لا تزال العولمة، على رغم صدور العديد من الكتب عنها، ظاهرة مجتمعية تثير الكثير من الجدل، ومفهوماً علمياً يكتنفه الغموض، ويعود السبب لوقوع الجدل واستمرار الغموض الى عوامل عدة، أهمها تبلور العولمة كظاهرة مجتمعية قبل تبلور العولمة كمفهوم علمي. وحيث ان العولمة هي ظاهرة مجتمعية ذات طبيعة ديناميكية دائمة التطور، فإن محاولات تعريفها ضمن مفهوم علمي شامل عجزت حتى الآن عن الإلمام بكافة جوانبها، وبالتالي استيعاب ابعادها المختلفة والمتعددة. ان قصة العولمة كظاهرة مجتمعية ومفهوم علمي تشبه الى حد كبير قصة الصناعة والرأسمالية التي تبلورت في بريطانيا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. اذ بعد تبلور المصنع كنظام ومؤسسة للانتاج الصناعي وانتشاره بشكل كبير في بريطانيا جاءت كتابات الفلاسفة في حينه لوصف الظاهرة الجديدة وتحديد أسبابها وتحليل أبعادها المجتمعية ورسم معالم علم الاقتصاد الحديث للتعامل معها بإيجابية. وعلى رغم كثرة الدراسات واستمرار البحوث الاقتصادية والاجتماعية فإن فهم ظاهرة التصنيع وتحديد اسبابها وادراك أبعادها المجتمعية استغرقت وقتاً طويلاً. وفي الواقع لا تزال العوامل التي تسببت في وقوع الثورة الصناعية محل جدل، اذ تعذر حتى الآن التوصل الى اجماع حول تلك الأسباب ومدى اهمية كل منها. ولقد تسبب هذا الجدل بدوره في إفشال كل الجهود للتوصل الى نظرية علمية في التنمية في مقدورها انتشال معظم شعوب العالم من حالة التخلف والتخبط التي تعيشها والتي جعلتها تبقى مهمشة وخارج مسيرة التاريخ الحضاري الانساني. ان فهم ظاهرة العولمة على حقيقتها وإدراك ابعادها العالمية والمتوقعة لا يتم الا من خلال وضع تلك الظاهرة في اطارها التاريخي السليم وتحليلها في ضوء ما سبقها من ظواهر تاريخية مهمة. قد يقول البعض، خصوصاً المفكرون التقليديون في الغرب والشرق "ان العولمة ظاهرة قديمة رافقت كل الامبراطوريات الغابرة حيث حاولت تلك الامبراطوريات عولمة الغير وفرض ثقافاتها ونظمها عليهم". كما يقول البعض الآخر من المؤرخين ان العولمة بدأت منذ خمسة قرون على الأقل وذلك مع اتساع نطاق التجارة الدولية وتطور وسائل النقل وتكنولوجيا ركوب البحار. وعلى رغم مما تحتويه تلك الأقوال والادعاءات من منطقية، الا انها غير واقعية وغير علمية، وبالتالي عاجزة عن فهم وتفسير ظاهرة العولمة التي تعيشها شعوب العالم اليوم. مرت المجتمعات الانسانية خلال تاريخها الطويل على الأرض بثلاث مراحل حضارية رئيسية، هي حضارة ما قبل الزراعة أو حضارة الرعي، والترحال، وحضارة الزراعة أو فلاحة الأرض والاستقرار، وحضارة الصناعة. واليوم، وبعد مرور حوالى قرنين ونصف قرن على حضارة الصناعة، بدأت بعض الشعوب والجماعات الانسانية دخول عصر حضاري جديد لم يتم الاتفاق على تسميته بعد. اذ بينما يطلق عليه البعض عصر ما بعد الصناعة، يدعوه البعض الآخر بعصر المعلومات. اما بالنسبة لي فهو عصر "حضارة المعرفة"، وهو تعبير استخدمته منذ سنوات في كتاباتي وبحوثي وكتبي المتعلقة بالتاريخ والمستقبل. ان انتقال المجتمعات الانسانية من حضارة الى أخرى أو من عصر حضاري معين الى عصر حضاري تابع اكثر تطوراً جاء من خلال فترات انتقالية صعبة استغرقت قروناً وتم من خلالها وبسببها الانتقال من حضارة قائمة الى حضارة لاحقة مختلفة من حيث الكم والنوع والمكونات عن الحضارة السابقة والحضارة اللاحقة من حيث التاريخ والمنطق التاريخي والهياكل الاجتماعية والنظم