هذه قصيدة من الشعر الصيني نقلها إلى الإنجليزية الشاعر الأمريكي عزرا باوند Pound ليس عن اللغة الصينية مباشرة، لأنه لم يكن يعرفها، وإنما عن طريق الملاحظات التي دونها الباحث الأمريكي في الثقافة الصينية واليابانية إرنست فينولوسا Fenollosa الذي عرفها بدوره عن طريق شروح يابانية. فنحن إذاً إزاء عمل مر بمراحل لغوية وثقافية وإدراكية قبل تبلوره في صيغته الإنجليزية. لذا فمن الصعب أن ندخل هنا في بحث عما حدث للنص في رحلته الطريفة، مع أن ذلك جدير بالبحث والتأمل دون شك. ما يحتاج إلى اهتمام هنا هو النص بوصفه صادراً عن شاعر أمريكي يعد في الطليعة بين الشعراء الغربيين في القرن العشرين، سواء من حيث أن النص يعبر عن رؤية الشاعر أو من حيث أنه يحتفظ بآثار بيئته التي ولد فيها، مثل إنسان عاش طفولته في بيئة وانتقل بعد ذلك ليقضي بقية عمره في بيئة مختلفة. فالبيئة الأصلية مهمة، لكن ما هو أهم منها هي تلك التي ترعرع فيها النص ليكتسب هوية أخرى. ولاشك أن النص في هويته الجديدة قد اكتسب دلالات مختلفة إحداها وربما أهمها هي المتمثلة في مجرد اختيار الشاعر الأمريكي لها للترجمة، إلى جانب فهم الشاعر للنص وما يحمله ذلك من دلالة على مرحلة في تطور الشعر الأمريكي والغربي عموماً. هذه الدلالات وغيرها ستكون محوراً مهماً للقراءة التي سأقترحها للنص، ولكن بعد عرضه في ترجمتي التي ربما لا تخلو من دلالة اختيار هي الأخرى. "رسالة من زوجة تاجر النهر" عندما كان شعري ما يزال مقصوصاً على جبهتي كنت ألعب عند البوابة الخارجية، أنزع الأزهار. جئت أنت على عصيان البامبو، تحاكي الحصان، مشيت حول مقعدي، تلعب بالخوخ الأزرق. ثم استمرت حياتنا في قرية شوكان: اثنان صغيران، دونما كراهية أو شكوك. حين صرت في الرابعة عشرة تزوجتك يا سيدي. لم أضحك مطلقاً، لانني خجولة. كنت أنظر إلى الحائط مطأطئة الرأس. ولم ألتفت أبداً حين أُنادى ولو للمرة الألف. عند الخامسة عشرة توقفت عن التقطيب، تمنيت أن يمتزج ترابي بترابك أبداً أبداً أبداً. لماذا أتطلع لماوراء ذلك؟ عند السادسة عشرة غادرتَ، ذهبتَ إلى كو تو إين، بجانب النهر ذي الدوامات وقد مضت خمسة شهور منذئذٍ. القرود تجأر بأصوات حزينة في الأعلى. كنتَ تسحب رجليك حين غادرت. النباتات المتسلقة بأنواع مختلفة نمت على الباب، إنها أشد كثافة من أن تزال! تسقط الأوراق مبكرة هذا الخريف إذ تهزها الريح. زوج الفراشات قد اصفر في أغسطس على العشب في الحديقة الغربية؛ إنها تؤلمني. إنني أكبر. إن كنت ستأتي عبر مضايق نهر كيانغ، أرجوك أن تخبرني مسبقاً، وسآتي للقائك حتى ولو على بعد "تشو فو سا". لن تتسع المساحة هنا لمقاربة هذا النص، لكن من الممكن تقديم بعض الملاحظات التي تشكل جزءاً مهما من خلفية النص أو ظروف تبلوره في اللغة التي ترجم منها هنا. ولعل أول ما ينبغي ذكره في هذا السياق يتصل بالشاعر عزرا باوند نفسه الذي يرد اسمه ضمن رواد حركة الحداثة