الأزمة التي تثيرها الولاياتالمتحدة حاليا في مواجهة العراق ستُحدث، خصوصا إذا وقعت الحرب، تأثيرات بعيدة المدى تتجاوز نتائجها حدود ومصالح ومستقبل الدولتين المتصارعتين. صحيح أن العراق سيكون الأكثر تضررا، لأنه سيتحول بطبيعة الحال إلى مسرح للحرب ووقود لها، إلا أن الحرب ستفضي على الأرجح، وفي أعقاب سلسلة من التفاعلات المتقاطعة، إلى تحولات بعيدة المدى في موازين القوى العالمية والإقليمية. ومن المتوقع أن تنتهي هذه التفاعلات بتمكين الولاياتالمتحدة من وضع يدها على نفط الخليج، والتحكم بالتالي في موازين القوى العالمية، وبفتح الطريق أمامها لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للمنطقة على نحو يضمن لها القدرة على التحكم في موازين القوى الإقليمية. ومما لا شك فيه أن الفجوة بين أهداف أميركا المعلنة وأهدافها الخفية من وراء تصعيد الأزمة مع العراق باتت أكثر وضوحاً واتساعاً. فالولاياتالمتحدة تؤكد أن هدفها الوحيد هو نزع أسلحة الدمار الشامل التي تصر على أن العراق لا يزال يمتلكها، بل لا يزال يعمل على وضع وتنفيذ خطط وبرامج خاصة بتطويرها. صحيح أنها لا تخفي رغبتها الخاصة بإسقاط النظام العراقي، غير أنها تبرر هذه الرغبة باستحالة نزع سلاح نظام العراق في ظل استمراره، لأنه لم ولن، يتعاون مطلقا مع المفتشين الدوليين. وكان من الأمور ذات المغزى تعمد الرئيس بوش توجيه قائمة اتهامات طويلة إلى النظام العراقي لا تركز على قضية أسلحة الدمار الشامل وحدها، وإنما تتسع لتشمل كل شيء: بدءاً بانتهاك حقوق الإنسان وانتهاءً بسرقة الممتلكات الكويتية، وهو ما اعتبره المراقبون دليلا قاطعا على أن الهدف هو إزاحة النظام وليس مجرد التأكد من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل. وأمام تنامي الشكوك الدولية حول حقيقة النيات الأميركية حاول المجتمع الدولي استغلال التحول الذي طرأ على أسلوب الولاياتالمتحدة في إدارة الأزمة، بعد اضطرارها للجوء إلى الأممالمتحدة، ليؤكد أمرين على جانب كبير من الأهمية، أولهما: أن التثبت من خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل هو الهدف الأولى بالرعاية وهو الذي يستوجب ويبرر تدخل مجلس الأمن. وثانيهما: أن استخدام القوة ضد العراق، في حال امتناع الأخير عن التعاون مع لجان التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل، يتطلب قرارا صريحا وتفويضا جديدا من جانب مجلس الأمن. ولا جدال في أن الموقف المرن والواضح الذي اتخذه النظام العراقي هذه المرة، بالإعلان عن خلو العراق الكامل من أسلحة الدمار الشامل وإعادة التأكيد على عدم سعيه إلى امتلاكها وإبداء الاستعداد التام لاستقبال لجنة التفتيش التابعة للأمم المتحدة من دون أي شروط مسبقة وسعيه الجاد إلى إبرام اتفاق بهذا الغرض مع الأممالمتحدة فاجأ جناح الصقور في الإدارة الأميركية وساعد القوى الدولية والإقليمية ذات المصلحة في الحيلولة دون اندلاع الحرب على بذل جهود فعالة لمحاولة كبح جماح الثور الأميركي الهائج، ولو موقتا. ولأنه لا يوجد خلاف حقيقي على الأهداف الاستراتيجية بين الحمائم والصقور في هذه الإدارة الأميركية المتطرفة، فقد كان من السهل عليهما أن يتفقا على إعادة توزيع الأدوار بينهما بحيث يتولى جناح الحمائم مهمة استيفاء الإجراءات الشكلية اللازمة لإضفاء الشرعية القانونية، محليا ودوليا، على الأهداف التي سبق لجناح الصقور أن حدد مضمونها. في هذا السياق تتضح الأبعاد الحقيقية لسلسلة "المنجزات" التي تمكنت الإدارة الأميركية، بجناحيها، من