الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    984 ألف برميل تقليص السعودية إنتاجها النفطي يومياً    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    قبل مواجهتي أستراليا وإندونيسيا "رينارد" يستبعد "العمري" من قائمة الأخضر    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    حديقة ثلجية    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    البنك المركزي السعودي يخفّض معدل اتفاقيات إعادة الشراء وإعادة الشراء المعاكس    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    ترسيخ حضور شغف «الترفيه» عبر الابتكار والتجديد    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الغرب والقرن الأفريقي    نعم السعودية لا تكون معكم.. ولا وإياكم !    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    جودة خدمات ورفاهية    الاتحاد يتغلب على العروبة بثنائية في دوري روشن للمحترفين    ضبط شخصين في جدة لترويجهما (2) كيلوجرام من مادة الحشيش المخدر    المربع الجديد يستعرض آفاق الابتكار الحضري المستدام في المؤتمر العالمي للمدن الذكية    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ليل عروس الشمال    التعاطي مع الواقع    رينارد يعلن قائمة الأخضر لمواجهتي أستراليا وإندونيسيا في تصفيات مونديال 2026    الداخلية: انخفاض وفيات حوادث الطرق بنسبة 50%    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    سلام مزيف    همسات في آذان بعض الأزواج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بيروت المقاهي الثورية والمنتديات السياسية و"بارات" الجواسيس . أحاديث عقائدية واغتيالات وعيون عرب وأجانب 2 من 2
نشر في الحياة يوم 17 - 11 - 2002

طيلة ربع قرن، بين عامي 1950 و1975، تحولت بيروت الى عاصمة عالمية، وساعد في ارتقائها الى هذه المكانة جوّ الحريات الذي جذب عرباً وأجانب، فكانت المدينة ملاذاً للاجئين السياسيين العرب الذين اطاحتهم الانقلابات العسكرية.
في تلك الفترة لعبت المقاهي والمطاعم وبارات الفنادق دور النادي السياسي لناشطين في شؤون العقائد، وللطامحين في الوصول الى الحكم هنا وهناك في العالم العربي الواسع. ومرّت في هذه الأمكنة أسماء مؤثرة في أجيال عربية وكذلك في مصائر.
نشرنا أمس حلقة عن اجواء مقاهي بيروت النوادي، وهنا حلقة ثانية أخيرة.
النقاشات الايديولوجية والسياسية وحتى تدبير التظاهرات او الاتفاق على مواعيد الاجتماعات السرية للخلايا الحزبية كلها كانت تدور على موائد الاكل او على فناجين القهوة في مطعم فيصل، والكثير منها كان يتخلله الصخب والاصوات العالية، وأصحاب المطعم يراقبون ولا يتدخلون او يضغطون لتقصير امد الجلسات، وأذكر ان جورج بارودي الذي يدير المطعم كان يراقب كل ذلك الصخب بابتسامة راضية، اما فريد فيصل فكان يجلس في احدى الزوايا ولا يتدخل. لا يمكن بحال تعداد الطلاب او الخريجين او الاساتذة الذين "مروا" في "فيصل" وشاركوا في نشاطاته. وأذكر من القيادات الفلسطينية ومنهم ليسوا الخريجين لكنهم ادمنوا مطعم فيصل: غسان كنفاني، بسام ابو شريف، نايف حواتمة، محسن ابو ميزر، كمال ناصر الذي كان الاكثر حضوراً، وسمعت منه في احدى النقاشات عام 1970 قوله الشهير بعد قبول عبدالناصر مشروع روجرز: "الآن اصبح اتكالنا على وطنية اليهود". وحملت هذه العبارة هجوماً مبطناً على هذا القبول الذي اعتبره اليساران اللبناني والفلسطيني خطوة نحو الحل السلمي - الاستسلامي، وشنا على عبدالناصر بسببه حملات قاسية تجاوزت الحملات الاعلامية الى حد تسيير التظاهرات الشعبية ضده وبعضها اعتدى على مكاتب الناصريين في مدينة صيدا.
