-1- منذ عقدين من الزمن، وعلى الاكثر، منذ ثلاثة عقود بدأ الحديث عما يمكن تسميته بمرحلة نقدية جديدة تعنى بمساءلة النص بديلاً عن مساءلة صاحبه: وهي مرحلة تأخرت كثيراً بالنسبة الينا نحن الذين شغلتنا علاقة النص بكاتبه وعلاقة الكاتب بواقعه وبمجتمعه. ولعل هذه المرحلة الجديدة الحفية بالنص والداعية الى تجاهل صاحبه احياناً او دائماً خلقت مناخاً شعرياً يستجيب لهذه الحال النقدية ويحقق بعض ما تريد الوصول اليه في البحث عن مكونات النص الادبي الذي يسعى ليكون عملاً فنياً قريباً من ذات مبدعه وبعيداً من الغوص في قضايا المجتمع وما يضطرب في جنباته من هموم ضاغطة يتولى النثر الصحافي - على وجه الخصوص - الحديث عنها والتعمق في قراءة اسبابها واقتراح حلول لها. كانت دوافع الابداع الشعري ومرتكزاته - حتى وقت قريب - تقوم على تمتين الجسور بين الشاعر والواقع وبين الانسان وقضاياه. وكان الشاعر خطيب قومه ولسانهم ويستحيل ان يجد القارئ نصاً ابداعياً صافياً تماماً من آثار الواقع وخالياً من بصماته ومن ان تتسلل الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية الى ثناياه حتى لو كان نصاً عاطفياً صرفاً، وأفضل النصوص الشعرية الواقعة تحت سيطرة ظروفها هي تلك التي تحاول ان تجعل من بصمات الواقع اسقاطاً غير مرئي وتمثلاً متماهياً مع بنية النص الفنية، فطغيان الواقع والواقعية على النصوص الادبية العربية والشعرية منها بخاصة قلل الى حد كبير من ثراء بنية الكتابة الابداعية وجعلها في احايين كثيرة بديلاً من الخطاب الاجتماعي والسياسي، وكانت معظم الاحزاب - وما تزال - تتمترس حول شاعر او اكثر من الناطقين باسمها وليس باسم الشعر، وهو الامر الذي كاد يخرج بالشعر عن معاييره الفنية وعن تجلياته القائمة على جمالية اللغة من ناحية وعلى الايحاء والاكتناز الدلالي من ناحية ثانية. وفي هذا السياق، سياق الابتعاد عن التناول المباشر لقضايا الانسان وهمومه ما سيساعد الشعر على استعادة تجلياته اللغوية والفنية والتخفف من حمولاته الموضوعية التي تقلل من طاقة المبدع وتحيل شعره الى نظم جاف يعكس صورة الواقع ويعيد انتاجه ادبياً من خلال تجسيد انكساراته او انتصاراته غير مدرك ان قيمة العمل الادبي الحقيقي لا تكون بما يعكسه من صور الواقع ولا بما يرسمه من احداث ووقائع وإنما تأتي القيمة من مقدرته على استدعاء الطاقة الفنية للشاعر واستثمارها الى اقصى حد مستطاع، سواء عبر تجربة واقعية مباشرة او تجربة متخيلة تسكنها الكائنات والاشياء التي تسعى الى ان تبتعد شعرياً عن الالتصاق بالواقع الذاتي او الموضوعي للمبدع، والمهم ان تكون على ارتباط متين بالإبداع الذي ستنتمي اليه وتصبح جزءاً منه لا من اي بنية اجتماعية او سياسية. وإذا استثنينا تجارب نقدية عربية قليلة في القديم والجديد في طليعتها تجربة عبدالقاهر الجرجاني فإن النقد الادبي العربي والحديث منه بخاصة قد جنى على الشاعر وجعله يكثر من الحديث عن القضايا ويوغل في وصف الوقائع ويتمادى في الاجابات بدلاً من طرح الاسئلة واكتشافها وصوغ المواقف الواقعية في بنية شعرية يتجلى فيها صوت الشاعر وأسلوبه اكثر مما يتجلى فيها صوت الواقع ومؤثراته او ثقافة الشاعر ومعارفه الاجتماعية والسياسية والجغرافية والتاريخية. وربما استطاعت السطور التالية جلاء الحديث عن نماذج في النقد الادبي العربي الحديث استهدفت الشاعر لا شعره وقصرت جهدها النقدي على تتبع الصغيرة والكبيرة من سيرته الذاتية وصراعه مع الآخرين او صراع الآخرين معه فكان النقد بذلك اقرب الى طبيعة الدراسة الاجتماعية والتاريخية منه الى النقد الادبي. -2- كثيرة هي نماذج النقد الادبي العربي التي استهدفت الشاعر لا شعره وقصرت جهدها النقدي على الحديث عن عصره وحياته وكأنهما القصد من