المؤرخ اللبناني حسن الأمين الذي رحل عن عالمنا الأسبوع الماضي، كانت له في "الحياة" مساهمات مختلفة في شؤون الأدب والتاريخ والاجتماع. ومما لم ينشر له المقالة التالية التي بقيت مخطوطة لدينا وهي تضيء مسألة مغربية - اسبانية حساسة. في عدد 1 آب اغسطس الماضي من "الحياة" ان نائب رئيس الوزراء الاسباني دان مطالبة ملك المغرب بجيبي سبتة ومليلة وقال انهما "ليسا محل نقاش" كونهما جزءاً من اسبانيا منذ مئات السنين! وإذا كنا نقر بأن اسبانيا تحتلهما منذ مئات السنين، فإننا لا نقر بأنهما - بهذا الاحتلال - قد صارتا جزءاً من اسبانيا. فحقوق الشعوب في أرضها ليست كحقوق الأفراد في الأرض تسقط بما اصطلح على تسميته في نصوص القوانين بمرور الزمن. وإلا فلماذا قاتل الاسبان العرب لاخراجهم من اسبانيا الأندلس بعد أن أقاموا فيها مئات السنين؟! ولماذا يطالب الاسبان الآن بريطانيا بالخروج من جبل طارق بعد أن أقامت فيه ما أقامت؟! ولست في هذه الكلمة في معرض مناضلة الاسبان ومناصرة المغرب في أمر سبتة ومليلة، وانما هو عارض مر في الخاطر وأنا أحاول الحديث عن شجون تلك المئات من السنين الذي احتج بها نائب رئيس الوزراء الاسباني. وهنا لا بد لي من القول اننا نحن المشارقة مقصرون كل التقصير في الاطلاع على تاريخ بني أبينا المغاربة، ويجب ان نعترف بجهلنا احداث تلك الأرض الطيبة، وانصرافنا عن التطلع الى ما تتابع هنالك من خير وشر على اخواننا في شاطئ المحيط وساحل المتوسط. وإذا كنا بين الحين والحين نباهي باتساع الأرض العربية، هاتفين من المحيط الى الخليج!! فهلا عرفنا من هم أهلنا في المحيط؟! ان معركة مثل معركة وادي المخازن، كانت من المعارك الفاصلة في تاريخ العرب، فلو قدر للبرتغاليين الانتصار فيها على المغاربة، لما علم إلا الله ماذا كان مصير العرب في الشمال الأفريقي وما بعد هذا الشمال. إن هذه المعركة لا تجد لها مكاناً في كتاب من كتب المشرق!! وبعد، ما هو أمر "مئات السنين" التي احتج بها الوزير الاسباني؟! لقد تحدثت في مقال سابق في "الحياة" حديثاً موجزاً عن سبتة، لم أتعرض فيه لذكر مليلة، أو مليلية، لأن موضوع الحديث كان عن جزيرة "ليلى" المرتبط أمرها بسبتة ولا ارتباط لها بمليلية. وأود الآن الابتداء بذكر المطامع الاسبانية البرتغالية من أولها، وصولاً الى احتلال سبتة ومليلية. البرتغاليون كان البرتغاليون بعد قيام دولتهم وتقدمها في الفتوحات والاكتشافات، يمدون انظارهم للاستيلاء على المغرب. وكان الاسبان لما انهوا أمر العرب في غرناطة تطلعوا الى ما وراء البحر، الى ثغور المغربين الأدنى والأوسط فاستولوا على "بجاية" سنة 910ه وعلى "وهران" سنة 914ه وعلى غيرهما. وأرادوا الاستيلاء على الجزائر فصدهم عنها خير الدين بربروس وأخوه أوروج. كما ان البرتغاليين توسعوا على سواحل المغرب فاحتلوا معظم المواقع على ساحل الأطلنطي، فطنجة وأصيلة والعرائش سقطت في أيديهم سنة 876ه 1471م. وقبل ذلك كانوا قد احتلوا الدار البيضاء التي كانت تعرف باسم "آنفا"، وظلت تحمل هذا الاسم حتى سنة 1468 حين احتلال البرتغاليين لها وهدمهم اياها وبنائهم مكانها مدينة جديدة سموها باللغة