وأشير هنا الى ان الحملات التي كان يتعرض لها عبدالناصر في حلقات مطعم "فيصل" لم تكن تقل عن مثيلاتها في ال"دولتشي فيتا"، ومصدرها الرئىسي البعثيون من مختلف التيارات. وبلغت هذه الحملات أوجها بعد انهيار الوحدة السورية - المصرية واستأنفت التصاعد بعد فشل محادثات الوحدة الثلاثية التي جرت لاحقاً في القاهرة بين عبدالناصر وقيادات البعثين السوري والعراقي.
ما اتذكره من الطلاب السوريين المداومين على مطعم فيصل "الحركي" عماد حراكي الذي ينتسب الى عائلة اقطاعية شمالي سورية، والقيادي في حركة القوميين العرب هاني الهندي والذي دخل السجن في دمشق لمشاركته في محاولة اغتيال الشيشكلي، وجهاد ضاحي ولم يكن طالباً في الجامعة وكان المشارك الآخر في تلك المحاولة. وكان ايضاً بين طلاب الجامعة ورواد مطعم "فيصل" الكثير من ابناء العائلات السورية الاقطاعية الذين كانوا يناصبون الاحزاب العقائدية العداء مثل مصطفى برازي وعمر برازي وبشر وفوزي العظم وغيرهم ممن لا اتذكر اسماءهم. والطريف ان حرشو البرازي الذي اغتال في بيروت العقيد سامي الحناوي قائد ثاني انقلاب عسكري في سورية عام 1949 اصبح بعد خروجه من السجن يتردد يومياً على مطعم "فيصل".
كان الحناوي قد لجأ الى بيروت بعد انقلاب العقيد اديب الشيشكلي الانقلاب العسكري الثالث في سورية وسكن في محلة البربير فكمن له البرازي بينما كان ينتظر الترام في محطة النويري وعاجله برصاصات عدة قضت عليه، وكان ينتقم بذلك لنسيبه محسن البرازي رئىس وزراء حسني الزعيم الذي اعدمه الحناوي مع الزعيم.
وأعتقد ان حرشو البرازي لا يزال يقيم في بيروت وكنت قد التقيته قبل سنوات عند احد الاصدقاء.
لم يكن الكثير من السياسيين اللبنانيين يترددون على مطعم "فيصل" عدا خريجي الجامعة الاميركية فهم الذين الفوه طلاباً مثل عادل عسيران واميل بستاني قبلاً وللآن لا تزال غالبية السياسيين وذوي الوظائف العالية في لبنان من ذوي التعليم الفرنسي غير ان كامل الأسعد على رغم انه من خريجي الجامعة اليسوعية كان كثير التردد على مطعم "فيصل" لتناول الغداء ويمضي اوقاتاً كثيرة في رأس بيروت مع معارفه من ابناء جديدة مرجعيون.
غير ان حلقات مطعم "فيصل" العقائدية لم تكن توفر في حملاتها "النظام اللبناني"، بل كانت تشمله بالهجمات وتعتبره جزءاً من "النظام العربي الواحد". كما ان رشاش تلك الحملات كان يطاول ايضاً الكثير من رجال السياسة اللبنانيين، ومرة وخلال واحدة من هذه الحلقات تركز "القيل والقال" على صائب سلام وكان رئيساً للحكومة، ويظهر انه كان للحكومة آذان على احدى الطاولات المجاورة فوصل الكلام الى سلام الذي ارسل في اليوم التالي مستشاره علي المملوك الى منح الصلح الذي كان يتصدر تلك الحلقة ليردد له: "والله صائب بك بيحبك يا منح بك". بعدها انتشر خبر هذه الواقعة في حلقات "فيصل". وأصبحت روايتها مصدراً جديداً للقيل والقال!
