تحقيق أولي: تحطم الطائرة الأذربيجانية ناجم عن «تدخل خارجي»    الكشف عن مدرب الشباب الجديد    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    اتهامات لنتنياهو بعرقلتها.. تضاؤل فرص إبرام هدنة غزة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    دبي: موظف يقاضي شركته السابقة بسبب «فرصة عمل»    دار الملاحظة الأجتماعية بجازان تشارك في مبادرة "التنشئة التربويه بين الواقع والمأمول "    مدرب اليمن يستهدف فوز أول على البحرين    الذهب يستقر وسط التوترات الجيوسياسية ويتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية    قوات الاحتلال الإسرائيلي تقتحم مستشفى كمال عدوان شمال غزة    مدرب العراق: سأواجه «السعودية» بالأساسيين    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    الأمن.. ظلال وارفة    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    كرة القدم قبل القبيلة؟!    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    أهلا بالعالم    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    وسومها في خشومها    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    منتخبنا كان عظيماً !    استثمار و(استحمار) !    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حلاوةُ ولاةِ الأمر    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة والسياسة في العراق ... تبعية ناتجة من شعور بغياب الانتماء الى دولة ووطن
نشر في الحياة يوم 19 - 11 - 2002

يطرح الكاتب في مقالته تصوره لحال اليتم التي يعيشها العراقي منذ زمن مديد، وما ادت إليه هذه الحال من تبعية فكرية وعجز عن تأسيس تصور لثقافة وطنية ولسياسة وطنية ايضاً... أو هكذا يرى الكاتب.
تقسيم الوجود الى ثنائية انوثة وذكورة فكرة شائعة في الكثير من المعتقدات القديمة والحديثة بما فيها المعتقدات الشعبية. وتعتبر الفلسفة "التاوية" اكثر من اجاد التعبير الواضح عن هذه الفكرة، واعتبرتها جوهر الوجود ولا يمكن فهم الكون والانسان من دونها. فلسفة "التاو" تقسم الوجود الى ين يان أي انوثي وذكوري ويمكن الترجمة ايضاً، منفعل وفعال، باعث ومتلق، سالب وموجب.
بحسب هذه الاوصاف فإن "الدولة، واذا اردنا تذكيرها لغوياً قلنا "السلطان"، تمثل كل ما هو ذكوري وابوي: القيادة والسيطرة والقوة والجيش والعقل والتخطيط والمصالح العليا. اما "الوطن"، واذا اردنا تأنيثه لغوياً قلنا "البلاد"، فانها تمثل كل ما هو انوثي وامومي: الارض والخصب والمناخ والطعام والاستقرار والحماية والسكن ودفء الاهل والعشيرة.
والمجتمعات البشرية اوجدت مؤسسة عليا، مشيخة او دولة، تقوم بدور ذكوري على رأسها الشيخ او الملك او رئيس الجمهورية، أي "الاب القائد". حتى عندما تقود الدولة امرأة، فأنها رغماً عنها لا بد ان تتخلى عن دورها الامومي لمصلحة الدور الابوي. وهذه الدولة تتكون اساساً من اجهزة القمع والادارات بمختلف انواعها.
بين هذين الطرفين الدولة الاب والوطن الام هنالك الشعب الابن. نعم مثلما الامر في الحياة الواقعية ثلاثية: الاب والام والابناء، هنالك ايضاً في المجتمعات الانسانية ثلاثية: الدولة والوطن والشعب. وليس بالصدفة ان المعتقدات الدينية قد عبرت بدرجات مختلفة عن هذه الثلاثية. في الديانة العراقية الشامية القديمة هنالك الذكر "أيل" أي الاله ويعني العالي، ثم الانثى "عشتار" وتعني العشيرة والوفيرة، ثم الابن المسمى "تموز او بعل". وقد انتقل هذا التثليث العراقي الشامي الى المسيحية.
