تجتاز اليونان أزمة مالية واقتصادية مركّبة تكاد تطيح انتسابها إلى منطقة اليورو، وتلقي بظلالها على هندسة قائمة منذ مطلع القرن ال 21. وإذ يقتضي احتساب الجاري في دائرة العملة الموحّدة التي تشمل سبع عشرة دولة من أعضاء الاتحاد الأوروبي الأوسع، فمن البائن أن سلوك اليونان يطاول انتسابها الأوروبي ويضعها في مصاف كهل أوروبا المريض. من حيث الأحجام، يزن الاقتصاد اليوناني مجرد اثنين في المئة في أسرة اليورو التي أقرت توليفتين ماليتين خلال السنة المنصرمة في محاولة لاحتواء عجز أثينا ومعالجة ديونها السيادية الضخمة؛ إنما تتأتى الأخطار، ليس من تخلّف اليونان عن التسديد فحسب، بل من انتقال العدوى إلى البرتغال وإسبانيا، المثقلتين بالديون والبطالة، واحتمال تأثر إيطاليا (ثالث اقتصاد ضمن منطقة اليورو) إن لم تصلح سريعاً ميزان إنفاقها وتنفذ إجراءات تقشفية مرافقة. وعلى وجه عام، ترصد الإرهاصات والهزَّات الارتدادية في البلدان المتوسطية، بحيث يتجلَّى التفاوت في متانة الاقتصاد وحيويته بين شمال غني ضامن يتولى الإمداد بالرساميل والمقويات، وجنوب مسرف غارق في الإنفاق، يشاطره عملة موحّدة ونطاقاً اقتصادياً مشتركاً بات بعض مكوناته ومنافعه قيد التساؤل ومطرح سجال. بعيداً من تحميل الإدارة السياسية في أثينا المسؤولية بالانفراد، لربما تجد الحكومات المتعاقبة، يميناً سابقاً ويساراً هذه المرة مع باباندريو الاشتراكي، مقداراً من الأسباب التخفيفية، حيث تبدي صراحة الرغبة في الأخذ بالنصائح الأوروبية والدولية، والتجاوب مع غالب شروط المؤسسات المالية المشتركة، من البنك الأوروبي إلى صندوق النقد. لكن سلطات أثينا أهملت قواعد المالية العامة على مدى عقد، مخالفة سقوف العجز المأمول بها، وانخرطت في سياسات سهلة أكثرت من الريوع الشعبوية الإرضائية الزبائنية، فازداد الإنفاق والهدر معاً، حتى بلغت البلاد حافة التوقف عن دفع الديون المستحقة، مصحوبة بصعوبات في دورة الاقتصاد داخلياً، قلّصت سيولة الخزينة وإمكانية الإيفاء بالتزامات الأجور والإنشاء. على هذا النحو، تتقاطع الأزمة المالية الخانقة راهناً، مع المرصود العائد لبُنية الاقتصاد، ما يستدعي علاجاً مزدوجاً يريده أهل الخبرة فيما يتعدى المسكِّنات، ضماناً لعودة الاستقرار على المدى البعيد، ونقلة نوعية تخرج اليونان من طوباوية السياسات الاجتماعية الكريمة بلا ضوابط، الى إعادة هيكلة اقتصادها بالتخلي عن مرافق عامة تمنى بالخسارة، وكسر التابوهات (المحظورات). لئن كانت العوارض مالية في المقام الأول، فإن داء اليونان أعمق، يضرب دواخل الإدارة والمجتمع. فعلى رغم الإرث الديموقراطي العظيم والحضارة السبَّاقة ولادة الكثير من مكونات الفكر في أوروبا والعالم، انحدرت إدارة الدولة، بمرافقها ومؤسساتها، إلى توسل المحسوبيات والنيل من مفهوم الشأن الإصلاحي والمصلحة العامة. ثمة إجماع للمراقبين على الفساد المستشري في الدوائر العامة، ما يُرتِّب إخفاقاً بائناً لن يُسكت عنه بعد اليوم. إلى ذلك، أضحى التهرّب الضريبي رياضة وطنية لا تشذّ عنها فئة اجتماعية بعينها، يمارسها