منح الصلح او منح بك كان هو "الملح" والقاسم المشترك في جميع المقاهي الثورية او الفكرية والثقافية، وحتى الآن فإن شخصية هذا المفكر الغنية والفريدة تلون عوالم بيروت الصحافية والثقافية والسياسية، وعندما كنت اجول صحافياً لتغطية الاحداث في العواصم العربية كان جميع من التقيتهم في هذه الجولات من خريجي الجامعة الذين اصبحوا في سدة المسؤولية في بلدانهم يسألون اول ما يسألون عن اخبار منح بك.
اما من تخرج من اللبنانيين في الجامعة الاميركية او في مطعم "فيصل" فلا يمكن حصرهم وقد يصل عددهم الى الألوف انما اتذكر بعض من اشتهرت اسماؤهم مثل السفيرين خليل مكاوي وسهيل الشماس، ونقيب المهندسين السابق عاصم سلام، بشارة مرهج ومعن بشور وكانا ولا يزالان رفيقي درب، ورغيد الصلح وهشام الصلح وأحياناً خلدون الصلح، وشارل شدياق وابراهيم خوري ووهاب عطيه، والوزير الحالي فؤاد السنيورة الذي كان ايامها "شخصاً آخر"، ونائب بيروت الحالي محمد قباني الذي كان والسنيورة لا يفترقان وينتسبان معاً الى حركة القوميين العرب. وسهيل السعدواي الذي شغل لاحقاً مركز الامين العام لمنظمة "اوابك". اما زهير السعدواي وذو الفقار قبيسي فقد كانا يداومان على تناول الغداء عند "فيصل" ويمضيان السهرة في ال"دولتشي فيتا". ومن غير الخريجين كان محسن ابراهيم يشارك دائماً في حلقات القوميين العرب العرب التي كان يشهدها المطعم.
كان مطعم "فيصل" ايضاً بمثابة "المعلم"، تحرص الشخصيات اليسارية العربية عند زيارتها الى بيروت على التردد عليه والمشاركة في اجوائه مثل عبدالرحمن اليوسفي رئيس وزراء المغرب السابق ومحسن العيني رئيس وزراء اليمن السابق، وعبدالقادر بن صالح رئيس مجلس الشعب الجزائري الحالي، الذي عمل في بيروت طويلاً كمراسل صحافي. وكان يقال قديماً على سبيل التعريف بأهمية مطعم "فيصل" ان شهادات الجامعة الاميركية تبقى شكلية اذا لم تصدق من ندوات مطعم "فيصل". وقيل أيضاً ان السائح العربي أو الاجنبي عندما يحاول الاستدلال على عنوان الجامعة الأميركية يأتيه الرد: انها مقابل مطعم "فيصل".
والآن وبعد ان انتهى ذلك العصر، حل عصر جديد في لبنان، هو أولاً عصر الأمركة السياسية، وأحد تداعياته تصريح رئيس وزرائه وعبر شاشات التلفزة بأن "اميركا صديقة لنا" ومثل هذا القول لم يبح به أي رئيس حكومة لبناني منذ الاستقلال. تبعه الرئيس الحريري بتنظير الدعوة الى صداقة اميركا، لأن اسرائيل ضد هذه الصداقة او تخشى نتائجها. وثانياً الأمركة الثقافية وأول مظاهرها النوع من الأمركة تحول مطعم "فيصل" الآن الى مطعم للوجبات الأميركية السريعة.
هناك شائعة سائدة تصنف مطعم ومقهى "الهورس شو" الذي كان يقوم عند زاوية "سينما الحمرا" وعلى بعد امتار من سينما البيكاديللي، بين المقاهي الثورية او السياسية. والحقيقة لم تكن له هذه الصفة، بل كان يحمل لوناً ثقافياً معيناً لأن معظم المترددين عليه، خلاف رواد دور السينما، كانوا من الرسامين والممثلين والفنانين وربما العدد المحدود من الصحافيين، فصاحبه كان يشجع الرسامين خصوصاً بتعليق لوحات منتقاة لهم على جدران المطعم انما بصورة عامة كان يفضل الزبائن الذين يتناولون الغداء والعشاء. اما جماعات الصحافيين واليساريين الذين لم تكن قدراتهم تتجاوز ثمن فنجان القهوة فلم يكن مرحباً بهم، والاستثناء الوحيد من هذه القاعدة كانت حينما يحضر اكرم الحوراني بين الفترة والأخرى للجلوس على رصيف "الهورس شو" فيلتف حوله نفر الصحافيين من جماعة فنجان القهوة.
