على ذمة مجلة الوسط، وكما نقرأ على غلاف رواية الكاتب الأردني محمد سناجلة "ظلال الواحد"، عمان - 2002 فإنها المرة الأولى التي تستخدم فيها تقنيات بناء الانترنت في الشكل الروائي، وأظن ان القصد هنا: في العربية. لهذه التجربة صدّر الكاتب روايته بتوضيح يبيّن انه يعتزم اصدارها على شكل كتاب الكتروني E.Book. وقد احتذى في بنائها تقنيات الوصلات Links والTags المستخدمة في الكتابة الالكترونية، وفي بناء شبكة الانترنت. إلا ان النشر الالكتروني أعجز الكاتب مادياً، ولم يجد ناشراً الكترونياً فاكتفى بالشبكة، وخاب أمله، وإن كان النشر الرقمي "يحقق شرط البنية الروائية والتقنية المستخدمة في تقاطعها مع المتلقي"، لكن أمية الانترنت بالمرصاد. هكذا اضطر سناجلة الى الكتاب الورقي، ونوّه في توضيحه بأن القارئ سيجد صعوبة كبيرة في قراءة أو متابعة خطوط العمل السردي، على رغم أنه حذف من الرواية ما حذف، وأعاد كتابة بعضها، لتتماشى مع المقدرة المتواضعة التي يقدمها الكتاب الورقي. وينصح سناجلة القارئ - حين يبدأ خط الروي بالتشظي والتفرع الى وصلات، مع تشظي الشخصية الرئيسة - بطريقتين للقراءة: أولاهما: متابعة كل وصلة بدورها الى النهاية، والثانية: قراءة الوصلات معاً صفحة فصفحة، وهي الأسعب، لكنها الأمتع، في حسبانه، فيما الأولى هي الأسهل، وإن كانت ستضيع على القارئ متعة الاكتشاف الفوري لوحدة النص مع تعدد خطوط السرد. وتلافياً لذلك وضع الكاتب مفاتيح تساعد على اكتشاف وحدة النص ولملمة خيوطه. والكاتب ينصح أيضاً بالطريقة الأولى للقراءة الأولى، وبالطريقة الثانية للقراءة الثانية. وفي جميع الأحوال، على القارئ: "أن يتذكر بنية الشجرة التي لها جذر تتشابه اشتباكاته، ثم ساق وأغصان وفروع عدة، ولكن تبقى الشجرة في النهاية واحدة". لا بد من ان الكاتب كبير الثقة بروايته أو وبالقارئ كي يختم توضيحه بذلك الوجوب الذي يستدعي ما كتب مؤنس الرزاز على غلاف الرواية: "قرأت ظلال الواحد مرتين، فكانت جرعة المعاناة في القراءة الأولى أكبر من جرعة المتعة. لكن القراءة الثانية نقلت لي إحساساً نادراً بالمتعة". ولكن كم من قارئ سيحذو حذو مؤنس الرزاز؟ سبق لرجاء عالم ان بنت روايتها "حبّ" من متن وهامش، واقترحت على قارئها شبيه اقتراح سناجلة. وقبل العالم لعب آخرون اللعبة باقتصاد الياس فركوح مثلاً في روايته "قامات الزبد" 1987، وحيث للهامش دور سردي، وليس كما يقتدي روائيون بالأكاديميين، فيهمشون مصادر المتناصات، مثل محمد سناجلة نفسه في "ظلال الواحد". ويبقى بعد هذا أن يتساءل المرء عن حق الكاتب بتوجيه القراءة، وعن جدوى ما يقترح أو يوجب، ما دام الأصل في القراءة انها علاقة حرة - بصوابها وخطأها - مع المقروء، وربما كان ذلك ما جعلني أتعمد مخالفة الاقتراح أو الوجوب، وأصبر على الرهق، وأعلل به ندرة المتعة التي ذكرها مؤنس الرزاز، ليس بعد ان تشظت الرواية والشخصية الرئيسة الى وصلات وشخصيات، بل منذ البداية التي تستغرق ما بين ص13 - 41 في الهيئة السردية الأليفة، وتقدم قتل الراوي لحبيبته، وما أُخذَ به من بياض الورق والجسد والخواء والوحدة والهم الوحيد: أن يكتب - يحكي عن الجحيم الذي عاشه سنتين غيرةً وشكوكاً و... فهذه