يندرج قرار العفو الذي صدر في بغداد أخيراً في سياق سياسة التراجع والتنازلات "التكتيكية" التي دشنها النظام باتخاذه قرار الموافقة "المفاجئ" في 16 أيلول سبتمبر الماضي على العودة غير المشروطة للمفتشين الدوليين إلى العراق، وقراره "المفاجئ" كذلك بإعادة الأرشيف الكويتي الحكومي الذي "سُرق" ابان احتلال الكويت عام 1990، ولا يستبعد أن تتخذ قرارات مماثلة في الفترة المقلبة. ولكن، إذا كان هدف القرارين، كما يقول النظام، "سحب الذرائع" من يدي واشنطنولندن لتبرير عملية عسكرية "حتمية" تهدف إلى إطاحته، فإن هدف قرار العفو هو، إضافة إلى ذلك، استباق توجيه واشنطنوالأممالمتحدة تهمة انتهاكاته المستمرة لحقوق الإنسان من جهة، وتوظيف هذا القرار لاستكمال مسرحية الاستفتاء "المئوي" الذي أسفر عن "فوز" صدام بولاية أخرى بنسبة "مئة في المئة" من جهة ثانية! غير أن السؤال الذي يُطرح هو: هل تنطوي تلك القرارات، خصوصاً قرار العفو و"كرنفالات" الاحتفال به، الصدقية والجدية اللازمتين اللتين تمكنّان النظام من تحقيق أهدافه، فضلاً عن تصديق الآخرين؟ إن طبيعة النظام الحاكم في بغداد و"سوابقه" في نكث تعهداته والتراجع عنها ساعة يشاء ويقرر، فضلاً عن عدم التزامه تواقيعه، تدفع إلى القول من دون تردد ان تلك القرارات تفتقد إلى الصدقية. ويطرح قرار العفو خصوصاً الملاحظات والتساؤلات الآتية التي تؤكد ذلك: * ان صدور هذا القرار باسم حاكم فرد "يتمتع" بصلاحيات واسعة ومطلقة، من دون الاستناد إلى لوائح ونظم دستورية وقانونية، يعني أنه قادر في أية لحظة، على اتخاذ قرار مخالف بالسهولة ذاتها التي اتخذ بها قرار العفو، ولصدام سوابق في ذلك. * ان اصدار قرار ثانٍ ملحق بالقرار الأول، يستثني من العفو ما اطلق عليهم الجواسيس لإسرائيل والولايات المتحدة، يعني استثناء كل المعارضين في السجون وخارج العراق. وهو الأمر الذي طبق فعلاً، كما يبدو، حيث لم يجر الحديث عن اطلاق سجناء الرأي والسياسيين، على رغم أن عدد الذين أفرج عنهم قدر بما بين 100-150 ألفاً، بينهم عدد من المحكومين بجرائم جنائية، مما يعني أن النسبة الكبرى من الذين كانوا قيد السجن أو الاعتقال هم أبرياء من تهمة المعارضة السياسية، أي أنهم كانوا "متهمين" بعدم الولاء للنظام! * ان الفرحة والابتهاج اللذين جرى التعبير عنهما أمام عدد من السجون المختارة وعرضتها الفضائيات، يشيران إلى وجود كثيف لعناصر من أجهزة الاستخبارات، وهو ما دل إليه وضعهم الصحي وارتياحهم وحماستهم البالغة في امتداح النظام ورئيسه. لكن الأمر كان يشير في الوقت ذاته إلى صدق مشاعر الفرح والابتهاج لعدد من الأمهات والآباء والأقارب لمجرمين عاديين، وهذا يعني أن اعتبار أولئك المبتهجين مؤيدين للنظام ورئيسه هو تزوير لآرائهم كما جرت العادة دائماً. لكن الأمر المهم الذي يتقدم على كل تلك الملاحظات هو السؤال الكبير الذي يطرحه العراقيون دائماً، كلما أصدر النظام "قرار عفو" عن المعارضين السياسيين في الخارج، أو عن الأكراد المقاومين للسلطة هو: مَن يعفو عن مَن؟ هل العراقيون بأسرهم، والمعارضون منهم الذين عانوا ويعانون من قمع النظام أو استبداده وارهابه، ومن حملات الاعتقالات والإعدامات الجماعية، ومن نتائج وتداعيات حروبه وسياساته المدمرة هم من يحتاجون إلى "عفو" النظام عنهم، أم أن هذا النظام ذاته هو الذي عليه أن يطلب العفو والغفران من العراقيين، وهو طلب يصعب تلبيته والاستجابة له؟ في ضوء هذه الحقيقة يتساءل العراقيون بأكثريتهم: لماذا سجن النظام واعتقل منهم مئات الآلاف من دون أن يوجه إليهم تهماً محددة سوى معارضتهم إياه؟ ولماذا تم الاحتفاظ بهذا العدد الكبير الذي لم يعلن عنه قبل الآن، والذي لا يشكل في الواقع سوى رُبع عدد السجناء والمعتقلين، بحسب المصادر الأكثر تحفظاً؟ لا شك في أن من حق هؤلاء الذين اطلق سراحهم ولم يعدهم النظام إلى سجونه، مثلما هو من حق مئات الآلاف الآخرين الذين ما زالوا قابعين في السجون، أن يتقدموا بشكاوى قانونية إلى جهات دولية لمساءلة أركان النظام ورئيسه وطلب محاكمتهم، فضلاً عن مطالبة ذوي الضحايا الذين يقدر عددهم بالآلاف وأعدمهم النظام خلال السنوات الخمس المنصرمة التي شن فيها حملات "تطهير السجون"، تقديم شكاوى مماثلة للاقتصاص ممن تسبب في قتلهم من أهل النظام. لقد مثل اصدار "قرار العفو" اعترافاً صريحاً من النظام ورئيسه بانتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في العراق. وفي ضوء ذلك، وبمعزل عن مسألة نزع أسلحة الدمار الشامل، يضع قرار العفو الأممالمتحدة ومجلس الأمن أمام مسؤوليتهما الدولية التي تتطلب مواجهة النظام في بغداد ومساءلته، انطلاقاً من اعترافه، وفق قرار العفو، باعتقال عشرات الآلاف من العراقيين لسنوات طويلة من دون مسوغات دستورية أو قانونية، وذلك بإقرار مجلس الأمن تشكيل لجنة خاصة، إضافة إلى لجنة حقوق الإنسان، للتوجه فوراً إلى بغداد والقيام بالآتي: - التثبت تماماً من اطلاق جميع المسجونين والمعتقلين السياسيين في كل السجون والمعتقلات والذين يقدر عدد الباقين منهم نحو 300 ألف سجين ومعتقل. - التدقيق في أسماء المعتقلين وفق قوائم اللجنة الدولية الخاصة بحقوق الإنسان التي جُمعت من التقارير نصف السنوية التي كان يقدمها إلى الأمين العام للأمم المتحدة المقرر الدولي الخاص للجنة حقوق الإنسان في العراق. - كشف عدد الضحايا وأسمائهم الذين قتلوا في حملات التصفيات في السجون. - كشف اسماء وأماكن دفن ضحايا "عمليات الأنفال" التي راح ضحيتها أكثر من 180 ألف كردي عراقي عام 1988، وفقاً للاحصاءات الكردية. ويستطيع مجلس الأمن العودة إلى القرارات الكثيرة التي اتخذها في السنوات ال12 المنصرمة ضد نظام الحكم في العراق وانتهاكاته الفظة لحقوق الإنسان، وعدم تطبيقه القرارات الدولية، خصوصاً القرار 688 الصادر في 5 نيسان ابريل 1991 وينص على حماية الشعب العراقي من قمع النظام. ولعل من أهم القرارات على هذا الصعيد، قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتخذ في 4 كانون الأول ديسمبر عام 2000 بغالبية 102 من الأعضاء ومعارضة ثلاث دول وامتناع 60 عن التصويت. ودان القرار نظام صدام ل"انتهاكاته المنتظمة والمستمرة والخطيرة لحقوق الإنسان، وللتعذيب المنتشر والمنتظم" ودان خصوصاً قمع المعارضين للسلطة داخل العراق وخارجه... أراد النظام في بغداد تضخيم الحملة الدعائية المؤيدة له باصدار قرار "العفو" الذي أثار في وجهه مجدداً شعار العراقيين الأثير: مَن يعفو عن مَن... ومَن ينبغي أن يحاكم مَن؟! * كاتب عراقي، لندن.