الاقتصادية والترتيبات السياسية والمكونات الثقافية. وهذا جعل الفترات الانتقالية فترات انقطاع في التواصل التاريخي والثقافي مما جعلها تتصف بالتوتر والارتباك وفقدان بوصلة الإبحار التاريخي، وتتسبب بالتالي في إرباك الهويات الثقافية وزعزعت الانتماءات الاجتماعية والعقائدية والوطنية. تشير الدراسات التاريخية الى ان المجتمع الانساني الأول والذي قام على الصيد وجمع الثمار والاعشاب ظهر قبل حوالى مئة ألف سنة، حيث تطور تدريجاً نحو المجتمع القبلي الذي عرفته كل بقاع الأرض وقام على الصيد والرعي والأعراف القبلية عماد نظامه الاجتماعي - الثقافي. اما علاقاته مع الغير فقد قامت على الغزو والنهب والسبي. وذلك بسبب ومن دون سبب. وبعد مرور حوالى 85 ألف سنة على ظهور المجتمعات الانسانية الأولى دخل العالم القديم فترة انتقالية استغرقت حوالى 2500 - 3000 سنة انتقلت من خلالها وبسببها بعض المجتمعات الانسانية من عصر حضارة البداوة الى عصر حضارة الزراعة. واقد كانت فلاحة الأرض الظاهرة المجتمعية والإطار الاقتصادي الذي تسبب في انتقال البشرية من حضارة الى أخرى مختلفة تماماً من حيث النوع الاجتماعي والكم الاقتصادي والتنظيم السياسي والمكونات الثقافية والتكنولوجية. بعد مرور حوالى عشرة آلاف سنة على تبلور عصر حضارة الزراعة دخلت بعض المجتمعات الانسانية مجدداً فترة انتقالية دامت حوالى ثلاثة قرون امتدت من منتصف القرن الخامس عشر الى منتصف القرن الثامن عشر. وفي نهاية تلك الفترة ظهر المجتمع الصناعي ودخلت بعض الشعوب بدءاً من بريطانيا عصر حضارة الصناعة، وهي حضارة اختلفت من حيث النوع والكم والمكونات والنظم عن كل ما سبقها من حضارات. ولقد كان بناء المصانع وملكيتها ونظام العمل والانتاج فيها الظاهرة المجتمعية التي تم من خلالها وبسببها الانتقال من حضارة الزراعة الى حضارة الصناعة. اليوم، وبعد مرور حوالى قرنين ونصف قرن على تبلور حضارة الصناعة ومجتمعها ونظمها، يدخل العالم، أو بالأحرى بعض الشعوب والجماعات الانسانية، مرحلة انتقالية جديدة سيتم من خلالها وبسببها الانتقال من عصر حضارة الصناعة الى عصر حضارة المعرفة. اما الظاهرة المجتمعية والإطار الاقتصادي الذي يتم اليوم من خلاله الانتقال من حضارة الصناعة الى حضارة المعرفة فهو العولمة. وهذا يعني ان العولمة، كفلاحة الأرض والتصنيع، هي ظاهرة أفرزتها ظروف وعوامل تطور تاريخية خارجة عن ارادة الأفراد والشعوب والدول، وانه ليس بالتالي في مقدور أي كان ايقاف مدها أو الحيلولة دون نجاحها في نقل البشرية الى عصر حضاري جديد مختلف من حيث النوع الاجتماعي والكم الاقتصادي والتنظيم السياسي والمكونات الثقافية والتكنولوجية والعلمية عن كل ما سبقه من عصور. يشير التاريخ الانساني ايضاً الى ان كل الشعوب والجماعات التي حاربت ضد الانتقال الى حضارة جديدة واتجهت الى التمسك بثقافاتها ونظمها الاجتماعية وطرق حياتها الاقتصادية التقليدية كان نصيبها التخلف والخروج من مسيرة الحضارة الانسانية. وفي الواقع ليس في إمكان اي شعب أو فرد أو دولة الانتقال من عصر حضاري الى آخر دون ركوب الظاهرة المجتمعية والانخراط في الإطار الاقتصادي الذي تجسده الفترة الانتقالية نحو الحضارة الجديدة. وعليه، يمكن تعريف العولمة على انها "عملية تغير وتطور مجتمعية تاريخية ذات أبعاد شمولية يتم من خلالها وبها الانتقال من حضارة الصناعة الى حضارة المعرفة. * استاذ الاقتصاد السياسي الدولي، جامعة الأخوين - افران