اما أشهر حادثة في تاريخ "الهورس شو" فجرت مطلع سبعينات القرن الماضي، عندما منعت السلطات المختصة مسرحية "مجدلون" فتوجهت نضال الأشقر مع الممثلين الى "الهورس شو" حيث لعبوا المسرحية على رصيفه امام انظار شرطي السير ورواد شارع الحمرا المشدوهة.
في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، ذاع الصيت "الثوري" لهذه المقاهي في العالم العربي وفي الخارج ايضاً، لكن بيروت كانت تنبض في المرحلة نفسها بمنتديات سياسية كانت شهرتها لبنانية فقط وتعكس النشاط العارم السياسي والاجتماعي للسياسيين وللصحافيين اللبنانيين. معظم هذه المنتديات تمثل ايضاً بالمقاهي والمطاعم، فالعاصمة اللبنانية لم تعرف النوادي ذات العضوية والمقتصرة عضويتها على الطبقات الغنية او الحاكمة الا أيام الانتداب الفرنسي وقد بقي ثلاثة منها بعد الاستقلال هي: النادي الفرنسي في منطقة الزيتونة ونادي بيروت المواجه لسينما روكسي في ساحة البرج، ونادي الايرو كلوب في حي السراسقة في الأشرفية. اما المترددون على هذه النوادي فكانوا من وجهاء الاشرفية وبينهم وزراء ونواب ورجال سياسة يمضون السهرات بلعب "الكاتورز" او "البريدج"، ومعظم احاديثهم تدور بالفرنسية حتى التي تتناول منها الشؤون السياسية!
ومرة روى لي الميتر مصطفى شحاده الذي كان ظاهرة في مطعم "العجمي"، وسأعود الى ذكره: انه كان عام 1943 يعمل في نادي بيروت الذي كان معظم رجال السياسة والمجتمع يقضون فيه سهراتهم، وأحد المترددين عليه كان ريمون إده، ويتذكر الميتر مصطفى ان جميع الساهرين من كبار القوم كانوا يتجاهلون العميد بل ويتهربون حتى من تحيته فيضطر الى الجلوس وحيداً ولا يجد من يسليه ويحادثه غير الميتر مصطفى نفسه. ويضيف الميتر مصطفى: ان أولئك الاشخاص انفسهم كانوا يتمسحون على باب والده عندما كان رئيساً للجمهورية وباتوا في تلك المرحلة يخشون وصول اخبار لقائهم بالعميد الى الشيخ بشارة الخوري العدو الألد لوالده.
وقد دارت الأيام في ما بعد، وعاد هؤلاء الاشخاص يتزلفون للعميد بعدما لمع نجمه وكبر دوره السياسي!
أما المقاهي السياسية فأولها مقهى "النجار" في ساحة البرج الذي كان مزدهراً أيام الانتداب الفرنسي يشهد يومياً تجمعات النواب والسياسيين من مختلف المشارب للتداول، حول القهوة المرة، في آخر اخبار الازمات الوزارية او في اتجاهات وميول المندوبية الفرنسية.
كان مقهى النجار يقع في مكان مواز للمكان الذي كانت تقع فيه صيدلية بيار الجميل في الجانب الآخر من ساحة البرج، وقد بقي الشيخ بيار يداوم يومياً ويستقبل زواره في الصيدلية حتى سنة تعيينه وزيراً في الحكومة الرباعية عام 1958.
