إثر انتهاء ملتقى جدة للرواية في الجزيرة العربية (24 - 26 مارس 2009) توجهت إلى الرياض لإلقاء محاضرة بعنوان "الهوية الثقافية" في ناديها الأدبي بدعوة مسبقة، ثم تكرّم عليّ زميلي الدكتور معجب الزهراني الناقد والأستاذ في جامعة الملك سعود، بأن اصطحبني إلى بر الرياض في اليوم التالي، بناءً على رغبتي التي أعلمته بها ونحن في جدة، فأمضينا النصف الأول من النهار نضرب شبه تائهين في مناطق رملية باردة شمال الرياض على أمل أن ألمس الصحراء لمس اليد، ولكن ذلك لم يتحقق، فهو بحاجة إلى إعداد مسبق، لم نتوفر عليه، وفي طريق عودتنا إلى الرياض أخبرني بأنه كتب تعليقاً نقدياً حول محاضرتي "جنون، وليل، وسرد كثيف" التي قدمتها في ملتقى الرواية بجدة، وحرصاً منه على توسيع النقاش حول علاقة الناقد بالروائي، تمنى عليّ فتح حوار حول الموضوع. وقد نشر مقالته تلك في ملحق الرياض الثقافي يوم 9 أبريل 2009. وبكتابة هذه المقالة أجدني قد تخليت مؤقتاً عن قاعدة التزمتها طويلاً، وهي مناقشة الآراء المخالفة لآرائي، ولكنني لن أسمح لنفسي بفرض طريقة أريدها على الآخرين، فيكفي أن يقول المرء رأيه، ويترك لهم تلقيه طبقاً لرصيدهم الفكري، ورؤاهم، وتجاربهم، أقول ذلك لا ترفعاً - حاشا لله - إنما هو موقف أخذت به، ولم أفرّط بأهمية الأفكار المخالفة، إنما كنت أخذها مأخذ الجد، وأتأمل فيها تأمل المستفيد، والحال هذه، فأنا أشاطر الزهراني في فتح الباب أمام الحوارات من أجل إثراء الجدل حول العلاقة الغامضة بين ثقافة الناقد وثقافة الكاتب، وهو موضوع جدير بأن يتعرض لمزيد من النقاش، شرط أن تتوفر الجدية الكاملة، وتتاح المعلومات الكاملة حول ذلك، وحينما اطلعت على مقالة الزهراني وجدت أنها تفتقر لمجمل المعلومات التي أقام عليها دعواه، فلم يُشغل بموضوعه، ويحفر فيه، ويتوسع، إنما تنقل بين موضوعات كثيرة، وهذا عهدي به فيما يكتب منذ زمن، فانتهى إلى أن بدد كثيراً من جهوده هنا وهناك طوال عقدين، وإلى ذلك فلم يكن دقيقاً في أي شيء يخص محاضرتي، بما في ذلك عنوانها، ناهيكم عن التفصيلات الدقيقة التي كان بعيداً عنها، وأتمنى على من يرغب في متابعة قراءة مناقشتي هذه أن يطلع أولاً على مقالته المحفوظة في أرشيف موقع جريدة الرياض بعنوان "ثقافة الكاتب وثقافة الناقد" فذلك يعفيني من تلخيصها، ويترك للقراء المقارنة وإثارة الأسئلة، التي أزعم بأن الزهراني تمناها بقلب مفتوح، وعقل مستدير، وهو مطلب يستحق التقدير. وأول ما ارتسم أمامي من عجب تجاه مقالة معجب الزهراني، هو أنه قدم تعليقاً مستفيضاً لقراء جريدة الرياض حول أفكار لم يطلع هو عليها بنفسه، ولم يحرص على أن أزوده بها وقد مكثنا معاً نحو أسبوع بين جدةوالرياض. فكيف يحق له نقدياً مخاطبة قراء يجهلون كل ما يدور حوله الكلام، والكاتب نفسه يجهل ذلك، سوى نتف مجتزأة من حديث شافهت به المنتدين في ملتقى جدة؟. فقد تعجل الزهراني أكثر مما ينبغي لناقد وأكاديمي، إذ لم يسمح لنفسه التعرف إلى الموضوع الذي جعله موضوعاً لمقالته، إنما قاده التعجل لوقوع في سلسلة مترادفة من الأخطاء، بداية من عنوان المحاضرة وصولاً إلى الخلاصات التي انتهيت إليها، مروراً بالتحليل الموسّع الذي خصصته لثلاث من الروايات العربية في شبه الجزيرة، والأنكى أنه طرح عليّ سؤالاً في ختام حديثي، ثم غادر القاعة، فكان أن أهملت الجواب عن سؤال يطرحه صاحبه، ثم يغادر القاعة، مهما كانت الأسباب. فمن يريد جواباً ينبغي عليه أن ينتظر. ولا معنى لسؤال يطرحه صاحبه وينسل خارجاً من القاعة. فمن التقاليد التي ينبغي أن ترسخ أن يقع حوار معمق حول الأفكار إذا كانت جديرة بذلك. ولم استغرب أن يتواطأ أربعة نقاد من الأكاديميين المعروفين العاملين في المجال النقدي الذي أعمل فيه على طرح أسئلة تبخيسية في ختام المحاضرة ثم ينسلون مغادرين القاعة بالتعاقب، واحداً بعد الآخر، وفي موقف مثل هذا لن آخذ - ولن يأخذ سواي أيضاً فيما أحسب - أسئلتهم مأخذ الجد، مهما كانت، فهذه التواطؤات المقصودة أو العشوائية تكشف أن كثيراً من النقاد العرب تعوزهم قوة التفاعل، والارتفاع بالمستوى الثقافي للحوار إلى ما ينبغي أن يكون عليه، وعدم تقدير أفكار نظرائهم المخالفة لأفكارهم، فيتوهمون أموراً خارجة عن المألوف، ويريدون أن يمتثل المتحدثون لما يرغبون هم فيه، دونما إطلاع، وتدقيق، فيشرعون في إرشاد الآخرين إلى سلسلة طويلة من النصائح. ويفضي بي كل هذا إلى الوقوف على احتجاج الزهراني على إفرادي وقتاً خاصاً لتطور مفهوم القراءة. كنت أخذت في الحسبان الإطار العام لملتقى جدة "قراءة النص" وتفاعلت معه، منطلقاً من قيمة القراءة وتحولاتها، وهو الموضوع الذي ينبغي تركيز الاهتمام عليه في ثقافة الناقد، بوصفه دليلاً موجهاً لاستكشاف النصوص، فخصصت لذلك نصف الوقت المعطى لي عن قصد ودراية، فهذا الأمر لا يقل أهمية عندي عن تقديم تحليل نقدي للروايات موضوع البحث، إذ تحتل قراءة النصوص الأدبية اليوم منزلة كبيرة في المناهج النقدية الحدثية، وتولّدت عنها مناهج خاصة تعنى بكيفيات التلقي. وفي عرضي لم أكن أوجه كلامي لناقد مخصوص يشاركني معرفة ذلك، إنما للعموم الذين يعينهم أمر التعرف إلى واقع حال القراءة الذي يتعرض في نقدنا الحديث لمشاكل جدية، منها الاستسهال، والتعسف في التطبيقات، والتصنيفات المدرسية الضيقة. فأشرت إلى أن القراءة مرت بمراحل ثلاث أساسية، تمثلت الأولى بالتركيز على السياقات التاريخية والثقافية للنصوص وللمؤلفين، وهو ما أظهر إلى الوجود المناهج الخارجية التي انصب اهتمامها على صلة النص بالمرجعيات الحاضنة له، ومن هذه المناهج: الاجتماعي، والتاريخي، والنفسي. ثم انتقلت القراءة إلى النصوص الأدبية، فعزلتها عن تلك المرجعيات، وانخرطت في تحليل سماتها الجمالية، وجرى استبعاد كل ماله صلة بالسياق والمؤلف، ومثل هذه المرحلة المناهج الداخلية، ومنها: الشكلانية الروسية، ومدرسة براغ، والنقد الجديد، والبنيوية، وكان الهدف هو إنتاج علم أدبي من خضم الرسالة الأدبية التي يمثلها النص الأدبي. ثم ظهرت مرحلة ثالثة جرى التركيز فيها على كيفية تلقي النص، لأن المتلقي هو الذي يعيد إنتاج النص، مستفيداً من تجربته القرائية، ومن قيمة النص، وسياقه التاريخي، وهذه المرحلة أظهرت مناهج أخرى، منها: نظريات التلقي، والاستقبال. ثم أشرت إلى أنه على الرغم من هذا التصنيف الأولي الذي عرفه النقد، فلا نعدم تداخل بعض أنماط القراءات، واستفادة بعضها من بعض، ويعود ذلك إلى أن النقاد على نوعين، نوع منكفئ على المنهجية النقدية التي يؤمن بها، فلا يرى فيها إلا القصور والخلل، ونوع يريد التركيز على قيمة الممارسة النقدية وصلتها بالنص الأدبي، ولهذا يتخطى التصنيفات المدرسية الضيقة، ويفيد من الكشوفات المنهجية الجديدة، وهذا النوع عابر للمنهجيات المدرسية، ويمثل جزءاً من رهانات النقد بوصفه ممارسة ثقافية تشكل مزيجاً مما يحمله النص، ويدخره المتلقي وليس من الممكن ضبط الصلة التي ينبغي أن تربط القارئ بالنص، لأن العناصر المكونة للعملية الأدبية، وهي المؤلف وبيئته، والنص وخصائصه، والمتلقي وسياقه الثقافي، في حالة حراك دائم، ومتفاعل، ومن المستحيل وقف كل ذلك، وتقديم توصيف نهائي للعلاقة، وقد جُرّد عن الزمان والمكان، لأن تلك العلاقة تتصف بطبيعتها المتحولة، وصيرورتها الدائبة، والأصعب من كل ذلك هو