البرتغالية ما تعريبه "الدار البيضاء". ومضوا الى أغادير سنة 1505 ثم الى آسفي سنة 1508، ثم الى مازغان سنة 1514 وآزمور سنة 1513 ثم العجوز سنة 1519. وأخذوا يغيرون على الداخل فيأسرون الرجال ويسبون النساء وينهبون القرى. ثم ازداد عدوانهم فأغاروا على "قارو دانت" على نهر السوس وتوغلوا داخل البلاد حتى أرباض مدينة مراكش. الاسبان مليلة أو مليلية من أكبر ثغور المغرب، تقع على البحر المتوسط في منتصف الطريق بين وهرانوسبتة. وهي وسبتة موضوع الصراع اليوم بين اسبانيا والمغرب، وإذا كنا ذكرنا ما ذكرنا عن التوغل الاسباني، فإننا نقول هنا أن وجود الاستعمار الاسباني في المغرب يعود الى أواخر القرن الخامس عشر، وكان ابتداؤه قيام جماعة من المغامرين الاسبان من الجزر الخالدات باحتلال أول بقعة من المغرب تقع بناحية السوس الأقصى سنة 1476، وكان أول ما فعلوه أن شيدوا برجاً سموه "سانتاكروز ذي مار بيكينيا"، الصليب المقدس بالبحر الصغير. ثم تمدد الاسبان بعد ذلك حتى الوصول الى مليلية وقد جعلوا منها قاعدة عسكرية ومركزاً من أهم مراكز الصيد، وأخذوا يملأونها ببني جنسهم حتى غدا الاسبان فيها أكثر من ثمانين ألفاً مقابل عدد قليل من المغاربة. وكان يبدو جلياً ان التفكير الاسباني البرتغالي تفكير ثأر تاريخي للدولتين من المغرب الذي منه وبرجاله انطلق الغزو الإسلامي لبلادهم واستمر فيها الغزاة ثمانية قرون. ويؤكد الكاتب الاسباني توماس فيغير اس أن تخطيط الثأر كان أبعد من التفكير الاستعماري وحده، وانما كان تفكيراً يصل الى العقيدة الدينية، وهي السياسة التي وضع أصولها الملكان الكاثوليكيان من القرن الخامس عشر وتولى انفاذها رجل الدولة الاسباني القدير Cisneros الذي كان يخطط لما هو أبعد من المغرب. وكانت وصية الملكة ايزابيلا في هذا المنحى. وقد وقّعت الدولتان للسير في هذا المخطط معاهدة Alcocovas سنة 1479 التي أقرت فيها البرتغاللاسبانيا باحتلال فاس، ومعاهدة "طليطلة" سنة 1480 التي تخلت فيها البرتغاللاسبانيا عن جزر "الكنارياس". على ان الاسبان جذبتهم الاكتشافات الأميركية فانصرفت طموحاتهم اليها، وظل البرتغاليون متوجهين بكل حماستهم الى المغرب. وكما انشغل الاسبان باستكشاف أميركا، انشغل البرتغاليون بعد ذلك باستكشاف أفريقيا، فلم يعاودوا فتوحهم في الشواطئ المغربية الى بداية القرن السادس عشر. وفي ثلاثين سنة وصلوا الى أفريقيا الاستوائية سنة 1741 وهي السنة التي احتلوا فيها أصيلة وطنجة في المغرب. وفي سنة 1482 وصلوا الى مصب الكونغو، ثم الى رأس الرجاء الصالح سنة 1486 فانفتح امامهم طريق الوصول الى الهند. وتبدأ المرحلة الثانية باحتلال أغادير سنة 1505 ثم آسفي سنة 1507 ثم أزمور التي سقطت سنة 1513. وتمزقت البلاد وانحلت وحدتها. وكان الأمر على هذا الشكل: 1 - مليلة وغساسة بيد الاسبان. 2 - سبتة وطنجة والقصر الصغير وأصيلةوأزمور وآنفا وآسفي وأغادير وغيرها بيد البرتغاليين. وبقية البلاد تتنازعها سلطات محلية متنوعة. وليس الأمر الآن أمر تفصيل. وكل ما نقوله أن أمر البرتغال قد تراجع وضمت اسبانيا هذه المناطق اليها، فتبدل كثير من الأحوال. * مؤرخ لبناني.