وراء التناول النقدي لا انجازاته الشعرية. وأرغب قبل الاشارة الى تلك النماذج ان اضع بين يدي القارئ ملاحظتين اثنتين سبق لي ان اشرت في السطور السابقة الى واحدة منهما والملاحظتان هما: أولاً: ان نقدنا الادبي القديم كان اكثر احتفاء بالنص الابداعي ومنطقه اللغوي والفني بما لا يقاس من حفاوة نقدنا الحديث، وان ذلك النقد القديم لم يهتم بالشاعر وسيرته وعصره اهتمام نقدنا الحديث به ولم يكن في معظم الاحيان يذكر شيئاً يتعلق بشخص الشاعر او ظروفه وعبدالقاهر الجرجاني النموذج الامثل في هذا المجال فقد تناول في كتابه اسرار البلاغة نماذج شعرية لعشرات الشعراء وكانت هذه النماذج موضع اهتمامه ولا شيء غير ذلك، فلم يهتم بعصر صاحب النموذج المدروس ولا نسبه وحسبه واكتفى بدراسة النص لغوياً وبلاغياً، وهي مهمة النقد الادبي الاولى. ومن هنا فقد وجد الجيل الجديد من النقاد في الجرجاني مرجعيتهم الذاتية اذا جاز التعبير وذهب البعض منهم الى القول بأنه كان المؤسس الاول للبنيوية التي ظهرت في اوروبا مع بداية القرن العشرين، علماً انه لم يكن الوحيد الذي اتخذ هذا النهج اللغوي البلاغي في التعامل مع النصوص الادبية فقد سبقه آخرون ولكنه كان اعمقهم وأكثرهم وعياً بقراءة النص. ثانياً: إن استهداف المبدع والاحتفاء بشخصه ومجتمعه في النقد الحديث قد فتح باب المديح والهجاء على مصراعيه وجعل النقاد يسرحون ويمرحون في اعراض المبدعين تحت دعوى النقد، وانزلاق الناقد من القصيدة الى صاحب القصيدة او من الرواية الى الروائي يجعله - اي الناقد - يتمادى في مديحه او قدحه، والمدح والقدح هما عملة ذات وجهين ولا علاقة لهما بالنقد الادبي من قريب او بعيد. فالنقد الادبي تعامل مفتوح مع النص ورحيل فني في فضاءاته الواسعة. وبعد هاتين الملاحظتين، ليسمح لي القارئ بأن اقترب به اولاً من كتاب "مع المتنبي" لطه حسين والكتاب من عنوانه ما هو إلاّ جهد تاريخي تتبع فيه الاستاذ الدكتور حياة المتنبي منذ طفولته حتى مصرعه، رافقه في تنقلاته من العراق الى الشام، ومن الشام الى مصر ثم الى فارس وكأنه موكل بتسجيل يوميات الشاعر الذي شغل الناس بقصائده لا بحياته وأدهشهم بما قدمه من اشكال تعبيرية ومفارقات لغوية وفنية لا بانتمائه القبلي ونسبه العائلي. لذلك لم يكن مستغرباً ان يأخذ الحديث عن نسب المتنبي وأصله وحياته الجانب الاكبر من كتاب طه حسين ولم تأخذ قصائد الشاعر سوى صفحات قليلة ارتبط معظمها - في شكل او في آخر - بالسياقات التاريخية والاجتماعية للشاعر ولممدوحيه او مهجويه. ولعل هذا هو السبب الكامن وراء احتفاء الجيل الجديد من النقاد بالمناهج الاجد او الاحدث في النقد الادبي، تلك التي ترى في قراءة النص الشعري في سياقاته التاريخية والاجتماعية او النفسية مضيعة للوقت وهروباً من العناية بإبداعات الشاعر وأساليب تعبيره. وللإنصاف فإن طه حسين - وهو استاذ جيل بأكمله - لم يكن الوحيد في هذا التناول فقد سبقه آخرون وشايعه في منهجه زملاء وتلاميذ. وكان عباس محمود العقاد في دراساته الادبية لا يحيد عن هذا النهج ودراستاه المهمتان عن ابي نواس وابن الرومي نموذج صارخ عن الانصراف من دراسة فن الشاعر الى القضايا الاجتماعية والنفسية، وكذلك كان حال معظم جيل الرواد من النقاد الاوائل في العصر الحديث الذين توقفوا عند البديهيات وأطالوا الوقوف عند معاني النصوص وموضوعاتها ولم يقدموا سوى القليل جداً عن العوامل المؤثرة في صياغتها الفنية ومنطقها الجمالي، وهو ما برع فيه الجيل الجديد او الاجد من النقاد. -3- بلغت حال الوعي بالنقد الادبي الاجد او الاحدث قمتها في الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم، وأقبل معظم الدارسين للأدب - والشبان منهم بخاصة - على استيعاب المناهج الوافدة بدرجات