إحرازها على هذا الطريق. فقد نجحت، أولاً، في حمل الأممالمتحدة على إرجاء إرسال لجنة التفتيش إلى العراق رغم الاتفاق الذي تم إبرامه مع كل من رئيس لجنة التفتيش والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة النووية، وهو اتفاق قبلت العراق بموجبه كل الشروط اللازمة لضمان جدية التفتيش ودقته. ولم يكن هناك أي مبرر قانوني لهذا الإرجاء. ثم نجحت، ثانياً، في تغيير موقف هانز بليكس، وربما ضميره أيضا، حين صرح هذا الأخير في أعقاب لقاء مع كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية، بأنه يؤيد صدور قرار جديد من مجلس الأمن. ويُعد مجرد صدور هذا التصريح فضيحة أخلاقية وتجاوزاً لصلاحيات رجل هو في النهاية موظف دولي لا يجوز له أن يتلقى تعليمات إلا من السكرتير العام للأمم المتحدة. ثم نجحت، ثالثاً، في استصدار قرار بغالبية ساحقة من الكونغرس الأميركي بمجلسيه الشيوخ والنواب يطلق يد الرئيس في شن الحرب على العراق من دون التقيد بصدور قرار بذلك من مجلس الأمن. ويُعد مجرد صدور هذا القرار خرقاً واضحاً وصريحاً للقانون الدولي واستفزازاً متعمداً للمجتمع الدولي كله. ومن أجل أن تحصل على تفويض بالحرب من الكونغرس اضطرت الإدارة أن تقدم له رشوة من العيار الثقيل بالتوقيع على قانون يلزمها بالتعامل مع القدس الموحدة باعتبارها العاصمة الأبدية لإسرائيل. وهي رشوة تدل بذاتها على أن مشاعر العرب والمسلمين هي آخر ما يمكن أن تفكر فيه الإدارة الأميركية. وها هي، أخيرا، تطرح على مجلس الأمن، رسمياً، مشروع قرار يفوضها باستخدام القوة ضد العراق. ولم يبق سوى التصويت على هذا المشروع لتحصل الولاياتالمتحدة على تفويض دولي يتيح لها أن تمسك، منفردة، بملف الأزمة العراقية تتصرف فيها كيف تشاء وبالأسلوب الذي تراه. مشروع القرار الأميركي المطروح على مجلس الأمن لا يضع الأساس لتعامل دولي نزيه مع أزمة تشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين ولكنه يعكس محاولة فجة لفرض الإرادة الأميركية المنفردة على مجلس الأمن ويمثل، من ثم، تحدياً للمجتمع الدولي كله ويضع الأممالمتحدة أمام امتحان خطير يمكن أن يعرّضها للانهيار الكامل ما لم تصمد أمامه. إذ تتضمن فقراته صياغات عديدة تشكل استهانة كاملة بالقواعد والأعراف الدولية منها على سبيل المثال، ما يأتي: فالعراق مطالب بتقديم المعلومات ليس فقط عما يملكه من أسلحة محظورة وعن البرامج المتعلقة بإنتاج وتطوير هذه الأسلحة وإنما أيضا عن "البرامج التي يدعي أنها لأغراض لا علاقة لها بإنتاج الأسلحة أو موادها" الفقرة 2. أي أن مهمة إثبات خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل لا تقع على عاتق لجنة التفتيش وإنما على عاتق العراق أساسا. وقيام العراق بتقديم بيانات كاذبة أو إغفاله تقديم مثل هذه البيانات أو عدم التعاون مع اللجنة بالشروط المحددة في القرار يمثل انتهاكا ماديا يبرر استخدام القوة ضده الفقرة 10. وينم ذلك عن تحرش واضح ونية مبيتة مع سبق الإصرار لضرب العراق. والعراق مطالب بأن يسمح للجنة التفتيش باستجواب كل من ترغب من المسؤولين والعلماء وغيرهم من الأشخاص العاملين في برامج التسليح سواء داخل العراق أو خارجه، ومن دون حضور رسميين عراقيين الفقرة 3، كما أن للجنة الحق في الحصول على أسماء كل من شاركوا في هذه البرامج الفقرة 4. ويؤكد ذلك ما يتردد عن نية الولاياتالمتحدة إفراغ العراق من علمائه واستيعابهم في الولاياتالمتحدة بعد منحهم الجنسية الأميركية. والعراق مطالب بأن يقبل وجود قوات أمن تابعة