على رغم بعض الاشارات التي تفيد بوجود ما للاسلام والمسلمين في وقت مبكر في شبه جزيرة البلقان، الا ان الاسلام لم ينتشر بالفعل الا بعد الفتح العثماني للمنطقة منذ منتصف القرن التاسع الهجري/ الرابع عشر الميلادي. وقد دخل البلقان في التكوين السياسي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدولة العثمانية منذ ان اصبحت عاصمة الدولة ادرنة ثم استنبول هناك. وعلى رغم انتقال مجموعات تركية مسلمة من الاناضول الى البلقان، خصوصاً بلغاريا ومكدونيا، الا ان الاسلام انتشر اكثر بين شعوب البلقان بشكل تدريجي حتى القرن التاسع عشر الميلادي، حين استقر الوضع على النحو الذي اصبح فيه المسلمون يتساوون تقريباً مع المسيحيين. ويلاحظ هنا ان الاسلام انتشر اكثر في بعض المناطق وأصبح يمثل دين الغالبية كما في البوسنة وألبانيا بينما بقي يمثل الأقلية في بعض المناطق الاخرى كما في صربيا وكرواتيا وبلغاريا والبوسنة. وفي ما يتعلق بالبوسنة وألبانيا، التي اصبح الاسلام فيها دين الغالبية، فقد اخذت الثقافة الاسلامية تتأصل هناك وتبرز بمشاركة ابناء المنطقة في مختلف المجالات التعليم والتأليف والفنون الخ. وفي اطار هذه الثقافة الجديدة كان القرآن الكريم يمثل القاعدة، ولذا دخل واستمر قروناً عدة في الحياة اليومية - الثقافية - الاجتماعية لأبناء المنطقة. فقد كان تعلم القرآن او بعض السور على الأقل لا بد منه لأجل الصلوات على مدار اليوم، كما ان نظام التعليم كان يقتصر في المستوى الأول، الأوسع المكاتب، جمع مكتب على تعليم الأولاد مبادئ العربية وبعض سور القرآن الكريم، على حين انه كان في المستوى الاعلى المدارس، جمع مدرسة Medrese يركز على علوم اللغة والدين. وفي اطار هذا النظام التعليمي، الذي لم يكن لدى المسلمين غيره حتى عهد التنظيمات في القرن التاسع عشر الميلادي، كانت هناك مدارس متخصصة في القرآن الكريم دار القراء، وكان من يحفظ القرآن الكريم كاملاً يحصل على لقب "حافظ" Hafiz، ويحظى بمكانة في المجتمع المحلي. وفي هذا المجتمع كان ختم القرآن الكريم Hatme، سواء في المدارس او دور القراء، من المناسبات التي يتم الاحتفال بها في المجتمع المحلي، كما كان ختم القرآن الكريم يتم في مناسبات معينة على روح الأموات من المسلمين الخ. ونظراً لقدسية القرآن الكريم في نظر المسلمين، التي كانت تمنع من طبعه، فقد برزت في المنطقة مهنة نسخ وتزيين القرآن الكريم، واشتهر في هذا المجال بعض الخطاطين الذين تركوا مئات النسخ الجميلة من المصحف. الا ان هذا الوضع، الذي استقر فيه المسلمون لقرون عدة، اخذ يهتز ويتخلخل خلال القرن التاسع عشر الميلادي سواء بسبب تطبيق التنظيمات العثمانية، التي جوبهت بمقاومة محلية، او بسبب ظهور الحركات - الدول القومية في المنطقة. فمع تطبيق التنظيمات العثمانية في الادارة والجيش والتعليم اخذ يبرز نظام تعليمي جديد على حساب ذلك القديم التقليدي، وأصبح الشاب اكثر انفتاحاً وتأثراً بالافكار الجديدة الحرية والمشروطية والقومية الخ ومن ناحية اخرى نشأت حركات - دول قومية طموحة تسعى الى