أعود الى اشكالية الأدب والسياسة على رغم انها كانت موضوع كتابات كثيرة في النقدين العالمي والعربي على السواء" ومُبرر هذه العودة هو انني أُعيد طرحها متصلة بسياق معين، حديث العهد، يتعلق بمناقشة رواية "وردة" للصديق صنع الله ابراهيم، بمناسبة صدور ترجمتها الفرنسية. الزمان، إذاً، هو مساء 16/10/2002، والمكان هو معهد العالم العربي بباريس، ضمن المقهى الأدبي الذي يُديره الناقد بدر الدين عرودكي بحضور جمهور مختلط، وبحضور كاتب "وردة" ومترجمها ريشارد جاكومو وعدد من الكتَّاب والنقاد العرب... أعرف بالتجربة، أن حديث المبدع عن نصوصه، ليست مسألة مريحة للكاتب وليست عملية مأمونة العواقب، لأن "تفسير" المبدع لعمله أو الدفاع عنه، كثيراً ما يؤولان الى الاختزل بل والى مناقضة وتشويه النص تحت وطأة حضور عيّنةٍ من الجمهور ترغب في أن تفرض تأويلاً معيناً، أو بسبب مراعاة الكاتب لحساسية الحاضرين وتوجهاتهم، مما يجله ينساق مع المناخ العام الباحث عن مصدر للتعبئة أو عن قراءة "ايجابية" وسط الحلكة السائدة التي تلفُّ الأفق العربي... والحال، كما أوضح كثير من الدارسين والمحللين، ان العمل الأدبي لا ينصاع بالضرورة لنيات كاتبه ولمقاصده المعلنة، وانما هو يشتمل في ثناياه ومسالكه الفنية واللغوية على أبعاد ودلالات ربما لم تخطر على بال المبدع أثناء ما كان يكتب قصيدته أو روايته. وهذا ما فتح الطريق امام اتجاه حديث في النقد الأدبي دشنه، منذ الثمانينات جان بلمان - نويل، تقوم أسسه على تحليل "لا وعي النص"، مستفيدة من التحليل النفساني لسيغموند فرويد، لكن من دون افتراض تطابق بين النص وصاحبه... وخلال مناقشة "وردة" في معهد العالم العربي، فوجئت بصنع الله وهو يُصرّ على الإفاضة في التأويل "السياسي" لروايته، مطنباً في تفاصيل الصراعات التي عرفها القوميون والماركسيون العرب، وفي المؤامرات التي تعرضت لها المجتمعات العربية وما تزال، وفي علاقة ما ورد في الرواية بواقع مصر الراهن... كأنما صنع الله يريد ان يقول لنا إن كتابته ل"وردة" انما هي لإعادة كتابة تاريخ التجربة الثورية الماركسية في ظفار وتحليل الظروف والملابسات التي آلت بها الى الفشل، مع ابراز دور المرأة العربية في تلك الثورة من خلال شخصية "وردة" المركَّبة من ملامح وسلوكات نساءٍ وفتياتٍ مناضلات عرفهن منذ انطلاق مسيرته النضالية في الخمسينات... نتيجة لهذا التأويل، لم نستطع ان نحلل مقومات النص الجمالية والتقنية وأبعادها المتخطية لتجربة ظفار وشخوصها. ولا شك ان الجهد الذي بذله صنع الله في التوثيق والبحث عن المعلومات والمستندات، هو جهد كبير يستحق التنويه، لكن ذلك لا يبرر اختزال روايته الى "شهادة" أو تأريخ روائي. وفي اعتقادي، ان اللجوء الى التاريخ والى الوثائق وقصاصات الصحف والتسجيلات الصوتية...، لا يعني مطلقاً ان الروائي يتحول الى مؤرخ، بل هي مجرد "استعارة" فضاءات التاريخ وأحداثه لابتداع شخوص روائية - مهما استمدت من الواقع - فإنها تتعالى على سياقها وزمنيتها لتتيح لنا أن نعيد تأويل التاريخ، بل ومعارضته والتشكيك فيه، على ضوء المستجدات وعلى ضوء الرؤية العميقة التي تتكون لدى الروائي ولدينا، عبر المسافة الفاصلة بيننا وبين التاريخ الخامّ كما تنقله المصادر والوثائق التي لا يمكن افتراض موضوعيتها مهما زعم الفاعلون السياسيون والايديولوجيون. من هذه الزاوية، فإن رواية "وردة" تكتسب مجموع قيمتها ودلالاتها، عندما "تتحرر" من نيات كاتبها ومن القراءة السياسية التي تختزلها في الوقائع