اما بالنسبة "للنخب المتعلمة الفاعلة" الدينية والثقافية في المجتمع، فإنها موضوعياً تمثل الاخ الاكبر للشعب، وتجتمع فيها الجوانب الذكورية الفكرية والجوانب الانوثية الجمالية، هي الوسيط بين الشعب والاب الدولة والام الوطن، وتقوم بدورين متداخلين:
- تساهم مع الدولة في تسهيل عملية القيادة، فالاجهزة القمعية والادارية يستحيل عليها وحدها ضمان عملية الهيمنة. وعبر وسائل التأثير الدينية والثقافية المختلفة تقوم النخب المثقفة بتعليم الشعب وإقناعه بحقيقة ارتباطه بدولته وضرورة تمسكه بها والخضوع لنظامها.
- تلعب دور المربي للشعب والمدافع عن مصالحه، تلهمه وتقوده وتؤسس له المشاريع والأحلام من خلال نتاجاتها الدينية والفكرية والادبية والفنية.
والاهم من هذا ان النخب المتعلمة بامتلاكها قوى التأثير الفكري والروحي والابداع الجمالي، هي الوحيدة القادرة على ان تشعر المواطن بانسانيته فتشده الى الحياة وتقنعه بحقيقة انتمائه لارض الوطن وناسه وتاريخه وميراثه.
ولئلا يبقى هذا الطرح ضمن التفكير النظري التجريدي، نتخذ من المثال العراقي نموذجاً تطبيقياً لهذه الحال. فإذا كان هنالك افراد يعانون من نصف يتم قد يكون بالأب او الأم، او من يتم كلي من الاثنين معاً، فإن العراقي يعاني اليتم الكلي: الأب والأم، معاً! ان ثنائية اليتم العراقي تتجلى في حرمانه من الانتماء فكرياً وشعورياً الى "دولة ووطن". ليس المقصود ابداً "العراقي المنفي" المحروم من الوطن والدولة، بل المقصود هو العراقي الموجود في العراق مهما كان موقفه السياسي بما في ذلك البعثي. ثم ان هذا اليتم غير مرتبط بالنظام الاستبدادي الحالي، بل يعود الى زمن طويل تمتد جذوره الى الفترة العثمانية وما قبلها وخصوصاً الى بدايات تكون الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 . ان العراقي أكان من ابناء النخب الفاعلة وأياً كانت طبقته ومعتقده وطائفته ودينه ولغته وعلاقته بالدولة، فانه يعاني منذ اجيال طويلة من "يتم كلي" بسبب فقدان الشعور العميق بالانتماء الى "دولة" والى "وطن". هذا هو سر عذاب العراقي وسر ديمومة توتره وتكراره المأسوي لمشاريع الخراب.
هذا الوضع العراقي المشوه يعود في الدرجة الاولى الى قسوة التاريخ العراقي وإستثنائية موقعه الجغرافي. من الشرق تحده جبال ايران وهضاب آسيا، ومن الشمال هضاب القفقاس والأناضول، ومن الغرب والجنوب بوادي الشام والجزيرة العربية. ان موقع العراق الجغرافي كواد خصيب منفتح الحدود وتحيطه الهضاب القاحلة من كل النواحي والتي ظلت طيلة آلاف السنين تبعث بجحافل الغزاة يدمرون الحضارة السابقة وينشرون الخراب، ثم يذوبون مع الزمن بمياه النهرين ليصنعوا من جديد حضارة اخرى هي امتداد وقطيعة في الوقت نفسه مع الحضارات السابقة.