أصحاب المهارات وهواة المغامرة وقباطنة الاقتصاد. في المقابل، تتكلم الأرقام عن مستوى جباية منخفض، يُصنَّف في أسفل بيانات النادي الأوروبي بالمقارنة، يقترن بأداء ضعيف من حيث ساعات العمل الفعلي، بينما تتعرض الفئة العُمرية الشابة، والمتعلمة المؤهلة بخاصة، لبطالة زاحفة تحدّ من إطلاق المبادرات وتحفيز سوق العمل السائرة نحو الانقباض والانكماش. لذا، يخشى من تداعيات الأزمة الراهنة، نتيجة التدابير العلاجية المقترحة، كون تأطير المصروفات الحكومية والتقشف المطلوب، قد يتسبّبان في انزلاق نحو انفجار مجتمعي جارف. إن إشكاليات النهوض الاقتصادي من كلاسيكيات الأدبيات العلمية، تقتبس من وصفاتها ومحاذير عدم مراعاة الواقع الملموس في كل حالة، مخافة تعميم قد يؤدي إلى نتائج معاكسة. فلقد عجزت اليونان أخيراً عن استيعاب الدفعات المالية المقرّرة أوروبياً ودولياً، لأنها فاضت عن طاقتها الإدارية والاقتصادية القائمة. وليس بمستبعد أن يؤول ضخّ الرساميل المتسرع إلى تضخّم في أكلاف المعيشة والأسعار، قد يطيح بالإيجابيات الناجمة عن الخروج من عنق الزجاجة مالياً وتفادي إحراج المؤسسات المقرضة والمانِحة وإيذائها. لذلك، يحرص الاتحاد الأوروبي، حسب المداولات الجارية وملامح الإعانات المحتملة، على إشراك الجانب اليوناني في تحمّل المسؤولية أولاً، وفي تقدير مبلغ الدعم وكيفية استخدامه بالأولوية وجدولته، لقاء اضطلاع المجتمع السياسي اليوناني بمهمة تهيئة الشعب والبلاد بغية قراءة الوقائع وتقبّل التدابير القاسية والمُجحِفة لربما، أي التخلي عن مكابرة رافضة أفقها الانهيار. وهذا يستدعي الإقرار بخطورة المرحلة، واستحالة المضي بالأساليب السابقة على صعيدي الدولة والمجتمع بالاتحاد والانفراد. لا يحسد مخلص الشعب اليوناني على حال المكابدة ومعنى الكرامة الوطنية في ظروف هي الأقسى على الشرائح الدنيا والجيل الجديد. إنما المسألة في إمكان التعامل الواقعي مع الأحداث، ومجانبة الهروب إلى الرومانسي الغشّاش باستثمارات لغوية جارحة على شاكلة الشروط والإملاءات. ولا بدّ من مواجهة قضية مصيرية بحجم المقبل على الإفلاس، من دون حلّها جذرياً ترتسم مآسٍ وصعاب سترتد على شعب اليونان وشبابه، وتحرمه الإنصاف. فمهما صعب على أهل الحضارة الانحناء والرضوخ، يبقَى أن للاقتصاد قواعد ومفردات، كما له مقيدات وضرورات، وفي جميعها يبتعد عن الإبهام والمسايرة والطمأنة المجانية المخادعة. ولقد حان وقت التزام اليونان الأصول والمعايير حفاظاً على ذاتها داخل المجموعة الأوروبية، وأملاً بتجاوز أخطاء الماضي وعدم التكرار. غير ذلك، السير بخطى متسارعة نحو المجهول، لن يزيل اليونان عن الخريطة بالتأكيد، ولن يعدم شعبها وسيلة من صنعه ووفق رغباته، أياً تكن درجة وجاهتها، لكنه سيدفع باليونان إلى عُزلة معنوية وانغلاق على الذات، مؤدَّاه في المحصلة طلب السماح بعد الخطيئة، والإحسان المرغوب فيه غداً عوض العون المشروط والمكروه اليوم. فالإصلاح تلازمه جرعات إكراهية بطبيعة الحال، والذي يبدو جافاً في خضم الأزمة، قد يتحول ناعماً في زمن الندم على الفرص الضائعة.