم بنحو ثمانية ملايين نسمة من اصل سكان المنطقة البالغ عددهم 42 مليوناً، في حين تقدره المؤسسات الاسلامية ب12 مليوناً، ويتوزعون بحسب الكثافة السكانية على المناطق التالية: البوسنة، ألبانيا، كوسوفو، بلغاريا، مقدونيا، صربيا، الجبل الأسود، رومانيا، اليونان، كرواتيا وسلوفينيا. ويتفق مسلمو البلقان على ان غالبيتهم منسجمة تماماً مع سكان المنطقة، وهم اما سكان اصليون منذ ما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة كما هي حال اليونان والألبان، وأما مهاجرون نزحوا من غرب آسيا منذ 1300 سنة. ويدخل في هذه الخانة البلغار والصرب والمقدونيون وسكان جنوبرومانيا والبوشناق والكروات والسلوفينيون. وارتبطت غالبية هذه المناطق نظامياً بالامبراطوريات الشرقية البيزنطية وبعدها العثمانية التي عزز مسلمو المنطقة من خلالها صلاتهم التراثية الوثيقة بالتقاليد الشرقية. يتكون مسلمو البلقان عرقياً من البوشناق والألبان والاتراك وهم الوحيدون الذين يعتبرون غير اصليين وغالبيتهم في بلغارياومقدونيا وكوسوفو واليونان والغجر الذين يسمون محلياً الروم والطوربوش وهم من العرق المقدوني والمصريين ويسمون محلياً: ايغبتياني، وهم من سكان المنطقة القدامى الذين يعيدون اصولهم بحسب وثائق لديهم الى هجرات نزوح جماعي من شمال افريقيا وخصوصاً مصر وينتشرون في مقدونيا وكوسوفو والجبل الأسود وصربيا. انتشار قديم يؤكد الباحث الاسلامي في مقدونيا رئىس علماء مسلمي يوغوسلافيا السابقة بين عامي 1990-1993 يعقوب سليموفسكي، ان الاسلام انتشر في البلقان من طريق التجار العرب الذين كانت لهم صلات دائمة بالمنطقة، براً وبحراً. وجذب الاسلام اليه الجماعات التي كانت تسمى "بوغوميل" اي "محبي الله" وهي جماعات تؤمن بالله الواحد من دون ان تعتنق المسيحية بكل خصوصياتها. وأوضح سليموفسكي ان الاسلام ظهر في المنطقة قبل انضمامها الى السلطنة العثمانية، وما يدل على ذلك ابنية وشواهد قبور ومساجد قديمة. ولكن لا شك في ان الاسلام انتشر في شكل اوسع خلال القرون الخمسة التي خضعت للعثمانيين. وأكد سليموفسكي ان مسلمي البلقان يعتبرون من سكان المنطقة الاصليين، لأن معظم الاتراك والاجانب الذين كانوا فيها، آثروا مغادرتها مع انتهاء الحكم العثماني فيها، بينما بقي المسلمون من اهلها نظراً الى ارتباطهم بها تاريخياً وعرقياً وتراثياً ولغوياً. ولم يجد هؤلاء المسلمون صعوبة في الانسجام مع سلطاتها المحلية الجديدة التي اعترفت بهم رسمياً باعتبارهم من سكان البلاد التي يقيمون فيها ويتشاركون مع بقية سكانها في الحقوق والواجبات والضمانات كلها. منظمون وموحدون ويرى الدكتور يوسف راميتش، الاستاذ في كلية الدراسات الاسلامية في ساراييفو، ان مسلمي البلقان منظمون اكثر من اي طائفة اسلامية اخرى في اوروبا، فهم موحدون في تشكيلاتهم ومؤسساتهم الدينية لانتمائهم جميعاً الى مذهب واحد. ويتمتع المسلمون في كل دولة برئاسة دينية فاعلة وهم على علاقة طيبة مع الحكومات والمذاهب المسيحية. ويشير راميتش الى ان للطائفة الاسلامية في البلقان مدارس ثانوية وكليات ناشطة معترف بها رسمياً كما انها تملك مكتبات تضم آلاف المخطوطات والكتب والوثائق وتشكل مرجعاً رئىسياً للباحثين المهتمين بأمور المنطقة وتراثها، إضافة الى ما سبق يملك المسلمون دور نشر تصدر في شكل مستمر الكتب الدينية والادبية والتاريخية وصحفاً ومجلات