"دون شفقة، دون خجل، ودون أي اعتبار/ بنوا حولي جدراناً عظيمة وعالية والآن، هاأنذا أجلس، يائساً/ لا أفكر بشيء، هذا القدر يكدر فكري/ ولديّ أشياء كثيرة عليَّ القيام بها في الخارج/ آه، عندما بنيت الجدران، لماذا لم آخذ حذاري؟ لكن لم أنتبه إلى أي صوت أو إشارة للبنائين من حولي/ كانوا غير مرئيين، وأبعدوني عن العالم في الخارج". يختار القاص خليل قنديل هذا النص من كافافي ليفتتح عوالم قصصه القصيرة في مجموعته الجديدة وعنوانها "عين تموز" منشورات وزارة الثقافة، سلسلة إبداعات، عمّان، 2002، وهي الرابعة بعد "وشم الحذاء الثقيل" 1980 و"الصمت" 1990 و"حالات النهار" 1995، كي يخبر عبر كلمات الشاعر اليوناني عن خرابٍ ويأسٍ وحصارٍ. قصص قنديل تتغلغل في ثنايا المجتمع ودواخل الأفراد، النساء والرجال والأطفال، وخصوصاً الكهول، على نحو يكشف مشاعر البؤس والحرمان والشقاء والضعف، وقدراً من التشوهات النفسية والاجتماعية والخلقية. ذلك كله بأسلوب سردي بسيط، وبلغة نثرية مشوبة بقدر من جماليات اللغة الشاعرية من استعارة ومجاز وتصوير، تصوير يذهب إلى أعماق الشخوص لا إلى قشورهم وجلودهم ومظاهرهم. كما يتنقل بين البعد الواقعي للسرد والبعد الرمزي، معبراً بسخرية شفيفة عن هزائم قاسية ومرارة عميقة أيضاً. بين البعد الواقعي والبعد الرمزي/ التمثيلي، نقف في "عين تموز"، كما في عز دين الظهر، على حال من أحوال فتاة من بيئة فقيرة تقودها أمها في السوق محاذرة اقتراب ابنتها من الرجال، أو اقتراب الرجال منها. ودلالة على شدة البؤس، تصعد في حافلة مكتظة، ولا تجد مكاناً للبنت سوى فوق المحرك الساخن، قرب السائق، وتجلس هي الأم بجوار شاب سرعان ما تغفو على كتفه، تاركة ابنتها تتقلب على سطح صفيح ساخن، تبحث عن ملاذ في عيون عجوز تراقبها كساحرة، هاربة من عيون ركاب تنهش جسدها الغض الذي راحت تنزع عنه النظرات الملتصقة به كأنما لتعرِّيه، فنشعر به يتفجر مثل قنبلة جنسية موقوتة. لكن القصة تقول ذلك بلغة استعارية مواربة. ثمة هزيمة أخرى في حال "الصغير" الذي يبدأ نهاره بحنان الأم وقبلاتها، وسرعان ما يكتشف أن هذا الحنان ليس سوى إغواء للوصول به إلى "الشيخ مبروك" ودائماً يكون الشيخ "مبروك"! وبصقته المالحة التي ستملأ فم الطفل الزائغ العينين، المرتعش الجسد. وهزيمة ثالثة لحلم الفتاة "العانس" وهي تنتظر أن يدق جارها الأرمل بابها ليطلب الزواج بها، وتتخيله وهو يقف أمام الباب "يباعد ما بين ساقيه، ويمد ذراعاً سمراء عارية، مشعرة، ذات عروق نافرة..."، لكنها تفاجأ به حين دق الباب حقيقة، أنه جاء ينبهها إلى أن ماء "خزانها" دلالة الماء الفائض، في مقابل عطش الأنثى الظاهر وعطش الأرمل الموحى به يغمر السطح ويملأ ساحة بيته. وبعد أن تكون خيالاتها حملتها ل"ترتعش من فكرة أنه جاء ليتزوجها"، فهي في النهاية "اقتعدت الأرض... تصغي لجسدها وهو ينتحب". وبين الفنتازيا والخرافة ما يرصده القاص في "يوم غير مألوف"، حيث سلالة مسكونة بفراسة تُمكِّن أفرادها من "اشتمام رائحة الفجيعة المقبلة"، كخروج شخص عن طبيعته الإنسانية والقيام بأفعال شريرة: يستيقظ الجد وهو ينادي باسم أخيه ويسرج حصانه ويسرع ليجد أخاه الراعي ممسكاً بالعصا ومقوساً جسده مثل الأغنام ويبصق ويلهث ويثغو! أو تخرج امرأة إلى الأزقة وتسير بطريقة مغناجة وتحادث رجال القرية بكلمات نابية، وتكشف عن عورتها، فيقوم رجال العائلة بربطها بالحبال، ويقطع زوج أختها رحلة الحج ويعود لشعوره بحدوث كارثة، فيجدها مربوطة، فيقترب منها ويحدق فيها بنظرات معينة، ويصيح "فكوا الحبال... واغسلوا جسدها... وأعطوها ثياباً"، فتشفى المرأة. أما الراوي، وهو العصامي الذي أسس شركة جعلت حياته وحياة أسرته "تنساب مثل جريان نهر هادئ..." فيخرج إلى عمله ذات صباح، متوقعاً حدوث كارثة، فيتلقى مكالمة من مدرسة ابنه تخبره أن ابنه "... في ساحة المدرسة، يصرخ ويضرب زجاج النوافذ بالحجارة...". فيحاول إعادة الرشد لابنه