البداية - الكتلة السردية الأولى - تنوء بالإنشائية ابتداء بمجانية علامات الترقيم، وسيل النقاط المتراصفة أفقياً بلا موجب، وهي تتقافز بين الحبيبة القتيلة "ياه كم قتلنا بعضنا يا سيدتي... فليكن هذا القتل هو الأخير... ولنتحرر منا" وبين الأم: "آه يا أمي لقد ضعت... ضعت ولم يبق لي شيء سوى ظلال الذكريات الباهتة" وبين ذكريات الطفولة وحضور ديك الجن وعباس بن فرناس الذي يروي من حيواته ما يحيل على طارق بن زياد والأندلس كما يحيل على بلاد السند، وحيث تأتي لعبة التناص التي ستتفاقم في الرواية كلها بأخبار مقتلة خالد بن الوليد للفرس في معركة أليس سنة 12ه. كما تأتي اللعبة بأشعار أدونيس أو ديك الجن من قبل. في نهاية هذه الكتلة السردية يظهر الغول الأزرق الذي حدث الراوي عنه جدته الشمطاء، وتبدأ الكتلة السردية الثانية كسابقتها، ولكن في ثلاث صفحات توالي حديث الحبيبة والقتل والعرق والنبيذ، ثم يأتي استنجاد الراوي بأبيه، فيهوي الأب على رأس ابنه، فيطير عقل هذا، وبذا يتشظى وتتشظى الرواية في وصلتين سنرقمهما: 1-2، والأدق أن نقول: تنقسم الرواية الى قسمين عموديين، وفي كل قسم يكون التشظي، ويستمران كذلك حتى توحدهما خاتمة تقود الى الكتلة السردية الأخيرة - خاتمة الرواية المعنونة بمقام الظلال. تنشغل الوصلة 1 بالغول جرياً على سنن الخرافة الشعبية. وتنشطر هذه الوصلة بعد قليل الى وصلتين متجاوزتين سنرقمهما 1-3، وتنشغل الوصلة الجديدة 3 بالصوفية، حتى ينتهي القول فيها وفي الوصلة 1 الى عالم الذر اللامحدود، فتتوحدان، ولا يبقى الى النهاية سوى الوصلة 1 والوصلة 2. في الوصلة 1 توالي الصوفية اشتغالها في عوالم - مقاطع الذر والرفارف والسدرة والشجرة، وتنتهي بكشف. وباللغة والمصطلحات الصوفية تحاول هذه الوصلة التعبير عن وحدة الوجود وعن التكوين، منذ تذررت أنوات الراوي ذرات متناهية في سديم لا متناهٍ في الذات، الى هتفة صوت بالراوي: أنت الهيولى/ الجسد، الى الهتفة الأخرى: كن روحاً في السدرة، الى النمر الوثاب الذي يفترس بنت الراوي يوها في برزخ/ عالم الشجرة - لنتذكر تنبيه الكاتب للقارئ الى البنية الشجرية للرواية - الى قتل النمر ثم اللويتان ذي الرؤوس السبعة الذي اغتال الراوي. في جوار ذلك تستأثر الوصلة 2 بجلّ الرواية، ابتداءً من دم الراوي الذي يقطر في كف أبيه، وقد ضربه على رأسه فطار عقله: لنتذكر. وسيكون للصوفية هنا أيضاً أمرها. فالراوي يرى ابن عربي وطفليه الحسن والحسين اللذين يحسبهما الأخوين جون ومارك واشكوسكي وسيتسميان عندما تتوحد الوصلتان بجون وروبرت وهما شيخا الراوي ومعلماه، وقد تصدرت الرواية بقوله لهما في فيلمهما الرواية السينمائي 1999-The Matrix تؤكد - كالتصدير الثاني للحلاج - التطلع الصوفي للرواية في الوجد والفرادة. غير ان الشاغل الأكبر للوصلة 2 تاريخي يخاطب شأننا في الصراع العربي - الاسرائيلي وفي الاقتتال. وقبل استئثار ذلك بالرواية يوالي عباس بن فرناس تحولاته وتناسخاته وقد اعتقل الغول عقل الراوي، فأمره ابن فرناس بأن يركّب من الخيال قلباً ثم يمزج منه عقلاً، ودوّم الصدى: "خيالك خيّلك إن شلته شالك" في اشارة الى أولوية الخيال للعبة الروائية التي ستجعل للراوي عقلاً فعقلاً