لو قارنا مثلاً تاريخ العراق بتاريخ مصر، فإن العراق قد يفوق مصر بالغنى الحضاري ولكن ايضاً يفوقها بتوتره وعنفه والتأثير الحاسم للخارج عليه. يكفي ان نضرب مثلاً ليس ببعيد. في الوقت الذي ظهر محمد علي باشا الالباني الذي استقل بمصر وبنى الدولة المصرية الحديثة، ظهر في العراق ايضاً داود باشا - الجورجي الذي حاول ان يقوم بنفس الدور الإستقلالي، لكنه جوبه بعواصف لا ترحم من القبائل العربية من الغرب المدعومة عثمانياً والقبائل الكردية من الشرق المدعومة ايرانياً، ثم غدر النهرين وطوفانهما المفاجئ ومعهما الطاعون والكوليرا، حتى اضطر هذا السلطان الوطني المصلح ان يتنازل ويطلب بنفسه تدخل الجيش العثماني من اجل انقاذ شعبه من الهلاك المحتم. بينما لم يواجه محمد علي في مصر اية قوى كبرى على حدوده، ولم تخرب مشاريعه اية قبائل خطيرة ولا فيضانات غدارة، بل امتلك كل الوقت لكي يوطد حكمه ويعيد بناء الدولة المصرية ويجمع حوله النخب الوطنية التي اعادت احياء الامة المصرية الحديثة. ان هذا التاريخ العراقي المتوتر والاستثنائي قد ادى الى حال اليتم الحالية، دولة ووطناً:
اولاً، يتم الابوة: منذ سقوط الدولة العباسية لم تقم في العراق دولة وطنية تمثل العراقيين، فهي اما اجنبية او اقلوية. مثال الدولة العثمانية التي ظلت دائماً منعزلة اقوامياً إذ تقودها العناصر التركية والقفقاسية والسلافية، وهي ايضاً منفصلة مذهبياً عن غالبية العراقيين حيث ثلثاهم من الشيعة اضافة الى المسيحيين واليهود. ولم يكف العراقي احتلاله من الاجنبي ومصائب الطبيعة وعبث القبائل العربية والكردية والتركمانية، بل ظلت بلاده طيلة القرون ساحة حرب دائمة بين العدوين اللدودين الايراني والعثماني. اما بعد تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، فان النظام الملكي على رغم جهوده الوطنية والليبرالية استمر يعاني داء الانفصال عن غالبية العراقيين، إذ قادت النظام النخبة العراقية العثمانية السابقة وعناصرها قاطبة من المنطقة الشمالية السنية العربية المتحالفة مع عناصر كردية وتركمانية. ومع مرور السنين راح يتعمق انعزال الدولة حتى بلغ ذروته في النظام الجمهوري وبالذات في عهد البعث. ان نخبة الدولة الحالية، من الناحية الاقوامية والطائفية يستحوذ عليها "بعض" من السنة العرب، ومن الناحية المناطقية العشائرية يستحوذ عليها "بعض" من اهل تكريت والاطراف الشمالية، ومن الناحية الحزبية يستحوذ عليها "بعض" من حزب البعث. والمحصلة العامة فان الدولة العراقية منذ تأسيسها وحتى الآن لم تتمكن ان تمثل، لا كل العراقيين ولا حتى غالبيتهم، من جميع النواحي الدينية والاقوامية والطائفية والمناطقية والحزبية، بل ظلت منذ تأسيسها وحتى الآن لا تمثل الا بعضاً من بعضهم!! لهذا كان من الطبيعي ان يترسخ لدى العراقي ذلك الشعور الموروث من الحقب العثمانية وما قبلها بانه "يتيم" عن الدولة وبأن الدولة غريبة عنه، والأدهى من هذا انها دولة، لا تمتلك ذرة من شعور ابوي حتى لو كان تسلطياً، بل هي دولة فحولية تتلذذ بقمع الابناء واغتصابهم فكرياً وروحياً وجنسياً. بالنسبة لاغتصاب المعارضين يمكن مراجعة تقارير منظمة العفو.
ثانياً، يتم الامومة: ان الوطن العراقي لم يتمكن من القيام بدور الوطن الام المانح للحياة والخصب والامان. والحقيقة ان غياب دور الوطن الام يعود الى سببين، موضوعي واقعي وذاتي عقلي. بالنسبة الى السبب الموضوعي، فكما اشرنا الى ان تاريخ العراق المتميز وموقعه الصعب اديا الى تخلخل في الوحدة الاقوامية الدينية لدى العراقيين وتنوع انتماءاتهم الأقوامية عرب، اكراد، تركمان، سريان آشوريون، وانتماءاتهم الدينية المذهبية مسلمون شيعة وسنة، مسيحيون بكل طوائفهم ويهود، ويزيدية، وصابئة. هذا التنوع الاقوامي الديني المصحوب بغياب الشعور بالانتماء الى دولة - اب توحد الابناء وتلم صفوفهم، بل بالعكس دولة فحلة انعزالية تعمل المستحيل لكي تمنع التوحد.
