يشكل الذهاب إلى السينما جزءاً مهماً من ثقافة النروجيين. وهو يعد بمثابة تقليد رصين يحاول النروجيون الحفاظ عليه على رغم التحديات الكثيرة التي تواجهه. ويميل هذا التقليد إلى أن يكون مثل طقسٍ يتم الحرص على أدائه أكثر من كونه مجرد رغبة في رؤية فيلم. والحال أن رواج الفيديو، ومن ثم ال"دي في دي"، لم يزحزح عادة الذهاب إلى السينما عند غالبية النروجيين. وتتمسك العائلة النروجية، عموماً بالعادات والتقاليد والطقوس تمسكاً كبيراً. بل إن هذه الأشياء تشكل عناصر راسخة في نسيج حياتها اليومي. بالنسبة الى الكثيرين تكمن الغاية في الذهاب إلى السينما في التمتع بتلك اللحظة الفريدة التي تجتمع فيها الألفة والصمت. ويبدو أن الأمر يتعلق برغبة في استعادة تقاسيم مشاعر الشغف والدهشة مع الآخرين في وقت تتعزز فيه أحوال العزلة وانقطاع الفرد عن المجموع. وربما كان هذا سرّ استمرار صالات السينما في المدن النروجية والعاصمة على وجه الخصوص. ففي نهاية كل أسبوع تكتظ دور السينما، غالباً، بالعائلات التي تتابع حركة السينما وتلاحق الأفلام الجديدة بانتباه ملحوظ. لا تواجه المرأة مشكلة كبيرة في ترتيب وقتها من أجل الذهاب إلى السينما. وهي غالباً ما تفعل ذلك مع زوجها. ولكن الحالات التي تذهب فيها برفقه صديقات أخريات ليست قليلة. وليست قليلة أيضاً الأيام التي تتفوق فيها نسبة النساء على نسبة الرجال في الحضور إلى صالة السينما. في نهاية كل أسبوع تتهيأ فيغديس داهل للذهاب، مع صديقاتها، إلى السينما. يتفق الجميع خلال الأسبوع على الفيلم الذي يستحق المشاهدة ويتم الأختيار على الهاتف. أحياناً كثيرة تقترح فيغديس اسم الفيلم وتطرحه على صديقاتها. تحديد الفيلم يتم استناداً الى رأي الغالبية. فيغديس موظفة في مؤسسة "مولا" للتأهيل الإجتماعي، وهي مؤسسة غالبية موظفيها من النساء. سألتها عن السبب الذي يدفعها إلى ارتياد السينما على رغم توافر أشرطة الفيديو وما شابه فردّت بحماسة من ينتظر سؤالاً كهذا منذ وقت طويل: "صالة السينما، بالنسبة إلي، مثل معبد. منذ اللحظة التي تخطو فيها قدماي الخطوة الأولى الى الصالة حيث أفتح الباب وأمضي إلى كوة بيع التذاكر أشعر بنفسي مثل من يدخل مكاناً خاصاً، فتنقطع صلتي بالخارج وأبدأ النظر في الناس حولي، وهم ناس محددون يشاطرونني الرغبة ذاتها في اللحظة ذاتها في مشاهدة الفيلم ذاته، كما لو كانوا أفراداً من جماعة متجانسة أنتمي إليها. حين نجلس الى الكراسي المتجاورة ننظر في الشاشة نبدو كمن ينتظر معجزة خارقة على وشك الحدوث. وفي اللحظة التي تطفأ فيها الأضواء ويبدأ الستار ينزاح ببطء شديد ثم يعلو صوت الموسيقى رويداً رويداً تسري قشعريرة لذيذة في كل كياني. هذا الفرح الطفولي الذي يتجدد كل مرة هو ما أتوق إليه في نهاية كل أسبوع. والفيلم بحد ذاته لا يؤلف شيئاً، إنه ذريعة للدخول إلى ذلك العالم الغامض، السحري، الذي يتشكل من جدران الصالة والشاشة والستارة والكراسي والبرودة اللذيذة المنتشرة في كل ركن. ولكن كريستين، صديقة فيغديس، تملك رأياً آخر. ولكنه رأي لا يدحض ما قالته فيغديس بل يكمله: "بالنسبة إلي يشكل موضوع الفيلم الأولوية في تحديد رغبتي بالذهاب إلى السينما. حين أدرك أن الفيلم قوي ومؤثر وأن مخرجه فنان قدير وأن عناصر الديكور والموسيقى والأزياء وما شابه تتمتع بحضور فاعل لا أتردد في الذهاب إلى السينما. فأشياء كهذه لا تفعل فعلها إلا في الصالة حيث الشاشة الكبيرة والعتمة الصامتة والصوت الهادر. تتحقق نشوة استثنائية لا يمكن أن تتوافر إذا ما رأيت الفيلم ذاته في الفيديو أو التلفزيون. غالبية الموظفات في مؤسسة مولا يذهبن إلى السينما. ولكن هؤلاء لا يشكلن استثناء. هن، في الواقع، نموذج مصغر للنساء في النروج حيث ما زالت السينما تحظى بمكانة لم تفقدها ويبدو أنها لن تفقدها. وليست هذه حال النساء الآتيات، كلاجئات، من غالبية بلدان الشرق الأوسط، على وجه الخصوص. ومؤسسة التأهيل نفسها تستقبل الكثير من هؤلاء من أجل تحضيرهن للانخراط في مجالات العمل والنشاط الإجتماعي في النروج. كان هناك أربع فتيات من هؤلاء حين التقيت فيغديس وصديقاتها وتحدثت إليهن في شأن علاقتهن بالسينما. وطرحت السؤال نفسه على الفتيات الأربع. اثنتان من كردستان، واحدة من تركيا وواحدة من إيران. كان جوابهن واحداً تقريباً: لا سينما. وإذ حاولن التذرع بالانشغال بشؤون البيت والاهتمام بالأبناء بمتاعب العائلة فقد بدا جلياً افتقادهن إلى أي خلفية تسند النزوع إلى ارتياد السينما والاكتراث بثقافة الأفلام. قالت خديجة، التركية، وبدت وكأنها تنطق باسم الاخريات: "الذهاب إلى السينما لا يشكل هاجساً من هواجسنا في بلادنا. وهو لا يؤلف تقليداً أو عادة راسخة. وفي الحالات النادرة التي كنا نذهب فيها إلى السينما كان الأمر يتعلق بفيلم محدد موضوعه استثنائي. وكان الأمر، في الغالب، ذا علاقة بالذهنية الرجولية السائدة عندنا".