لم أجد عم علي عند تقاطع الشيخ حسنين مع شارع السلخانة، هذه المرة بحثت عنه طويلاً، لكن لا أحد منحني اطمئناناً. 30 عاماً مرت منذ ان غادرت المنصورة، تلك المدينة الراقدة على سرير النيل في دلتا مصر. غادرتها حاملاً شهادة وذكريات لصيقة، وحين عدت اليها، كانت العقود الثلاثة حفرت في جبينها خطوطاً أخرى وملامح غير التي اعتدت. في الصباحات الباكرة حين كنت أغادر مسكني في الحارة الضيقة التي نسيت اسمها الآن، لكن ملامحها لم تغب بعد، كنت أفضل عدم السير في شارع "الجلاء" الطويل ثم الانحراف منه الى شارع "الثانوية" حيث كلية التربية - في الزمن القديم - انطلاقاً الى شارع "البحر"، حيث يقع مبنى قديم يحمل سمات الفخامة الغاربة، اختارته الجامعة ليكون مقراً لأحد مبانيها. لم أكن أحب هذا الشارع المغبر صيفاً، الموحل إذا مرت سحابة في فصل الشتاء فأهدت قطرات تحيتها للأرض، وكنت أفضل عليه، الانحراف يساراً الى شارع "السلخانة" ومنه الى "العباسي" الممتد أيضاً، ليأخذني بعد هذه المسافة الطويلة الى طريق الكورنيش الذي يسميه أهالي المنصورة شارع البحر، وفي طريقي كان عم علي يقف أمام عربته الخشب، يبيعنا سندويتشات الفول المدمس، نلتقي عنده كل صباح ونتخذه مكاناً للتجمع، يبتسم حين يرانا قادمين، ويمنحنا - حين نمد له اليد بقروشنا الفقيرة - ابتسامة ودعاء بأن ينجح الله لنا "المقاصد"، بعدها يكون الانطلاب معاً الى الطريق نفسه، وكل منا يحمل لفافته يقضم منها، فتتساقط بقايا "حبات الفول المهروسة" على الأرض، ومعها بعض قطرات الزيت الداكنة على ملابسنا. سنوات من العمر الصغير، قضيتها بكامل لحظاتها في تلك المدينة، كانت أيامها بسيطة هادئة لدرجة مدهشة، حارات كثيرة وأزقة ومنعطفات، لكنها بملامح القرى، وبشر من كل الأماكن وبكل الأشكال، خليط من الملابس واللهجات تتلاطم في شوارع المنصورة، ونسوة ربطن رؤوسهن بأقطمة سود وافترشن جانبي الطرق الرئيسية يبعن جبناً ولبناً وسمناً من النوع "المعتبر"، ويلففن في نهاية اليوم نقودهن في قطعة صغيرة من القماش ويطوينها بأيديهن والأسنان ثم يخبئنها وينطلقن الى قراهن ليعدن ثانية الى المكان نفسه عند بزوغ شمس اليوم الجديد. اقترب من مكان "مدرسة فريدة حسان" حيث طالبات الثانوية كن يخرجن عند الظهيرة فيقتفي الصبية المراهقون أثرهن، كنت أسمع في هذا المكان، طلاباً يرددون مقاطع من كلمات لمحمد فوزي يغازل بها ليلى مراد، وأخرى لعبدالحليم يروي بها ما جرى له من "أبو عيون جريئة" ويناديه "قوللي حاجة... أي حاجة"، ويسائله "أسمر يا اسمراني مين قساك عليّ؟"، حتى سعاد حسني و"الواد التقيل" كان لها أيضاً نصيب في مزاد الأغاني الذي يُعقد يومياً في تقاطع فريدة حسان مع شارع الشيخ حسنين، كان كل يغني على ليلاه ويغني لها، وكان غناء هذا الزمان الجميل يستميل الهوى وينساب كالنسائم بين العشاق الصغار الحالمين. أذهب الى نهاية منطقتها التجارية في شارع "السكة الجديدة" علني أعثر على التمثال القديم المنتصب وسط ميدان المحطة لسيدة الغناء العربي، فأجد الدنيا غير الدنيا، والبشر غير البشر، كأن الملامح تبدلت، وكأن أم كلثوم التي ولدت في طماي الزهايرة القريبة، ليست هي التي كنا نستمع الى أغانيها على الكورنيش بينما نتجه الى "جزيرة الورد"، لم تعد هي أم كلثوم، وكأن عبق الذين أنجبتهم تلك المدينة، من علي محمود طه الى رياض السنباطي، ومحمود مختار فأحمد لطفي السيد وفاتن حمامة والشعراوي وكامل الشناوي ومحمد حسين هيكل صاحب رواية زينب ونجيب سرور وعلي مبارك، كأن عبقهم قد تغير، لكنه مع ذلك، لا يزال يمنح هذه المدينة ألقاً. اتجه نحو دار ابن لقمان، لأشم تلك الرائحة التي كان عطرها يجذبني بين فترة وأخرى، أروح لأرى المكان الذي قضى فيه لويس التاسع عشر ثلاثة أسابيع أسيراً مهزوماً، أمضي الى حديقة شجرة الدر لأتذكر تلك السيدة التي أخفت نبأ وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب كي لا يفت من عضد جنوده في قتالهم ضد الغزاة، وقادت معركة زوجها، وانتصرت، وأتخيلها بعد انتصارها الفذ قتيلة في معركة نسائية، ب"قبقاب". أستعيد تلك الأيام التي كنت أتوجه فيها صبيحة أحد أيام الأسبوع التي لا أتذكر اسمه الآن الى الحديقة التي تحمل اسمها لأرى الفرقة الموسيقية للشرطة بملابسها المميزة تنفخ في آلاتها النحاسية فيعلو صوتها الزاعق على ضجيج السيارات العابرة. هنا كنا نتمشى في عصاريها ونمارس لعبة الضحك على ذقون رجال العسس، كانوا وقتها يكلفونهم بمراقبتنا، نحن الطلاب الصغار الحالمين. وفي شارع السكة الجديدة الذي قطعناه آلاف المرات جيئة ورواحاً، كان أحدهم دائماً يتعقب خطانا، راصداً المكتبات التي وقفنا عندها، والجرائد التي تناولتها ايادينا، فيما كانت جيوبنا خاوية من نقود ضئيلة تروي بها عطشنا لشراء الصحيفة، كنا نكتب شعراً وقصصاً، ونلقي نكاتاً ونخترع حكايات، ونسهر الليالي لنرسم صحيفة من ورقة واحدة مستطيلة مقواة ونصحو، باكراً لنعلقها فوق حائط الجامعة، قبل ان يأتي الموظفون الاداريون، ينزعونها، فنعيد الكرة من جديد بعد أيام.