توسيع حدودها. ومن أولى الحركات - الدول القومية لدينا الحالة الصربية، التي برزت كامارة صغيرة ذات حكم ذاتي في 1830 ولكن بطموحات واسعة جداً. وقد تبلورت هذه الطموحات مع مشروع الوزير غراشانين I. Grasanin في 1844، الذي أراد لصربيا ان تضم البوسنة وغيرها من المناطق وتستقل تماماً عن الدولة العثمانية. وضمن هذا التوجه، الذي اصبح سياسة رسمية منذ ذلك الحين، اخذت تهتم بالبوسنة التي كان يسكنها المسلمون والصرب الاورثوذكس والكروات الكاثوليك لتستقطب السكان هناك. وإذا كان استقطاب الصرب يتم بسهولة وسرعة من خلال نشر المدارس الصربية والمشاعر القومية الصربية، فقد كان الأمر مع المسلمين اصعب بكثير لارتباط هؤلاء بالدولة العثمانية التي كانوا يعتبرونها دولتهم. ومع ذلك فقد جرت محاولات صربية لمد جسور نحو المسلمين في البوسنة وإثارة المشاعر القومية فيهم باعتبارهم من الصرب الذين اعتنقوا الاسلام. ومن هذه المحاولات ما قام به رجل الدين والسياسة ميتو لوبيبراتيتش زعيم انتفاضة الهرسك في 1875 التي اندلعت بدعم من بلغراد لضم هذه المنطقة الى صربيا. وكان لوبيبراتيتش، كما يذكر بنفسه، يدعو ويعمل لأجل "التقارب مع المحمديين من القومية الصربية" منذ 1861، ولأجل ذلك فكر في ترجمة معاني القرآن الكريم لإحداث تأثير سياسي - قومي في وسط المسلمين في البوسنة. ويبدو انه بدأ العمل في 1866، اذ لدينا في ذلك العام خبر في الصحافة الصربية حول ذلك. وفي السنة التالية 1867 قدم لوبيبراتيتش الى بلغراد للاقامة فيها وقدم الى الوزير غراشانين مشروعه حول القيام بانتفاضة صربية في الهرسك. ويبدو ان لوبيبراتيتش قد فاتح غراشانين ايضاً بفكرة القيام بشيء لأجل "التقارب مع المحمديين من القومية الصربية". ومع ان لوبيبراتيتيش قام بالفعل بتفجير الانتفاضة في الهرسك في 1875، الا ان مشاركة المسلمين فيها كانت مخيبة للآمال الصربية، وكانت من اسباب فشل هذه الانتفاضة التي بقيت معزولة. وعلى رغم هذا المصير فقد تابع لوبيبراتيتش عمله وأنجز ترجمة معاني القرآن. ولكنه توفي في 1889 من دون ان يشهد صدور هذه الترجمة، التي لم تصدر الا في 1895. وتجدر الاشارة الى ان لوبيبراتيتش قام بالترجمة كما يعتقد من اللغة - الترجمة الفرنسية، وصدرت الترجمة من دون أية مقدمة بل اقتصرت على ترجمة معاني القرآن الكريم ص3 - 476، مع ثلاث صفحات اضافية فقط ص477 - 479 تضمنت "معجم بعض الاشياء والاسماء التي تذكر في القرآن ومكان ورودها". وفيما عدا ذلك يمكن القول ان لوبيبراتيتش قد التزم بالنص القرآني من دون ان يثقله بالتفسيرات والتعليقات، بينما اكتفى بوضع هوامش معدودة في اسفل الصفحات لتعريف او توضيح بعض الامور التي رآها ضرورية. وبشكل عام لا يبدو في الترجمة ما يسيء بشكل متعمد للنص القرآني، ولذلك فقد اعيد طبع مختارات من هذه الترجمة في ساراييفو خلال 1926، واستفاد منها احد علماء المسلمين لاصدار ترجمة جديدة في ساراييفو 1930. ولكن المهم هنا ان هذه الترجمة جاءت في وقتها 1895 لتشكل مفاجأة قوية للمجتمع المسلم التقليدي في البوسنة. ففي هذا