وقد لا يعرف الكثيرون ان العديد من رجالات آل الصلح اختصوا بالتردد على مقاه معينة، اصبحت اماكن لقاء لهم بالسياسيين والصحافيين، وأشهر المقاهي "الصلحية" اذا جاز التعبير هو مقهى دبيبو المطل مباشرة على البحر في الروشة والذي ما زال قائماً للآن. وكان رياض الصلح يحب الجلوس فيه يستلهم زرقة السماء والماء فكان معظم السياسيين والصحافيين يقصدونه هناك للتمتع بجلسته والتداول معه في شتى الشؤون العامة.
وقد ورث تقي الدين الصلح الى جانب منصب رئاسة الوزارة هذه العادة فأصبح "دبيبو" مركزاً لمعظم جلساته ومجالسه الغنية بالنوادر وبحسن البيان.
واشتهر مقهى ومطعم الغلاييني في الروشة بصلح آخر هو سامي الصلح الذي كان يحب تناول "الأركيلة" في حدائقه فيجتمع حول زعماء الاحياء البيروتية وأصحاب الحاجات او يقصده هناك بعض النواب لمحادثته بالشؤون العامة.
وقد ورث عادة تناول الاركيلة عن سامي بك في مقهى الغلاييني رشيد الصلح عندما ترأس الحكومة عام 1975 وكان يلاقيه الى هناك خصوصاً عصر كل يوم احد اركان الحركة الوطنية مثل جورج حاوي ومحسن ابراهيم ومحسن دلول وسمير صباغ الخ. وأذكر انني عصر يوم 13 نيسان ابريل من العام 1975 وبعد حادث بوسطة عين الرمانة مباشرة وكان يوم احد، ايضاً توجهت الى الغلاييني بحثاً عن رئىس الحكومة ورفاقه الذين كانوا من نجوم تلك المرحلة فلم اجده، لكنني وجدت بعض "الرفاق" ينتظرون عودة كمال جنبلاط من المختارة لبحث حادث البوسطة وتحديد موقف الحركة الوطنية منه.
اما اين اصبح مقهى ومطعم الغلاييني الآن فلربما لا تصدق الاجيال الجديدة ان ذلك المطعم بحديقته المتواضعة وغرفه الزجاجية قد اقيم مكانه مع امتداد كبير على الشاطئ المواجه له هذا المنتجع البحري الفائق الفخامة والروعة منتج "الموفنبيك".
كما لا يعرف الكثيرون ان مطعم العجمي كان اشهر وأهم منتدى سياسي وربما اجتماعي قبل عام 1975. حتى ذلك الوقت كان سوق الطويلة اهم سوق تجارية في بيروت تزدحم على جانبيه اكبر وأشهر المحلات التجارية المملوءة بالبضائع ذات النوعية العالية والمرتفعة الاثمان. وفي نهاية هذا السوق كانت تقع مكاتب جريدة "النهار" قائمة في مبنى قديم متواضع قبل انتقالها الى مبناها الحديث الحالي في شارع الحمراء. وعلى بعد امتار من "النهار" وفي الشارع المواجه كان يوجد مبنى قديم من ثلاثة طوابق تحمل الطابق الثاني منه جريدة "الاوريان"، بينما تحتل الطابق الاول جريدة "الجريدة" التي كانت تعتبر ايامها من كبريات الصحف، اما طابقه الثالث فكان يضم في قسم منه مكتب عادل عسيران الرئىس السابق لمجلس النواب.