اما السبب الذاتي، فيعود الى الدور الذي لعبته "النخب الفاعلة" العراقية. المشكلة الحقيقية تكمن في الجانب الذكوري من ابداع النخب، أي الفكر بتنوعاته السياسية والاجتماعية والفلسفية والدينية. من المعروف ان خطورة الفكر تكمن في دوره الحاسم بخلق المشاريع والتيارات الوطنية التي من خلالها ينظر المواطن الى وطنه، وعلى هداها يشق المناضل دربه نحو المستقبل. ان جردة سريعة للتيارات السياسية الفكرية العراقية خلال اكثر من قرن، تكشف ان غالبيتها الساحقة تتميز بتنكرها الواضح والمباشر للوطن العراقي وانقيادها المبتذل لأهواء الدولة التفريقية الانعزالية. كل هذه التيارات الماركسية والليبرالية والقومية والاسلامية، لم تهتم ولم تفكر بإنجاز اكبر وأول مهمة يحتاج إليها أي وطن وأية دولة: "اعادة احياء الهوية الوطنية". كلها اختلفت حتى الدم في كل شيء الا في نقطة اساسية واحدة اتفقت عليها من دون استثناء: "نفي الانتماء الوطني"، اما باسم الاممية او باسم القومية العروبية والكردوية والطورانية التركمانية والآشورية او باسم الامة الاسلامية. والأدهى من هذا ان كل هذه الادعاءات الامبراطورية الكبرى النافية لوحدة الوطن وشعبه، امتزجت بحملة شعواء على ميراث الشعب الديني والروحي والتقاليدي باسم الحداثة وتبني الحضارة الغربية بتنوعاتها الرأسمالية والاشتراكية.
ان نظرة على الثقافة السياسية العراقية منذ تكوين الدولة الحديثة تكشف لنا انها قامت بكل ما هو كفيل بانتزاع روح المواطنة من المواطن وتشتيت انتمائه وإشعاره بتيتمه واغترابه الوطني والانساني. أي بكل اختصار قتلت فيه الشعور بالانتماء الى الوطن الام بعدما قتلت القيادة العليا شعوره بالانتماء الى الدولة الاب.
ان حال اليتم التي تعانيها الثقافة العراقية، كما ذكرنا، تجلت خصوصاً في الجانب الفكري بتنوعاته السياسية والاجتماعية والفلسفية والدينية. يكفي ان نضرب المثل التالي للتدليل على مدى ترسخ حال اليتم هذه حيث يتم التعبير عنها بصورة افتخارية ليس فيها اي وجل. كثيراً ما نسمع تلك المقولة الشائعة في العالم العربي: القاهرة تؤلف وبيروت تطبع وبغداد تقرأ !! ليس الغريب فقط انها مقولة خاطئة احصائياً، بل الغريب ان يتم تقبلها بكل سذاجة في الثقافة العراقية من دون ادراك لسلبيتها وقسوتها. انها تعبر بصورة مباشرة عن طفولية الثقافة العراقية، فهي عائل مستهلك يعيش على عطاء والديه القاهرة وبيروت!!