والصراعات التاريخية التي يستوحيها النص. من ثم نستطيع - على رغم ان هذا ليس هو موضوعنا - ان نجترح عناصر قراءة مغايرة لتلك التي اقترحها علينا صنع الله في ذلك المساء. باختصار، أقول ان شخصية وردة تأخذ وجوداً رمزياً مستقلاً يبتعث في ذاكرتنا صورة الفتاة - المرأة العربية التي تفاعلت مع حركة الطلائع السياسية والفكرية في الوطن العربي، منذ الخمسينات، واقتربت في السبعينات، من حومة الفعل والمشاركة، متطلعة الى استمزاج الايديولوجي بالبُعد الحياتي السلوكي المؤمن بضرورة التحرر النفسي والجنسي للمرأة العربية حتى تخرج من نطاق الوصاية الذكورية وتعيش بنفسها تفاصيل اليومي وقلق الأسئلة الوجودية، على نحو ما نقرأ في يوميات وردة وهي تخوض تجربة حرب العصابات في ظفار خلال السبعينات. وهذه الشخصية، بصوتها المميز، المهيمن على نص الرواية يثير انتباهنا، في الآن نفسه، الى طليعية تجربة ثوار ظفار، رجالاً ونساء، لأنها تؤشر على امكانات للممارسة تضمن الندية بين الرجل والمرأة وتسمح لكل منهما بتحمل أعباء الحرية عندما يقرر الفرد العمل من أجل ما هو أفضل... لكن القراءة لا يمكن أن تقتصر على ابراز فضيلة النزوع الى تغيير العالم عند مثقفين أطّروا تجربة ظفار، بل لا بد من ربط هذا البعد بالبعد الآخر المناقض والمتمثل في واقع سلطنة عمان اليوم حيث يعاين الكاتب - السارد أثناء زيارته لها، وجود سيرورة تَبََنَيُنٍ جديد ومغاير، يرسي دعائم دولة ومجتمع مختلفين عما بشر به ثوار ظفار وسعوا الى تحقيقه. هل هي خيانة التاريخ؟ أم عدم تلاؤم الماركسية مع مجتمع قبلي كما يشير صنع الله؟ أم أن الأمر يتعدى ذلك الى نضوج شروط واقعية تسمح فقط بقيام دولة تتآخى مع جاراتها وتستجيب للمقتضيات المتحكمة في تشكيل "الدولة الوطنية" بعد الاستقلالات العربية؟ أسئلة كثيرة أخرى يمكن ان تتناسل من هذه الأسئلة لتجعل من رواية "وردة" نصاً متعدياً لفضاءاته وأحداثه التاريخية المؤطّرة... لكنني أريد استئناف ما طرحته في بداية هذا المقال، والمتعلق بعلائق الأدب بالسياسة. وأعود الى الموضوع من خلال جوابين تفوَّه بهما صنع الله في تلك الأمسية ويستدعيان المناقشة والمجادلة. الجواب الأول يتعلق بالمثقفين ودورهم اليوم" فقد قال إنه، بحسب تجربته ورصده لما نعيشه في الفترة الراهنة، لا يمكن "أن نُعوِّل على المثقفين العرب"! بطبيعة الحال، هذا الرأي نجده شائعاً، متداولاً، في أيامنا، لأن الكثيرين يعتقدون ان كل ما نعيشه من تدهور وانحطاط مصدره المثقف العربي المتخاذل، الجبان، الممالئ للحكم الخ... وقد نقبل هذا "التبسيط" في التحليل من آخرين، لكنني لا أقبله من صنع الله الذي يجسد، هو وآخرون على امتداد البلاد العربية، نموذجاً للمثقف الانتقادي الرافض لما هو قائم والمتطلع الى ما هو ممكن، والمصرّ على المقاومة من خلال الكتابة والمواقف والدفاع عن حرية المواطن وحقوقه... وهو جواب غير مقبول منه، هو بالذات، لأنه يتناقض مع نماذج المثقفين المناضلين في رواية "وردة"" فهل معنى ذلك ان تجربة ظفار هي آخر اشراقة لمثقفين عرب ملتزمين، وأن النبع قد جف بعد أن شربوا منه ثم ضاعوا في التيه؟ يصعب عليَّ أن أتقبل هذا "الانقلاب" في موقف صنع الله، أي انتقاله من الاشادة بمثقفين ثوريين في "وردة" الى اغتيالهم وتحقيرهم لأنهم لم يفعلوا ما يغيّر أوضاعنا الراهنة، المتدهورة، الباعثة على اليأس. أظن أن تلك زلة لسان تستدعي المراجعة من لدن صنع الله الذي يعلم جيداً ان تغيير المجتمع أو بالأحرى تثويره، ليستا عملين منوطين بالمثقف وحده، وانما هما عمليتان معقدتان ترتبطان أكثر بالقوى الاجتماعية المتصارعة وبالطلائع السياسية التي تقود الصراع وتبلور مفهومات ومثلاً عليا تقتنع بهما الغالبية لتعمل على احتضانهما واقرارهما ديموقراطياً... والمثقف حلقة ضمن هذا النسيج المعقد، وصوته، في الساحة العربية، موجود وأفكاره التنويرية منشورة، ولكن مناخ اللاديموقراطية هو ما يحكم عليه بالمحاصرة ويُغيب صوته لصالح مثقفين مدافعين عن النسق والفكر السياسيين القائمين... أما الاجابة الثانية التي تحتاج الى مناقشة فهي المتعلقة بسؤال عن ميل جيل صنع الله الجارف الى السياسة واستيحائها في ما يكتبون. يعلل صنع الله ذلك الانشداد الى الموضوعات السياسية، بأن حياته وحياة الكتّاب المنتمين الى جيله هي التي فرضت عليهم ذلك! وأنا أرى ان من حق الكاتب ان يستوحي السياسة وأن يشتغل بها إذا أراد، ولكن ذلك لا يعني ان علاقة الكاتب العربي بالسياسة لم تتغير ولم تختلف عما كانت عليه في الخمسينات والستينات والسبعينات. إن جيل الستينات في مصر وخارجها، والأجيال التي تعاقبت، بعد هزيمة 1967، استطاعت ان تخلق - داخل نصوصها الابداعية - مسافةً استتيقية وتيمائية تباعد بينها وبين السياسة في مفهومها الآني، الاستهلكي، المروّج لايديولوجية ما. بعبارة ثانية، يظل المكتسب الأساسي للنص العربي الحداثي، هو تحرره من الخانات التصنيفية نص اجتماعي، نص سياسي، عاطفي، نفسي... وسعيه الى استعادة نبض الحياة في مجمل مكوناتها وتشابك مسالكها، وذلك من خلال التعامل على قدم المساواة مع "العناصر الخام" سواء كانت سياسية أو جنسية أو حلمية أو ذاتية... إذ يصعب ان نفترض وجوداً "مستقلاً" للسياسة أو لأي مقوم من مقومات الحياة. وأظن ان معظم أعمال صنع الله تستهدف الحياة في شموليتها على رغم "نياتها" السياسية" لذلك كنت أود أن يجابه صنع الله الجمهور ليقول له ذلك، بدلاً من الدفاع عن "السياسة" بكيفية غائمة لا تعزز مكتسبات النص العربي الحداثي. لكن نقطة الاختلاف الكبرى بيننا، في تلك الأمسية، تظل هي الخلاصة غير المعللة بخصوص الوضع العربي" فقد أكد صنع الله ان شرط قيام الديموقراطية في مجتمعاتنا، يقتضي أولاً وقبل كل شيء ازالة دولة اسرائيل! ظننت أول الأمر، أنه يمزح، إلاّ ان ملامحه كانت متسربلةً بتلك الجدية المأسوية التي كثيراً ما تغمره في لحظات الشعور بالوحدة أو بثقل الأعباء الوجودية... لم يقل لنا صنع الله من يتولى ازالة اسرائيل، ولا بأي وسائل سيتم ذلك. وعندئذ بدأت أخمِن بأنه اكتشف سلاحاً عجائبياً قادراً على احداث المعجزة، وان المقام لا يسمح له بالكشف عن ذلك السلاح. وساد صمت مهيب يليق بالتصريح، ولم يحاول أحد أن يطرح عليه سؤالاً استيضاحياً في الموضوع. وها أنا أغتنم الفرصة لأطرح عليه ذلك السؤال المؤجَّل. لكن قبل أن أقرأ رده، أقول إن على الكتّاب العرب، من فصيلة الصديق صنع الله ابراهيم، أن يتجنبوا تقديم أجوبة وتعليقات تحمل آمالاً كاذبة للناس، أو تنضح بمضمرات يمكن أن تُؤَوَّل على أنها نزعة عنصرية تجاه "الآخر" حتى ولو كان هو عدونا اللدود. هل يفيد بعد، ان نغمض العيون عما يجرى في العالم وداخل مجتمعاتنا، وأن نلجأ الى تفريخ جينات الأمل بخصوص قضايا معقدة تستدعي شجاعة في التحليل ومصارحة القراء حتى ولو وجدنا أنفسنا محاصرين داخل وضعية صفيقة لا ينفذ منها شعاع رجاء؟ ان النص الأدبي يستطيع، غالباً، أن يقول أشياء أعمق وأدق من التصريحات والتعليقات السياسية" وهذا ما أرجو أن يستحضره أصدقاؤنا والكتّاب المبدعون.