الكثير من جلسات مجلس النواب كانت مسائية وكانت تعقد مرتين في الاسبوع: الثلثاء والخميس. فتطول المناقشات الى التاسعة او العاشرة ليلاً وبمجرد انتهاء الجلسة يسارع معظم النواب الى مطعم العجمي وهو القريب من مجلس النواب زرافات ووحداناً لسد جوعهم بالتهام طبقه المفضل: الشاورما والحمص، وتمتد بهم السهرة يتابعون خلالها النقاش السياسي وتبادل اخبار الحكومة والوزراء والادارات، وكان الصحافيون يتقاطرون وراءهم سواء الذين كانوا يغطون الجلسات، او صحافيو الجرائد المجاورة للمطعم، وتتحول تلك السهرات الى منتدى سياسي صاخب تتعرى خلاله كل اخبار الطبقة السياسية ومعها اخبار المجتمع المخملي. انما لم تكن نقاشات تلك السهرات جد بجد، فقد كان يطغى التنكيت وتبادل "التركيبات" السياسية والاجتماعية. اما نجم "التركيب" ورواية خفايا السياسيين ونجوم المجتمع فقد كان "الميتر" مصطفى شحاده، يتمتع بخفة الظل والذكاء الحاد وموهبة الانتقاد من دون الاذية، فكان صائب سلام يدعوه ليروي له وجلسائه آخر "التركيبات" عن السياسيين. حتى الشيخ بيار الجميل المشهور بجديته كان بمجرد وصوله الى "العجمي" يسأل الميتر مصطفى عن آخر الأخبار.
حفلات الكوكتيل والعشاء البيروتية كان يصعب احصاؤها ونجوم المجتمع والسياسة كانوا ينتقلون في الليلة الواحدة من "كوكتيل" الى "كوكتيل" ومن "عشاء" الى "عشاء" وبعد منتصف الليل ينتقل معظمهم لمتابعة السهرة في النوادي الليلية الراقية وكان اشهر هذه النوادي المعروف عالمياً هو ال"كاف دي روا" Cave De Rois ثم ال"بون روج" Poon Rouje في فندق "فينسيا" وال"بلو أب"، وكان الثلاثة يقعون جغرافياً في منطقة الزيتونة. وبعد الرابعة فجراً كان الكثير من ساهري هذه النوادي يتقاطرون الى مطعم "العجمي" لالتهام صحون الحمص والفول والشاورما.
اما بعد الخامسة والسادسة صباحاً فكانت تتوافد الى "العجمي" شلل الراقصات الاجنبيات مع اصدقائهم اللبنانيين، فتكتمل بذلك صورة الحياة التي كانت تعيشها البورجوازية اللبنانية، السياسية والاجتماعية في تلك الايام.
منتدى سياسي واجتماعي مهم وشهير جداً لبنانياً وعالمياً هو فندق ال"سان جورج" وللحقيقة يمكن القول ان ال"سان جورج" كان يحتوي منتديات عدة شهيرة، فبلاج ال"سان جورج" الملحق بالفندق كان مقصداً للبورجوازية اللبنانية السياسية والاجتماعية. اما السياسي المداوم على السباحة يومياً في ال"سان جورج"، فكان ريمون اده اشهر عازب في زمانه.
ومن ذكريات بلاج ال"سان جورج" اتذكر ان النائب الحالي الوزير السابق مخايل الضاهر تعرف الى زوجته في هذا البلاج. اما هنري فرعون السياسي والمالي الشهير فكان يشاهد يومياً في احدى الزوايا يلعب "الطاولة" النرد على مبالغ كبيرة مع ميشال نادر مستثمر البلاج. وكان السفير عبدالرحمن الصلح بين اكثر الوجوه السياسية المترددة على هذا البلاج. اما كامل الاسعد فكان يؤثر السباحة في بلاج محدود الحجم كان يقع في الجانب الآخر من الفندق تحت اسم الايليت Elite حيث كان يمارس ايضاً لعبة التنس.
الى جانب بلاج ال"سان جورج" الذي كان يحتل حديقة صغيرة ظليلة تقع عند مدخله، كان يوجد في الطابق الاول من الفندق مطعم راق يشتهر بمآكله الفرنسية وبأنه كان يستورد يومياً بالطائرة لحوم التيك من باريس. وهذا المطعم الذي تحتل جانباً منه شرفة بحرية واسعة كان ايضاً ملتقى شهيراً لنجوم السياسة وكواكب البورجوازية البيروتية المترفة. بين السياسيين الذين كانوا يلتقون فرادى او شللاً على شرفته البحرية صيفاً او في قاعته الداخلية شتاء في الطليعة ريمون اده وصائب سلام مع حاشيته، ورشيد كرامي ورينيه معوض معاً في شكل دائم، وكامل الاسعد وحيداً.