مختصة في امور الدين الاسلامي. ويعتبر راميتش ان مساعدات الدول العربية والاسلامية المتمثلة في المنح الدراسية لمسلمي البلقان ذات اهمية كبرى لأنها تساعد في تطورهم الديني والثقافي، كما انها توطد علاقاتهم بالعالمين العربي والاسلامي. ويشير راميتش الى انه استفاد شخصياً من منحة قدمتها الحكومة المصرية فأكمل دراسته الجامعية في القاهرة ونال شهادة الدكتوراه. ويعبر راميتش، وهو بوسني من ساراييفو، عن قناعته بأن مسلمي دول البلقان سيستمرون في المحافظة على مكانتهم فيها، على رغم الحوادث المؤلمة التي شهدتها بعض دولها خلال السنوات العشر الاخيرة، لأنهم جزء اصيل منها. مكتبات وكلمات عربية ويؤكد المشرفون على المكتبات الاسلامية في البلقان، ان مكتباتهم تحتوي كنوزاً نفيسة من نتاجات اهل المنطقة في مجالي المعارف والآداب، وهي لا تزال محفوظة من دون ان تمس يد البحث غالبيتها، بسبب الافتقار الى الكوادر والامكانات المالية للفهرسة والالمام الواسع بالتراث الانساني العربي. ويقول المستشرق الدكتور رادي بوجوفيتش، عميد كلية الآداب في جامعة بلغراد، ان اطروحتي دكتوراه لطالبين من منطقة يوغوسلافيا السابقة، كانتا نوقشتا قبل عامين في قسم الاستشراق في جامعة بلغراد، تناولتا المخطوطات في مكتبات ساراييفو البوسنة ودوبروفنيك كرواتيا ونوفي بازار منطقة السنجاق في صربيا وصوفيا بلغاريا. وأكدت الاطروحتان ان هذه المكتبات تحتوي مخطوطات مهمة باللغة العربية، يمتاز بعضها بكونه فريداً في مادته، نادراً في نوعيته. وذكرت الاطروحتان، ان الهوامش المدونة على عدد كبير من هذه المخطوطات تفيد انها، اما وصلت بشكلها الحالي من بغداد ودمشق والقاهرة واسطنبول ومدن عربية واسلامية اخرى، او انها نقلت عن مخطوطات من مدن مهتمة بالثقافة العربية. وليس مستبعداً ان يكون اصلها ضاع وأصبح ما هو موجوداً في مكتبات البلقان هو المتبقي الدال على الاصل. وجاء في دليل اصدرته مكتبة الغازي خسروبك في ساراييفو، باللغة العربية، انه بصرف النظر عن اصل الكتب والمخطوطات الموجودة في هذه المكتبة ومنبعها، الا ان من المؤكد انها جميعها وردت او نقلت من جهات عربية واسلامية مختلفة في العالم. ووصلت هذه المخطوطات النادرة والفريدة الى البوسنة بطرق متنوعة، كالتجارة او بواسطة الحجاج، إضافة الى طلاب العلم الذين درسوا قديماً في المعاهد الاسلامية. وتتضمن هذه المخطوطات مؤلفات عدة لعلماء وأدباء وشعراء من اهل المنطقة، بعضهم عاش قبل اكثر من اربعة قرون كحسن شلبي بن علي ومحمد بن موسى علامق ومنير شيخ ابراهيم بن اسكندر وعبدالكمال اسماعيل. وساهم خطاطون من المنطقة في كتابة هذه المخطوطات، ومنهم محمد صقولوفيتش ومحمد فاضل شريفوفيتش، والحافظ ابراهيم شيخوفيتش. وأبدع الخطاطون في الخط العربي، والصور الملونة المعبرة عن مضامين المخطوطات، إضافة الى الزخارف والتجليد المنقوش بالذهب. والمثال على هذا الابداع، مخطوطة ديوان شعر باسم "تحفة الازهار" تعود الى سنة 1575 التي رشت اوراقها بالماء الذهبي بمهارة فائقة. ولقيت مكتبة الغازي خسروبك في ساراييفو بعض الاهتمام في الاعوام الاخيرة فتم اصدار خمسة اجزاء للمخطوطات الموجودة فيها، ويبلغ عددها 3694. والجدير بالذكر ان المكتبة الوطنية في ساراييفو وهي شقيقة لمكتبة الغازي خسروبك تضم نحو مليون عنوان، بينها نحو عشرة آلاف مخطوط باللغات العربية والبلقانية والتركية