بنظرة كتلك التي كانت لوالده. لكنه كان ابتعد، عبر حياته الجديدة، من تلك النظرة الخاصة. وفي قصة "مرض"، ليس الرجل/ الراوي وحده المريض، بل العالم كله، فكل شيء مريض في المدينة، شجرة الخوخ المنتصبة أمام بوابة البيت "بخضرة بخيلة وثمار فشل اخضرارها في الاحمرار كما يجب"، والزقاق وأبوابه المغلقة، ووسط المدينة... فالسوق الذي يعاني قشعريرة... بل حمى تجعله يهذي. و... لتأتي حال مرض السماء انعكاساً لأمراض العالم، فالشمس "محاصرة وسط غيوم رمادية، تاركة أشعتها تتكسر وتبدو وكأنها عرجاء...". ومثل اكتهال العالم ومرضه، كهولة "رجل وحيد" برأس تشتعل بالشيب يجلس في المطعم، في مقابل فتى وصديقته "الطافحة بعافية الشباب والتي تبدو بجسدها وكأنها نبتت للتو". الكهل يراقب، بشبق، هذا الجمال المتفتح أمامه. يسعده أن تقترب لتطلب "ولعة عمّوه..."، لكن كلمة "عموه" تذهب كدبوس في أعماقه، و"يتكوم عمره أمامه"، على رغم قشعريرة تصيبه حين تلامس ذراعه خصلات من شعر الفتاة. ويفرح لأن الفتاة استقرت في ذاكرته، ويزداد فرحاً لأنه لن يكون وحيداً في بيته هذه الليلة. والكهل نفسه نجده في علاقة، من طرفه هو فقط، ب"امرأة النافذة"، التي أطلت بعفوية امرأة باهظة الأنوثة وهي "تفك بذراعين نيئتين أضلع النافذة مشرعة إياها لهواء تموز العابق بعرق الهواء، كي يعبر الإبط الوحيد إلا من الزغب"، هو "من جيل تجرَّح بالنوافذ"... يستعيد صبياً يخلع جسده البيتي، ويذهب لينتظر "الإطلالة العصفورية" لعشيقة يستحيل أن تخرج أمام الأب الصارم... والعائلة المزدحمة بالذكورة، فتظل في النافذة "كالبوح المخبَّأ!!". وها هي امرأة تفتح النافذة وتختفي، ولا تدري أنها فتحت نافذة شقية كان يعتقد أنه "ودّعها وأغلقها وسط رصانته المقترحة وأبوته الصارمة". لكن الكهل أخذ المرأة كصياد بدائي، وتركها وحيدة في النافذة. العجوزان الوحيدان، المتلاصقان ذعراً، في "شجر الحديقة"، حيث مطر وريح يكادان يقتلعان الأشجار، يعبران عن رعب يبدو أنه من الشجر، لكنه في العمق رعب وجودي يتشخص في هواجس إنسانية وإحساس بقدوم كارثة، ربما هو الخوف من النهاية، ما يجعلهما يتبادلان "حبيبتي" و"حبيبي" كعاشقين. هو يحدق "بإغفاءتها الجميلة والتي ظلت جميلة على رغم سنواتها السبعين" وهي تخاطبه "أنا خائفة يا حبيبي من هذه الحديقة. ألا ترى تلك التجاعيد السميكة في جذوع أشجارها"... ففي لحظة نهوضها يحدث شرخ زجاجي من تقصف غصن الشجرة، فتندفع نحو زوجها تعانقه وتلصق صدغها بصدغه، تاركة جسدها المرتعش رعباً يمتص رعشة الخوف في جسده. فتجاعيد الشجر وتقصف أغصانه يحيلان إلى تجاعيد العجوزين وتقصفهما. وفي "امرأة الدرويش" رجل وحيد معتكف في واد، يحلم بامرأة تنبثق من الأرض، امرأة خارقة الأنوثة، تسبب الجنون للرجال الثلاثة الذين تزوجوها فماتوا بطرق عجيبة، وحين وجدها هاجمته بقبلاتها أمام أهل القرية، فهرب، فيما راح أهل القرية يضربون المرأة حتى الموت ودفنوها، وأخذوا يبحثون عن الدرويش فوجدوه بعد مسيرة يومين متقرحاً تنهش العقبان الجارحة جسده. وفوق قبر المرأة شجرة غامضة بنموها المتسارع، وقطرات الندى على أوراقها المدببة توحي بمطر مقبل يشبه الفيضان. وفي "ثوب أمي"، ولد يحقد على أمه لأنها استجابت لوالده وبدلت ثوبها البلدي بثياب شامية تحت ضغط شهوانية والده المهووس بالملابس وبالنافورة الشامية التي وضعها في منتصف بيته. الولد يغافل أمه ويأخذ الثوب إلى مطحنة الشرايط فنرى معه كيف يتحول الثوب إلى خيوط حرير "زاهية بألوانها، مزدهرة بالأحمر والأخضر والأسود، متحدة في اختلاطها" فيشعر برعشة ويقبض على قميصه وبنطاله "بخوف يشبه الخوف من تمزيق الجلد". بهذه اللقطات من زاوية النظر الحادة والمتطرفة إلى الأشياء والبشر، يدخل القاص قارئه في ثنائيات تحيل إلى رؤية سوداوية للحياة، من جهة، ورغبة عارمة في اقتحام الحياة وعيشها، من جهة ثانية. فمهما كانت المتعة صغيرة وعابرة يمكنها أن تكون ذات أثر كبير.