الراحل مارك رياشي كان صحافياً وكاتباً مميزاً يكتب زاوية يومية في جريدة "النهار" تتسم احياناً بالاسلوب الساخر الذي اشتهر به والده اسكندر الرياشي احد اشهر الرواد الصحافيين في لبنان، مارك هو الآخر كان يلازم يومياً مرابع ال"سان جورج".
مربع آخر من مرابع ال"سان جورج" قامت شهرته او اهميته دولياً وعربياً كل منتديات ومعالم لبنان. ذلك هو بار الفندق الذي اطلق عليه بحق اسم "بار الجواسيس".
قبل عام 1975 كان قلة من الصحافيين اللبنانيين تتردد على بار ال"سان جورج".
انما كان معروفاً في الوسط الصحافي ان هذا البار مختص تقريباً بالمراسلين والصحافيين الاجانب يلتقون فيه في النهار وفي الليل ومنه ينطلقون لممارسة مهماتهم الصحافية. وفي الوقت نفسه كان لدى الصحافة اللبنانية فكرة عامة عن ارتباط الكثير من المراسلين بأجهزة الاستخبارات في بلدانهم وانتشرت تسميته ببار الجواسيس عندما نشرت صحف بيروت في صفحاتها الاولى في ستينات القرن الماضي انباء هرب اشهر جاسوس انكليزي في القرن العشرين كيم فيلبي على ظهر طراد روسي رسا بصورة سرية في مرفأ بيروت بعد انكشاف ازدواجيته وتجسسه لحساب السوفيات.
وحتى الآن ما زال الغموض يلف اسرار تهريبه من بيروت، ويحاول كتاب سعيد ابو الريش فك هذا الطلسم فيذكر ان فيلبي بعد استقراره في موسكو ابلغ فيليب نايتلي من ال"صاندي تايمز" بأن الاستخبارات البريطانية سمحت له بالهرب لتحاشي اعتقاله ومحاكمته التي ستحمل حتماً اذى لكبار اركان جهازها، كما يذكر ان الاستخبارات الاميركية المركزية كانت تتشدد في ملاحقته ومراقبته وطردت لاحقاً الشخص المكلف مراقبته. ويشير ايضاً الى احتمال ان تكون السلطة اللبنانية قد غضت النظر عن هذه العملية الدولية على رغم خطورتها مع ان هذه السلطة كانت تراقب عبر عملائها في البار نشاطات هؤلاء الجواسيس بعين يقظة ومن دون التدخل في شؤونهم الا اذا اشتبه بمسها للأمن اللبناني.
ويكشف كتاب ابو الريش وبالأسماء معظم نشاطات جواسيس البار، كاشفاً ان بار ال"سان جورج" كان يعج بالجواسيس المقيمين والزائرين من لبنانيين ومصريين وبريطانيين وأميركيين ويوغسلاف، ويذكر ان رؤساء اجهزة الاستخبارات السورية والمصرية والتركية والعراقية والاردنية والايرانية مروا جميعاً في البار في مهمات او للمراقبة.
كما يذكر ان اكبر رجال المال الاميركيين اقاموا في الفندق وزاروا البار وأجروا فيه الصفقات الكبرى من مثل بول غيتس رئيس اكبر الشركات البترولية وديفيد روكفلر، والمدراء العامين لبنوك "اوف اميركا" و"فيرست ناشيونال" و"تشيز مانهتن". ويشير الى ان تجارة البترول وأسعاره كانت بين القضايا التي تثير اهتمام جواسيس البار وان صفقات التسلح لم تكن بعيدة من نشاطاتهم.
لم يكن بار ال"سان جورج" هو وحده المختص بالجواسيس الدوليين، فكان على مقربة منه بار فندق ال"نورماندي" الذي كان فيلبي وسواه من رواد بار ال"سان جورج" يترددون عليه ايضاً، والثالث كان بار فندق ال"بالم بيتش" الذي كان يشهد الوجوه نفسها غير ان الاشهر بين الثلاثة كان بار ال"سان جورج".