للأمم المتحدة ترافق فرق التفتيش، وأن يكون لهذه القوات الحق في الدخول إلى أي مكان، بما في ذلك القصور الرئاسية، من دون إخطار سابق، وفي إعلان مناطق حظر جوي أو بري ومنع المرور واستخدام الطائرات ذات الأجنحة الثابتة والدوارة.. الفقرة 5. أي أن يقبل بالتفتيش تحت تهديد السلاح. يضاف إلى ذلك أن مشروع القرار الأميركي يتضمن فقرة تتيح لأي من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أن يطلب تمثيله في فرق التفتيش مع تمتعه بكل الحقوق وإجراءات الحماية ذاتها التي تمنح لبقية أعضاء الفريق. الفقرة 5. وتمثل هذه الفقرة في ذاتها فضيحة قانونية وسياسية وأخلاقية لأنها تخلط بين الدور الذي تلعبه الدول دائمة العضوية، من خلال مجلس الأمن باعتباره الجهاز المسؤول عن حفظ السلم والأمن الدوليين، والدور الذي يلعبه الخبراء الذين يعينهم السكرتير العام للأمم المتحدة تنفيذا للقرارات الصادرة عن مجلس الأمن. أي أن الولاياتالمتحدة تريد، بعبارة أخرى، أن تحمل مجلس الأمن على الموافقة رسميا على إرسال مندوب جاسوس أميركي ضمن فرق التفتيش يتولى إرسال تقاريره مباشرة للرئيس بوش وليس إلى كوفي أنان. ومعنى ذلك أن العراق أصبح قاب قوسين أو أدنى من أنياب الفك الأميركي المفترس. ويبدو أن أقصى ما يستطيع المجتمع الدولي أن يقوم به، في ظل موازين القوى الحالية، هو الامتناع عن إصدار قرار يضفي الشرعية على عمل عسكري يشكل في جوهره عدوانا صريحا، رغم أن الدلائل كلها تشير إلى صعوبة استخدام الفيتو ضد المشروع الأميركي. كما يبدو أن أقصى ما يستطيع النظام العربي الرسمي أن يقدمه، في ظل موازين القوة الراهنة، هو الامتناع عن المشاركة في هذه الضربة أو تقديم تسهيلات لوغستية لها، رغم أن الدلائل تشير إلى أن بعض الدول العربية سيساهم طوعا أو كرها، في تقديم التسهيلات للقوات الأميركية المعتدية، إن لم يشارك فعليا في الحرب. فما هي الخيارات المتبقية لصانع القرار العراقي في ظل هذه المعطيات: الواقع أنه لم يعد أمامه سوى واحد من خيارين: الأول: أن يقاتل بكل ما يملك في معركة مفروضة عليه، على أمل أن ينجح في تحويلها إلى معركة مدن قابلة لأن تلحق بالمعتدي خسائر يعتد بها وأن يصمد فترة من الوقت تكفي لتحريك الشارع العربي والإسلامي والدولي وإطلاق سلسلة من التفاعلات التي قد تغير موازين القوى السياسية المؤثرة على الحرب. الثاني: أن يعلن استعداده للتخلي عن السلطة، انقاذا لمستقبل الشعب العراقي ومصيره، إذا ضمن إشرافاً دوليا، وليس أميركيا، على انتخابات حرة نزيهة تستهدف تسليم السلطة لحكومة وطنية ممثلة لعموم الشعب العراقي وليس لحكومة عميلة للولايات المتحدة الأميركية. ميزة الخيار الأول أنه يساعد على تهيئة الظروف المناسبة لتفجير حركة مقاومة شعبية عربية وإسلامية قد تكون هي البداية الصحيحة، وربما الوحيدة، لكسر غرور القوة الأميركية وإنقاذ المنطقة، في الأجل المنظور أو المتوسط، من حقبة هيمنة أميركية - إسرائيلية تبدو طويلة وحالكة السواد. أما ميزة الخيار الثاني فهي أنه يدخر قدرات الشعب العراقي لمعركة مؤجلة لا يعلم موعدها إلا الله سبحانه وتعالى. وعلى أي حال فمن المهم جدا أن يبني النظام العراقي قراراته في تلك المرحلة الخطرة على حسابات صحيحة ودقيقة وليس على أحلام أو أمنيات زائفة. ومع ذلك فالقرار العراقي، أيا كان، لا يعفي المجتمع الدولي أو النظام العربي الرسمي أو الشعوب العربية من مسؤوليتها عن الحرب إن وقعت. * أستاذ ورئيس قسم العلوم السياسية كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.