متفاوتة، ويمكن القول بأن تطبيقاتهم لهذه المناهج كانت فاشلة في البداية وذلك لأسباب موضوعية منها تجاهل الوعي بالخصوصية اثناء المعالجة النقدية للنصوص الحديثة او القديمة، فالنص الشعري العربي ليس نصاً فرنسياً او انكليزياً فتنطبق عليه الآليات والمعايير النقدية التي افرزتها ثقافة شعرية مختلفة. كما ان ثقافة المتلقي هنا ليست في مستوى ثقافة المتلقي هناك، ولهذا حدث التناقض في الرؤية وسادت حالات من التشويه والغموض في المعالجات النقدية التطبيقية في كثير من الحالات والقراءات، ومع ذلك لم تتوقف المحاولات، وربما يعود جزء كبير من الاضطراب الذي تم الى سوء الترجمات اولاً والى العشوائية التي رافقت نقل المناهج النقدية ثانياً، فضلاً عن الادراك المغلوط لمفهوم المصطلحات كما يعود الى سوء فهم للنظرية النقدية وما يصدر عن ذلك من خطأ اجرائي في مستويات التطبيق. لكن الوضع اختلف كثيراً في السنوات الاخيرة فقد زاد التواصل مع تلك المناهج النقدية الوافدة وظهرت - في اماكنها الاولى - فروع وروافد مستمدة منها او خارجة عليها ونجح جيل جديد من الباحثين العرب في إلقاء الضوء على ما كان قد وصل الينا من تلك المناهج ناقصاً او مشوهاً او مبتسراً، وبذلك بدأت القطيعة معها تخف شيئاً فشيئاً وبدأ طلاب كليات الآداب العربية يستوعبون في تناولاتهم التطبيقية اطرافاً من المنهج الالسني في تجلياته المختلفة مستفيدين من تجارب عدد من النقاد العرب، ليس في دراسة الشعر وحسب، وإنما في دراسة السردية العربية والايغال في دراسة البنية اللغوية المكونة لكل من الرواية والقصة القصيرة، وبدأ تحليل الخطاب الادبي يخرج عن تقليديته. ولم يعد هذا التحليل منصباً على الموضوع او على شخص المؤلف وعصره. بل اتجه النقد الادبي في جانب كبير منه الى النص ذاته والى الانشغال بأصواته وبما تمثله بنيته اللغوية والفنية من طاقات جمالية وقيم إبداعية لم يكن النقد الادبي - في ما مضى - يحفل بها او يعطيها ما تستحقه من الاهتمام، حيث تركز الجهد النقدي على قضايا النص وموضوعاته الى درجة كادت تخرج بالنقد من مجاله الادبي الى مجال التاريخ والاجتماع. ومن النافل القول بأن الاتجاه الى دراسة اسلوب النص الادبي هو الاستنطاق الاعقد والأغنى والأهم بالنسبة الى تناول الابداع ادبياً لا سياسياً او اجتماعياً والنفاذ المكثف الى بنيته الفنية، ويبدو ان هذا الاتجاه الجديد او الاجد في النقد الادبي قد اثار حفيظة النقاد التلقيديين وبدأت بعض الاصوات الصارخة في الظهور منددة ورافضة بشدة هذا التحول الذي بدأ يستأثر بملامح النقد الادبي العربي الاحدث، وصارت هذه الاصوات الصارخة ترى فيه انزلاقاً نحو تقليد الآخر ومحاكاته ناسية او متناسية ان المناهج التي يناصرها النقاد التقليديون ويدافعون عنها تخضع كلياً لمرجعية الآخر ومناهجه النقدية التاريخية والاجتماعية والنفسية تلك التي ارتبطت بالمدارس الادبية من كلاسيكية رومانتيكية وواقعية كما ان التمسك بها والسير في ركابها - منذ وقت غير قريب - قد جعل الادب العربي عاجزاً عن ايجاد نظرية نقدية خاصة به او مستوحاة من موروثه النقدي القديم، في حين ان في الاتجاه النقدي الجديد او الاجد ما يكاد يكون عودة الى مرجعية عربية كانت سائدة قديماً ومتمثلة في قراءة النصوص ونقدها نحوياً ولغوياً، وربما كان بعض ما ورد في النظريات النقدية الوافدة ما يمكن القول عنه: بضاعتنا النقدية بملامحها الاسلوبية قد عادت الينا بعد ان دخلت في سياقات وتفاعلات حضارية مغايرة افقدتها بعض ملامحها وأكسبتها ملامح اكثر تعقيداً وعصرية، لكنها في جوهرها او في جوانب من هذا الجوهر استيحاء وتواشج عميق بما كانت قد بدأت تبشر به النقدية العربية من خلال نقادها القدامى الذين اغتربنا عنهم وما نزال نواصل هذا الاغتراب.