فعقلاً، وسماء تشيله وسماء تحيط به الى أن يبلغ بلاداً كُتب على سمائها: "دولة الخيال الرقمي"، فقال: "دولة من خيال تشبهني لأدخلها علي ألقى اليقين". في دولة الأرقام هذه ذات الأقانيم التسعة، وفي الأقنوم التاسع الذي ينشد الراوي من دخوله النجاة من نيران الحيرة، يخاطبه الحمار الرقمي: "عقلك الأول خرافة والثاني وهم خلاق والثالث علم لا يعطيك يقيناً. خذ عقلاً رابعاً فربما ستربح". وابتغاء ذلك يتحول الراوي الى ربوة صغيرة، ويصفو، وإذا الدنيا كأنها "متوالية رقمية في متسلسلات هندسية لا حد لها. فإذا بالماضي في الحاضر في المستقبل. وإذا الأزمنة كلها تتكامل في زمن واحد. وإذا الزمن الواحد يتفاضل". وهنا تفضي الوصلة 2 بفضل الرياضيات الى مقام التفاضل والتكامل - مدار الدم، وتبدأ لعبة التناص مع السرديات التراثية الشعبية والتاريخية التي أثبت الكاتب مصادرها ومراجعها في قائمة خاصة في نهاية الرواية، ومنها تاريخ الطبري وتاريخ ابن كثير وسيرة ابن هشام، والرسالة القشيرية والفتوحات المكية وهذان للوصلة 2-3 بخاصة وتاريخ الحملة الصليبية الى القدس وتاريخ الأنباط وميتولوجيا الأردن القديم وسيرة كليب الشريدة والكتب السماوية الثلاثة. وعلى رغم حرص الكاتب على الإحالة في الهامش، تيمناً بالأكاديمية، فقد دعمت الوصلة 2 المتناصات منذ حصار إخاب بن عمري ملك يهوذا والأدوميين لكركا عاصمة المؤابيين سنة 751ق.م - وحيث يحارب والد الراوي العبرانيين وحلفهم - الى معارك الإسلام الأولى مؤتة واليمامة والجسر والقادسية وما قال كعب بن أسد في بني قريظة، الى فتح يزيد بن المهلب لجرحان سنة 98ه. الى حصار الحارث الثاني ملك بترا لأورشليم سنة 63ق.م. فأمر الملك ميشع بن حانون والروماني سقاروس بفك الحصار عن أورشليم. ولأن الزمن يتفاضل ويتكامل روائياً، فيصير الحاضر في الماضي في المستقبل، يلبي محاصرو القدس استنجاد فوزان ملك رماثا ضد العربان، وتنهمر المتناصات من أشعار شعراء ثورة الكورة 1921 ومن سريرة كليب الشريدة في حرابة الرمثا والفلاحين مع البدو سنة 1919، بالاشتباك مع خطبة البابا أوريان الثاني حضاً على الحرب الصليبية عام 1095، ومع أخبار فتح نهوند وثغر عصبون جابر العقبة وبرية فاران صحراء النقب ومذبحة بيت المقدس على يد الصليبيين وتدمير المغول لبغداد، الى ان تنتهي الوصلة 2 بالعبارة التي انتهت اليها الوصلة 1 وهي: "فما راعني" فتتوحدان في ما يهيئ للراوي من رؤية مولاه ابن غيتس وقد توحد فيه ابن عربي والأخوان واشكوسكي وابن فرناس، والراوي قد جلله التاريخ بالدم، فأمره مولاه بالصعود الى مقامه الأخير: مقام الظلال، الذي يأتي سبيكة تختم الرواية، تنثال فيها اللغة بلا علامات الترقيم، وتشتبك كبرى العناصر الفاعلة في ما تقدم من الرواية، الى ان تسيل الأرقام في عتمة الليل، ومعها يسيل رأس الراوي. أما الكاتب، فيبقى مع حلمه المختلف حول الكتابة الروائية - كما ذكر في التوضيح في مستهل الرواية - وأما القارئ فيبقى مشبوحاً بين عصاب أو رهاب التجريب والحداثة الروائية وما بعدها، ومن ذلك الكتابة الأنترنيتية كما تجسّدت في ظلال الواحد، وسيكون ذلك مكابدة الكتابة الكبرى، بقدر ما تصدق دعواها في اعتبار المتلقي والتلقي.