الحكم النهائي على أي من القراءات هي الصائبة، فالأولى تضفي على السياق قيمة بما يجعل الأدب علامة دالة على أهمية الحاضنة الاجتماعية له، فقيمته في كونه يحيل على الخلفية التاريخية الخاصة بعصره وبمؤلفه، والقراءة الثانية تنصرف إلى جمالياته الداخلية، وكشف مظاهره الأدبية، من ناحية الأسلوب، والبناء، والدلالة، والقراءة الثالثة تحاول التوفيق بين مضمرات النص، ومزاياه الكاملة فيه، واستعدادات المتلقي التي هي خلاصة ثقافته وسياق عصره، مع التركيز على كيفية التفاعل بين الاثنين. وبالإجمال تشكل نظريات النقد في العصر الحديث تراثاً خصباً من التحليلات، والفرضيات، والتوصيات، والنتائج، ولعلها تمثل ثمرة من ثمار الجهد الذي انتهى إليه نقاد ومفكرون انخرطوا في صلب العملية النقدية، وأقاموا هذا الصرح الذي يمثل أحد أهم إنجازات العقل البشري في مضمار العلوم الإنسانية، ولا غنى لأحد عنه، فقد تمكن النقد من فتح المسالك المجهولة للدخول إلى عالم التخيل الأدبي، وهو عالم مواز للعالم الحقيقي، ولا يقل أهمية عنه، لكن اكتشافه تعسّر، وتأخر، فيما مضى الإنسان باكتشاف العالم الواقعي لاعتقاده بأنه أكثر أهمية ونفعاً، فيما العالم التخيلي ينطوي على وعود كثيرة، لأنه يمثل مستوى موازياً من الرموز، والإيحاءات، والمجازات، والعلامات. وكثير من الدراسات الحديثة تحذر من استبعاد القيمة المخيالية لكل من الواقع، والتاريخ، والأدب، والعقائد، والنظم الاجتماعية والسياسية، وأكثر مظاهر الاحتجاج على فكرة الحداثة هو أنها أعطت العقل دوراً جعله يتحول إلى أداة قاطعة، لا تأخذ في الحسبان المستويات غير المرئية للعلاقات الإنسانية، وللآداب، وللأديان، وللتواريخ؛ ذلك أن فكرة المباشرة، والعملية، جرت الفكر الحديث، وبخاصة الفلسفي والعلمي، إلى جعلهما المعيار المحدد لقيمة الأشياء في الوجود، وجرى طمس متعمد لكل سيئ سوى ذلك. ثم اعترفت بأنني كنت في الماضي مشغولاً بالتحيزات المسبقة في قراءاتي، أي بالطريقة التي أقارب بها النصوص، وبالمناهج النظرية التي اهتدى بها، وربما تكون أصبحت جزءاً من طريقة التحليل والرؤية النقدية، لكنني عزفت منذ نحو عقد عن تقديم تلك الأطر المنهجية الجاهزة كشروط تمهيدية لكل قراءة أو تحليل، وأصبحت القراءة أكثر حرية، وفيها كثير من الشغف والجاذبية. في الماضي كنت أريد أن أرى دوراً لكل شيء أعمل به بداية من الرؤية النقدية، وصولاً إلى جهاز المفاهيم، أما الآن فقد أصبح كل ذلك مضمراً في العملية النقدية، وجزءاً من التحليل، ولست قادراً على ضبط السياق الخاص بالقراءة التأويلية التي جاءت إثر حقبة من الهوس النظري بالنقد. وضعت كل هذا في حسباني وأنا أقارب الروايات التي اخترتها، ومنها "العصفورية" لغازي القصيبي، وبدا أن هذا كان مثار سخط الزهراني، ونفور آخرين، ممن حسبوا أنه من الضروري أن أقبع في تصورات قديمة يريدونها هم، أما أنا فقد تخطيتها، ولذلك استغربوا أن أقوم بتخريب صورة ارتسمت في أذهانهم عني قبل أكثر من عشرين سنة، فهم يريدون أن يدفعوا بي إلى النتيجة التي يريدونها في ضوء أعمال نقدية قديمة أنجزتها في تسعينيات القرن الماضي، وفي إطار مثل هذا التصور اتهمني الزميل الآخر الدكتور معجب العدواني - وهو أحد السائلين الأربعة - بأنني مضلل، فإن كان أمر إعادة النظر في المواقف النقدية، والمراجعة الجدية للرصيد المعرفي، وتعميق المنظورات الفكرية، فطوبى لمن يستأثر بهذه التهمة. ولكن مهلاً، فقد انصب جزء كبير من تعليق الزهراني على قراءتي لرواية "العصفوية" للقصيبي لأن مؤلفها قد تلاعب بي، أي خدعني، وفي جزء آخر مكمّل من هذه المناقشة سوف أعرض لذلك في الأسبوع القادم.