المجتمع، كما في البانيا وغيرها، كان قد تكرس الاعتقاد بعدم امكان ترجمة معاني القرآن الى أية لغة اخرى، بل ان الترجمة في حد ذاتها كانت بمثابة اقتراف ذنب عظيم. وبشكل عام فقد كان رجال الدين/ العلماء في البوسنة يرون ان القرآن الكريم لا بد ان يبقى كما هو في العربية تحت رعايتهم ولم يرحبوا بأي تدخل للآخرين - المترجمين اللائكيين في هذا المجال لأنهم كانوا يعتقدون بأن هؤلاء "يريدون بآرائهم اللائكية ان يفسروا ويحرفوا الدين"، ويصلون الى القول ان ترجمة معاني القرآن الكريم "لدى كل شعب مسلم... اعظم رغبة لكل المستعمرين". اما الحل عند هؤلاء فقد كان التأكيد على تعلم الأولاد - الشباب اللغة العربية لكي يقرأوا القرآن الكريم في اللغة الاصلية التي أنزل بها. ولكن في حالة البوسنة بشكل خاص فقد كان قيام احد الصرب - الكفار بترجمة معاني القرآن لاقناع المسلمين بأنهم من "قومية واحدة" مع الصرب يحمل الكثير من التحدي. وعلى رغم هذا التحفظ - الاستنكار للعلماء المسلمين من هذه الترجمة، ومن الترجمة بشكل عام، فقد وجد بين الجيل الجديد من المثقفين المسلمين من يتقبل ويتمنى انجاز ترجمة مقبولة في اللغة المحلية. وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى بدأت محاولات الترجمة من قبل المسلمين وهكذا قام محمد سعيد سرادرفيتش 1882 - 1918 بترجمة معاني بعض سور القرآن الكريم مع تفسيرها خلال 1913 في مجلة "مصباح". M. Serdarevic. بينما قام شكري الاغيتش S. Alagic 1881 - 1936 بترجمة "تفسير المنار" الذي كان يصدره محمد رشيد رضا ونشر جزءين منه في ساراييفو خلال 1926 - 1927. وقد أثارت هذه المحاولات المزيد من الاهتمام والنقاش في الصحف والمجلات بين العلماء والمثقفين المسلمين، ومهدت لظهور وتقبل ترجمات جديدة كاملة. وهكذا صدرت في ساراييفو خلال 1937 ترجمتان الأولى انجزها العالمان محمد بانجا M. Pandja وجمال الدين تشاوشيفيتش DZ. Causevic على غرار الترجمة التركية لعمر رضا، والثانية قام بها الحاج علي رضا كارابك A. Karabeg. وعلى حين ان الأولى كانت "ترجمة وتفسير" حيث ترد ترجمة الآيات مرقمة ومتطابقة مع الاصل مع اضافات وتفسيرات وتوضيحات بين قوسين في ما بين الآيات، نجد ان الثانية عبارة عن ترجمة فقط على نمط ترجمة لوبيبراتيتش التي اعتمدت عليها ايضاً، مع ان المترجم يؤكد على قيامه بالترجمة من اللغة العربية. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ان الترجمات البوسنوية توالت بعد ان نضجت الظروف اكثر بعد الحرب العالمية الثانية تأسيس فرع ومعهد للاستشراق في 1950 وتأسيس كلية للدراسات الاسلامية في 1976. وهكذا صدرت ترجمة بسيم كركوت B. Korkut في 1979، ثم ترجمة مصطفى مليفو M. Mlivo في 1994، وأخيراً ترجمة انس كارتيش A. Karic في 1995. وعلى هذا النحو ايضاً بقي الألبان، الذين يشكل المسلمون بينهم الغالبية 85 في المئة، دون ترجمة البانية حتى نهاية الحكم العثماني الذي امتد حوالى خمسة قرون. وعلى نمط ما كان في البوسنة فقط اعتاد الألبان على تعلم وقراءة القرآن الكريم في اللغة