ومن اكثر تجليات هذا اليتم هو الفشل التام في انتاج أي فكر عراقي متميز ومستقل. هذا ليس كلاماً جزافاً بل تكفي مقارنة تاريخ الثقافة العراقية منذ قرن وحتى الآن مع تاريخ الثقافة في بلدان الشام ومصر لتنكشف هذه الحقيقة المرعبة: في كل العصر الحديث لم تخرج الثقافة العراقية بجميع تياراتها السياسية الفكرية مفكراً عراقياً واحداً في كل المجالات السياسية والاجتماعية والفلسفية والدينية!! واذا كان البعض يردد اسم علي الوردي فإنه في الحقيقة مؤرخ وراوٍ متميز لكنه ليس مفكراً، وما طروحاته في علم الاجتماع الا تقليد تلميذي لطروحات المستشرقين عن المجتمعات العربية، وقد انجبت مصر العشرات من امثال الوردي وأكثر. قد تمكن الاشارة الى محمد باقر الصدر كمفكر اسلامي شيعي عراقي اصيل يبشر بالخير لو لم يتم اعدامه.
ولو اخذنا مثال مصر منذ بدايات عصر النهضة فهي قدمت الكثير من المثقفين المصلحين اشهرهم محمد عبده وجماعته، واعقبه الرعيل الذي كسر الكثير من المحرمات الفكرية الكبرى على رغم كل موانع الدولة والمؤسسات الدينية: طه حسين "في الشعر الجاهلي" وعلى عبدالرازق في "الاسلام وأصول الحكم" ومحمد خلف الله في "الفن القصصي في القرآن". اما الشاميون فحدث ولا حرج، منذ الكواكبي ورشيد رضا وبطرس البستاني وفارس الشدياق حتى مؤسسي التيارات السياسية الفكرية المعروفين مثل ميشال عفلق وأنطوان سعادة وساطع الحصري وغيرهم. الغريب انه حتى تيار القومية العروبية والبعث، على رغم ترسخه في العراق وقيادته للدولة منذ الستينات وحتى الآن، عجز عن خلق مفكر عروبي عراقي واحد. حتى المحاولة المتواضعة لعزيز السيد جاسم في التنظير البعثي تم قطعها بسبب اصداره كتاباً يمجد فيه "الامام علي"، ما دفع الدولة القومية الى ان تجعله يختفي في غياهب السجون منذ اعوام وحتى الآن! لقد ظل التيار العروبي العراقي يعيش على المثقفين الشاميين منذ ساطع الحصري حتى ميشيل عفلق ومنيف الرزاز والياس مرقص. اما التيار القومي، الذي اثر في بعض المثقفين العراقيين فإن منظّره وزعيمه انطون سعادة لبناني. اما حركة القوميين العرب، فقادتها ومؤسسوها كلهم شاميون، كجورج حبش ووديع حداد! والتيار الناصري الذي سيطر على الشارع العراقي وعلى الدولة في الستينات معروف بأنه قادم من مصر. اما بالنسبة الى التيار الشيوعي العراقي فإن الشاميين ايضاً هم الذين لعبوا دوراً في تغذية خلاياه الاولى وربطها مع القيادة في موسكو. التيار الديني العراقي هو الآخر لم يتخلص من التبعية الفكرية والتنظيمية، فقسمه السني ظل فرعاً تابعاً لقيادة الأخوان المسلمين في مصر، اما قسمه الشيعي فإن تبعيته لإيران قديمة حتى ايام الشاه، ويكفي القول ان قياداته العليا مقيمة منذ اعوام طويلة في طهران.
التبعية الفكرية ليست وحدها ما طبع الثقافة العراقية، بل يمكن القول ان من اكثر تجليات هذا اليتم العراقي التبعية السياسية التظيمية المباشرة! ان تاريخ الحركة السياسية العراقية يكشف عن الكثير من الاسماء الشامية التي اتت الى العراق وقادت تيارات سياسية فكرية عراقية. ساطع الحصري الذي قاد التيار الفكري العروبي، ثم المفتي الحاج أمين الحسيني الذي اتى من فلسطين ليلعب دوراً حاسماً في دفع رشيد عالي الكيلاني وجماعته الى انقلابهم الشهير. حزب البعث لم يكتف الشاميون بتكوينه في الشام بل اتوا بأنفسهم الى العراق ليكونوا فرعه الاول. اما فرع حركة القوميين العرب فقد اتى نايف حواتمة بنفسه الى العراق ليقوده.