الشعرية في مطلع القرن العشرين ولربما عده البعض رائد الحداثة الأول. فباوند الذي توفي عام 1972كان معلماً حقيقياً لجيل من الشعراء الكبار في مسار تحديث الشعر لغة وبنية وتوجهات، ومن أشهر من أفادوا منه ت. س. إليوت وروبرت فروست ووليم كارلوس وليمز وآخرون من قادة التحديث الشعري في إنجلترا والولايات المتحدة. فقد وضع باوند ما رأى أنه القواعد الضرورية للشاعر لكي يتجاوز القرن التاسع عشر ويعبر عن مستجدات الحياة والثقافة في القرن العشرين، نشر تلك القواعد وألح عليها وساعد الشعراء الذين رأى أنهم يعبرون عن روح الحداثة سواء في نشر أعمالهم أو في مراجعتها، فكان أشبه بالراعي أو الأب. وكان إلى جانب ذلك بالطبع شاعراً كبيراً ليس في تبني ما دعى إليه فحسب وإنما في عمق موهبته وثقافته الموسوعية التي مكنته من كتابة إحدى أطول القصائد في اللغة الإنجليزية وهي قصيدة "الكانتوز" أو الفصول التي مات دون أن يتمها والتي احتوت على معرفة عجيبة بتاريخ أوروبا ولغاتها وثقافاتها. كما أن موهبته وثقافته كانت عاملاً في تعرفه على الثقافات الشرقية التي استل منه نصوصاً كالذي نقرأه هنا وعلى التعريف بالقصيدة اليابانية المعروفة بالهايكو، إحدى أقصر الأشكال الشعرية المعروفة حيث إنها لا تتجاوز السطر ونصف (حوالي سبعة عشر مقطعاً لفظياً). سيطول بنا الوقت لو أردنا أن نلم بحياة باوند وأعماله، لكن الإشارة إليه ينبغي ألا تخلو من ذكر مواقفه السياسية التي أدت إلى الكثير من المتاعب بالنسبة له. فقد وقف باوند أثناء الحرب العالمية الثانية وقفة نقدية صارمة تجاه سياسة بلاده والحلفاء إجمالاً وأيد موسوليني وكان في إيطاليا حين انتصر الحلفاء، فما كان من الأمريكيين إلا أن أسروه وحاكموه بتهمة الخيانة العظمى، ولم ينقذه من الإعدام إلا دعوى الجنون التي تقدم بها محاموه بدعم من أصدقائه، من أمثال ت. س. إليوت، حيث أودع في مصحة عقلية لمدة خمسة عشر عاماً. وكان من أسباب معاناة باوند موقفه الانتقادي تجاه اليهود، الأمر الذي جر عليه تهمة معاداة السامية التي ما تزال إلى اليوم سيفاً مسلطاً على كل من تسول له نفسه نقد اليهود في الغرب. هذه المعلومات لا علاقة لها بالنص الذي بين أيدينا، لكنها جزء أساسي من السياق العام للشاعر وقد أوردتها من هذه الزاوية. في الأسبوع القادم سأقدم قراءتي لنص باوند الإنجليزي المؤسس على الصينية عن طريق اليابانية، وبالطبع فإن القراءة لا ينبغي أن تتجاهل ما حل بالنص من تغير بدخوله أفق اللغة العربية. فنحن إذاً إزاء نص يفوق في التفافاته الثقافية واللغوية ما مر به نص الشاعر الكوري الذي سبق أن توقفنا عنده. ولو أردنا أن نركز القراءة في هذا الجانب لأصبحت أقرب إلى الحفر الأركيولوجي (الآثاري) منها إلى القراءة النقدية المباشرة. الأمر متروك للقارئ لكني سأختار القراءة النقدية المباشرة معتبراً النص نصاً إنجليزياً معرباً "تأسس" على نصوص أخرى أكثر من كونه ترجمة لها.