العربية، واعتقدوا ايضاً بعدم امكان ترجمته. ولكن بعد استقلال البانيا خلال 1912 - 1913 ضمن حدودها الحالية، خصوصاً بعد استقرارها كدولة بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت أول محاولة لترجمة معاني القرآن الكريم الى اللغة الألبانية في سنة 1921. ويلاحظ هنا أيضاً ان المترجم لم يكن مسلماً بل مسيحي، كما ان الترجمة لم تكن من العربية بل من الانكليزية ترجمة جورج سل G. Sale، بالاضافة الى ان دوافع الترجمة كانت "قومية" ايضاً. كان المترجم ايلوميتكو تشافزيزي I. M. Qafzezi من الكتّاب الألبان المعروفين من ذوي النزعة القومية الألبانية 1889 - 1964 الذين سعوا الى تعزيز الروح القومية الألبانية من خلال الثقافة الواحدة التي تستوعب المسلمين والمسيحيين. ولذلك أقدم تشافزيزي على ترجمة معاني القرآن الكريم الى اللغة الألبانية لأنه كان يعتقد بأن القرآن الكريم لا يخص المسلمين فقط الغالبية في البانيا بل يخص ايضاً الثقافة القومية الألبانية باعتباره الكتاب المقدس لغالبية الأمة الألبانية. وهكذا يكشف تشافزيزي في مقدمته ان الدافع للترجمة كان يكمن في انه أراد ان يبين "ما هو هذا الغشاء الرقيق الغامض الذي يفصل ما بين المؤمنين: المسلمين الألبانيين من اخوتهم المسيحيين"، مع انه كان يسمع من المسلمين ان "ترجمة معاني القرآن الى لغة اخرى ذنب عظيم". وبعد هذا يصل تشافزيزي في مقدمته الى الهدف الحقيقي الذي يرد على هذا النحو: "ايها المسلمون والمسيحيون، لنجعل من الكتب الدينية قضية قومية بحتة. لا يوجد داع لاضعاف المشاعر الروحية... ولكن لا بد من مكافحة التعصب الديني حتى يختفي تماماً من قلوب الألبان الذين يحبون البانيا الحرة ان تكون في مراتب الحضارة. وبالعكس من ذلك فنحن سنخسر الكثير". ومن ناحية اخرى، وضمن ايمانه بپ"الرسالة" القومية التي يحملها، يسجل بتواضع في نهاية المقدمة ان ترجمته للأسف ليست من الأصل اللغة العربية ولذلك لا يمكن ان تكون مثالية، ولكنه يأمل في ان تكون "بداية لترجمة مثالية" او ان تكون مساعدة لذلك "العالم المسلم الذي سيكون له الشرف بترجمة معاني القرآن من اللغة العربية". وبالفعل، وعلى غرار البوسنة، فقد أثارت هذه الترجمة علماء المسلمين ودفعتهم الى ترجمة معاني القرآن الكريم من اللغة العربية مباشرة. وهكذا فقد اخذ العالم المسلم على كورشا A. Korca منذ 1942 بنشر ترجمة معاني سور القرآن على حلقات في مجلة "الصوت السامي: Zani. I. Naltc، بينما صدرت في 1929 ترجمة معاني القرآن الكريم لعالم مسلم آخر الحافظ ابراهيم داليو I. Dalia، بالاضافة الى محاولات اخرى. وعلى نمط ما حدث في البوسنة فقد كانت هذه الترجمات محاولات او "بروفات" أولية للترجمات اللاحقة التي جاءت في ظروف افضل تأسيس فرع الاستشراق في بريشتينا 1973 واعادة فتح المدرسة الشرعية "علاء الدين" وتواصل اوسع مع العالم العربي الاسلامي. وهكذا فقد صدرت أولاً في 1985 ترجمة فتحي مهدي F. Mehdiu، ثم ترجمة الحافظ حسن نامي H. Nami في 1988، وأخيراً ترجمة الحافظ شريف احمدي SH. Ahmeti في 1988 أيضاً.