اهل السياسة في لبنان كانوا يعشقون الترف والحياة الحلوة، وقد دفعهم هذا الهوى الى اختيار الفنادق الفخمة امكنة لنشاطاتهم الاجتماعية واجتماعاتهم السياسية، وفندق ال"سان جورج" لم يكن المنتدى الوحيد للسياسيين اللبنانيين، ففندق الكارلتون القريب من الروشة والمغلق الآن كان فندقاً شهابياً بكل معنى الكلمة، يقيم فيه النواب الشهابيون حفلاتهم الاجتماعية، ويعقدون في صالوناته اجتماعاتهم السياسية. مثلاً شهد هذا الفندق عام 1964 مداولات الاكثرية النيابية الشهابية لاختيار الرئىس الجديد للجمهورية خلفاً للرئيس شهاب، واتخذوا في صالونه الرئيسي 17 آب/ اغسطس من العام المذكور قرارهم بتأييد الرئىس شارل حلو، الذي وافق عليه في الليلة نفسها نواب "الوسط" الذين كانوا يتخذون من فندق "فينسيا" مقراً لمداولاتهم بالموضوع نفسه.
وجرياً على التقليد الشهابي اقام الرئىس الياس سركيس عام 1976 في فندق ال"كارلتون" حيث كان يعقد الاجتماعات ويجري الاتصالات مع النواب والاحزاب في شأن معركة الرئاسة فأسفرت هذه الاتصالات عن تأييده، وقد تعرض "كارلتون" ايامها لقصف مدفعي من بعض التنظيمات المسلحة التي كانت تعارض انتخاب سركيس. وفي ذلك الوقت كان فندق ال"بريستول" مقراً لنشاطات المرشحين الآخرين لرئاسة الجمهورية مثل الشيخ ميشال الخوري، ومانويل يونس ولفندق ال"بريستول" تاريخ طويل في استقبال الاجتماعات والمآدب السياسية.
وحتى بعد انحسار غيوم الحرب اللبنانية عام 1989 انتخب الرئيس الياس الهراوي في فندق "بارك اوتيل" شتورا. والفندق له ايضاً شهرة عربية واستضاف خلال خمسينات القرن الماضي ولسنوات عدة المفاوضات الاقتصادية اللبنانية - السورية، وقبله كان فندق "مسابكي شتورا" يستضيف هذه المفاوضات، مع انه كان يشتهر باستقبال العرسان من لبنان والعالم العربي.
تحفل كل الفنادق الفخمة في لبنان بتاريخ سياسي واجتماعي ازدهر خلال سنوات الزمن الجميل في لبنان ولا يتسع المجال هنا لتأريخها انما بينها فندق قد تحتاج الكتابة عنه الى مصنف مستقل ذلك هو فندق ال"كومودور" الذي يحمل الآن "كومودور ميرديان" بعد تحديثه.
والفترة الاولى المثيرة في تاريخ هذا الفندق تعود الى مرحلة الاحداث الدامية التي هزت لبنان عام 1958 وسميت ثورة وكان من افرازاتها الاقليمية ثورة 14 تموز يونيو في العراق التي اتت بالمارينز الى لبنان والقوات البريطانية الى الاردن وكان كل ذلك كافياً ليتهافت الى بيروت جمهرة كبيرة من الصحافيين الاجانب فاتخذوا من فندق "كومودور" مقراً لهم. ثم عاد الفندق ليشهد فترة اكثر اثارة عندما تحول الى مقر ومنطلق للصحافيين الاجانب خلال حرب لبنان، هذه الفترة دامت طويلاً منذ انفجار الاحداث عام 1975.
كاتب وصحافي لبناني والنص فصل من كتابه "سنوات الجمر" الذي سيصدر قريباً كجزء ثان من كتابه "ذكريات من الصحافة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.