والفارسية والأوروبية. وتحتفظ هذه المكتبة بأقدم الصحف الرسمية والاهلية التي صدرت في البوسنة - الهرسك، وبينها تلك الخاصة بولاية البوسنة العثمانية، باللغتين الصربوكرواتية والتركية، إضافة الى جريدة "بوسنك وهرسك" الرسمية التي صدرت اثناء الحكم النمسوي لساراييفو. والملفت للنظر ان غالبية الصحف، سواء الحكومية ام الاهلية، التي صدرت في البوسنة حتى الحرب العالمية الاولى كانت تستخدم الحروف العربية في كتابة اللغة المحلية البوسنية، لأن تداول الحروف اللاتينية كان محدوداً جداً. وتتضمن اللغات المحلية في البلقان، الكثير من الكلمات ذات الاصل العربي التي اصبحت جزءاً اصيلاً منها على سبيل المثال: منارة، فنار، شهيد، شاهد، انسان، صلاة، فارس، مدرسة، مكتب، قلم، حرام، ساعة، كتاب، مبروك، محلة، مقص، جماعة، خزينة، مائدة، خطيب، جيب، مشتري، شربت، محرمة، مخازن، صندوق، رف، زقاق، تعريفة، صفره، صينية، صحارى، شيخ، طنبورة، امانات، عادات، آلات، حمام، حساب، معلومات، دكان، فائدة، حريم، كباب، تمام، ما شاء الله... شعائر رمضائية ويوضح مفتي بلغراد الشيخ حمدي يوسف سباهيتش، ان انتماء مسلمي البلقان الى اعراق مختلفة، لا يحول دون توحد مشاعرهم والكثير من عاداتهم وتقاليدهم المتعلقة بشهر رمضان المبارك. فهم يقبلون مساء كل يوم على المساجد التي تكون قبابها ومنائرها مزدانة بالمصابيح الكهربائية الملونة، طوال ليالي الشهر الفضيل، ويتبادلون التحيات بعبارات عربية، منها: مرحبا، السلام عليكم، رمضان مبارك، رمضان كريم... وتقبل النساء المسلمات على المساجد للمشاركة في طقوس هذا الشهر الكريم ويجلسن في الاماكن التي يخصصها لهن الشرع الاسلامي. وبرز الالتزام باحياء شعائر شهر رمضان في السنوات الاخيرة، في شكل كبير بين مسلمي البلقان، نتيجة التغييرات التي شهدتها المنطقة، وهي تغييرات اعطت الدين مكانة متقدمة في الامور الحياتية والسلوك الاجتماعي. كذلك استفادت المؤسسات الدينية الاسلامية من الحرية المتوافرة لها فبدأت تقدم برامج دينية خاصة عبر محطات التلفزيون والاذاعات الحكومية والخاصة. ويجتمع المسلمون في البيوت ايضاً وخصوصاً كبار السن منهم او غير الاصحاء العاجزين عن الوصول الى المساجد فيتلون القرآن الكريم وسير الانبياء والأولياء والصالحين، ويتبادلون معلومات تتعلق بتراث المسلمين وشهر رمضان المبارك. ويمثل هذا الشهر الكريم، فرصة للتعارف والتقارب بين مسلمي البلقان، فتكثر الزيارات والافطارات في البيوت، إضافة الى ما يجري في دور الافتاء وباحات الجوامع والمطاعم الاسلامية. وتبرز في الافطارات المأكولات الشعبية، ويعتبر التمر المستورد من البلدان العربية جزءاً رئىسياً لبداية كل افطار، وبعد الافطار يؤدي الحاضرون الصلاة والتراويح الجماعية. وتنظم في هذه الاجتماعات مسابقات رمضانية، وهي عبارة عن اسئلة واجابات لمواضيع دينية، وبعدها يتم توزيع جوائز رمزية على المتفوقين، غالباً ما تكون كتباً. ويؤكد الشيخ سباهيتش ان الفوارق بين مسلمي البلقان في ما يتعلق بطقوس رمضان تكاد تكون معدومة، باستثناء الفوارق اللغوية، لأن عادات المنطقة وتقاليدها متقاربة، وكل ما يتعلق بشهر رمضان مستمد من القرآن الكريم وكتب المسلمين وبالتالي لا يشعر احد بوجود خلافات عرقية او انتمائية او التزامية خلال الشهر الفضيل، الذي يجمع الفقراء والاغنياء ويقرب الاعراق والثقافات والانتماءات.