هذه التبعية السياسية للنخب العراقية، يقابلها الغياب التام في التاريخ الحديث لأية حال تمكن فيها العراقيون من صنع تيار سياسي وفكري يتم تصديره الى الخارج، ولم يحدث أيضاً ان رحل مثقف عراقي وأسس وقاد تياراً سياسياً في بلد آخر. هنالك الكثير من العراقيين ممن تطوعوا في المقاومة الفلسطينية، لكنهم ظلوا دائماً على قائمة ابطال العمليات الاستشهادية وأعضاء تابعين لم يتمكنوا من ان يضيفوا أي شيء جديد لها. بل يمكن ايراد حال اكثر تعبيراً وغرابة:
قامت الحكومة العراقية خلال اعوام السبعينات والثمانينات بجلب الملايين من المصريين لأسباب اقتصادية وسياسية، وقدمت لهم الكثير من الامتيازات وصرفت الملايين على نخبهم من اجل شراء ذممهم وتكوين تنظيمات بعثية مصرية تابعة لها، لكن النتيجة بعد سنوات هي الفشل التام ولم تتمكن من خلق تنظيم بعثي حتى من عشرين مصرياً! والسبب لا يعود فقط الى سذاجة القيادة العراقية، بل خصوصاً الى اعتزاز المصري بوطنه ودولته مهما كان دينه او ميله، ورفضه اللاشعوري التبعية للخارج، لأنه بكل بساطة لا يعاني حال اليتم التي يعانيها العراقي.
ان الجواب الجاهز عن حال التبعية الفكرية السياسية هذه، كثيراً ما نسمعه من المثقفين العراقيين: قسوة الوضع العراقي وشدة القمع التي تعوق المثقف من الانتاج الفكري. لكن هذا غير صحيح ابداً، فإن هذه القسوة وهذا القمع لم يمنعا الآلاف المؤلفة من المثقفين العراقيين من الالتزام بالفكر الشيوعي وتحمل السجون والجوع التشرد وحتى الاعدام، من اجل نشر افكار ماركسية تأتي جاهزة ومغلفة وحتى مترجمة ومزينة بصور توضيحية مباشرة من موسكو وبكين!!
ومن اكثر تجليات هذا العجز الفكري السياسي، فقدان القدرة التامة على المراجعة النقدية للتاريخ السياسي الفكري العراقي. على رغم كل التغييرات العاصفة التي حدثت في العراق وفي المنطقة وفي العالم اجمع، وعلى رغم كل الكوارث الوطنية والنكسات وعلى رغم المشاريع الدولية التي تطبخ لمستقبل العراق، كل هذه الآلاف المؤلفة من المثقفين والسياسيين العراقيين في الخارج، فإن هنالك غياباً تاماً لأية مراجعة نقدية من كل التيارات السياسية الفكرية العراقية!! بل بلغ العجز حتى عن تكوين مركز بحوث فكرية وطني او حتى عقد مؤتمر فكري سياسي لدراسة الوضع!
لا يزال حتى الآن يسود الثقافة العراقية ذلك الايمان العلني والمبطن بأنه يكفينا ما ورثناه من متاع دسم من اكوام الشعارات والنظريات المبهرجة الملونة التي يمكن تتبيلها بين حين وآخر بما يكتبه لنا الاخوة الشاميون والمصريون والاصدقاء الغربيون!
هذه التبعية وهذا "الاخصاء" الفكري السياسي ليسا نتاج القسوة والقمع وحدهما، بل هما نتاج هذا "اليتم" الذي زرع في اعماق الثقافة العراقية الخوف من كل شيء اسمه ابداع فكري، مهما كان دينياً او سياسياً او اجتماعياً. نعم ان الابداع الفكري موقف ذكوري متزن لا يمكن ان يمتلكه الانسان اليتيم التائه المرفوض من ابيه والمتنكر لأمه!! ان ادراك جوهر المرض والاعتراف به ودراسته خطوة أولى من اجل الشفاء منه.
* كاتب عراقي مقيم في جنيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.