في ليلة أقل جمالاً من ليالي الاحتفال بالذكرى الخمسين لثورة تموز يوليو جلس الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ليلة الثالث من آب أغسطس عام 1967 إلى ستة أشخاص يمثلون أعلى سلطة في مصر وقتها أعضاء اللجنة المركزية وفي غياب جنراله وصديق عمره عبدالحكيم عامر يحدثهم عن أهمية، بل ضرورة تغيير النظام السياسي في مصر، من نظام مقفل إلى آخر مفتوح. ترى، هل يمكن مقارنة تلك الليلة الصاخبة بأي من ليالينا الحالية؟ هل يمكن القول إن النظم السياسية في الدول العربية التي شهدت ثورات وحال استقلال سياسي نسبي منتصف القرن الماضي في حاجة ماسة إلى تغيير؟ وهل يمكن السؤال عن إمكان حدوث هذا التغيير حالياً وأسباب فشله في السابق؟ وفي غمار الإجابة عن هذه التساؤلات هل يمكن القول بالصحة المطلقة لعبارة فرانز فانون في "المعذبون في الأرض": "إنه إذا لم يتم بطريقة ما تحويل الوعي القومي في لحظة انتصاره إلى وعي اجتماعي، فإن المستقبل لن يأتي بالتحرر، بل بامتداد للإمبريالية"؟ في تلك الليلة تحدث ناصر عن أخطاء نظامه التي تسببت في أكبر نكسة هزيمة تعرض لها منذ قيام ثورة أو حركة أو انقلاب تموز، ورصد سبباً أساسياً هو الخوف الناجم عن النظام المقفل الذي اتبعته الثورة من بدايتها. الخوف الذي منع النقد والتصحيح والمواجهة حتى في الدائرة الصغيرة جداً المكونة من أفراد اللجنة المركزية، إذ عجز أعضاؤها عن انتقاد تصرفات الجنرال عامر خوفاً على مشاعره أو تجنباً لإغضابه، وأقر معظمهم أمام ناصر في تلك الليلة بذلك الخطأ. ليلتها، بعد أن استعرض ناصر وقائع الهزيمة العسكرية ومسؤولية عامر عنها وانفراده بالقرارات وتعيين كبار الضباط باعتباره السبب الرئيس في الهزيمة، والحال العصبية التي انتابته في إثرها، ثم حال البلبلة التي أثارتها "جماعة المشير"، قال ناصر: "نطلع من القصة كلها بأن النظام المقفل سيؤدي بنا في النهاية إلى نظام وراثة، لذلك علينا الآن واجبان الأول هو أن نبحث عن نظام جديد لنا، والثاني أن نحدد الأخطاء الرئيسة الموجودة في البلد في الوقت الحاضر ونبحث كيف نصلحها. المعروف أن نظام الحزب الواحد تحدث فيه دائماً صراعات على قمة السلطة ولدينا الكثير من الأمثلة في العالم. لذلك أرى ضرورة تغيير نظامنا بحيث لا يسمح النظام الجديد لشخص أو لشلة غير واعية أو جاهلة سياسياً أن تحكم البلد. وأنا شخصياً عندي اقتراحات محددة. أولاً أننا - كأعلى سلطة سياسية - نتحرر من الخوف وبعد ذلك نحرر البلد من الخوف، ثانياً: إذا كنا نريد حقاً توفير الأمن والسلام نسمح بوجود معارضة، ولا أتصور في تكوين هذه المعارضة أن نقول إن زكريا محيي الدين مثلا يمثل اتجاهاً معيناً وأمامه علي صبري يمثل اتجاهاً آخر وبذلك يصبح هناك حكم ومعارضة. ذلك يعتبر مسرحية معارضة. المعارضة الحقيقية أن نأتي بالذين يعارضوننا فعلاً في الوقت الراهن مثل عبداللطيف بغدادي وكمال الدين حسين، وكلاهما أصلاً منا وسبق أن وافقا على الميثاق، ونسمح لهما بتكوين حزب معارض وبجريدة تعبر عن رأي الحزب. ومن يكسب الانتخابات يتسلم الحكم والثاني يشكل المعارضة، "على أن يبقى الجيش والشرطة جهازين محترفين". ليلتها أيضاً لاحظ معظم الحاضرين أن أبرز المشكلات التي ستواجه الحكم هو المزايدات والمهاترات نتيجة وجود الحزبين وتصيد كل منهما أخطاء الآخر بغض النظر عن تأثيرها في مصلحة البلد بهدف جذب الجماهير. وتوقع زكريا محيي الدين من الحزب الآخر أن يقوم بنبش الماضي وقد يتلو ذلك تجريح بالهيئة القيادية للبلد وبرئاسة الدولة. وتساءل آخرون: "هل يصح تعديل الهيكل السياسي للبلد وإسرائيل ما زالت تحتل البر الشرقي لقناة السويس؟". ورأى رئيس الوزراء صدقي سليمان أن هناك استحالة لقيام حزب معارض في الوقت الحاضر، واقترح بدلاً من ذلك إدخال بعض التعديلات والرتوش على النظام الحالي مثل تقبل النقد وإزالة الخوف وإتاحة التظلم من أي حكم أمام جهة قضائية وتحديد العلاقة بين الاتحاد الاشتراكي والحكومة تحديداً واضحاً، ولم تختلف آراء كل من حسين الشافعي وأنور السادات وعلي صبري وعبدالمحسن أبو النور في مجملها عن السابق كثيراً. لكن ناصر اختلف مع أعضاء اللجنة المركزية جميعا، وأصر على "العمل بنظام الصراعات السياسية والبقاء للأصلح والأقوى"، واقترح إيجاد تحديات حقيقية لرموز النظام. "حتى يصبح واضحاً للجميع أن أية عملية هدم من داخل النظام ستسقط النظام كله على رؤوس الجميع"، واختتم ناصر باعتذار عما اعتبره "صراحة عنيفة" في كلامه وأرجع السبب إلى أنه أقسم يوم 9 حزيران يونيو ألا يعالج المواضيع السياسية من طريق المساومات أو الموازنات، كما أقسم أيضاً أن يقاتل في سبيل مبدئه وأن يقول رأيه "ولو على رقبته". وعلى رغم ذلك انتهى الأمر بأن انتصر معارضو التغيير، ومات ناصر وجاء السادات، وحاول في إطار ظروف سياسية مختلفة أن يفتح النظام بعد أن كان وجه البلد وجهة الانفتاح اقتصادياً على الغرب أولاً عبر المنابر يمين ووسط ويسار ثم الأحزاب، وأجرى انتخابات العام 1976 التي شهدت إقبالا ًضخماً ينفي تماماً مقولة سائدة وقتها عن "سلبية الجماهير"، وسرعان ما تراجع السادات عن ديموقراطيته وعاد الناس إلى الإحباط واليأس من التغيير عبر صندوق الانتخابات. ومن جانب آخر لم يحدث في أية دولة عربية أخرى مراجعة لنظامها السياسي تتجاوز التعديل الشكلي. ومرت السنون وانتقلنا إلى لحظة تاريخية في أرجاء العالم العربي كافة وليس في مصر وحدها تكاد تكون هي نفسها قبل خمسين عاماً مع الاختلاف في الشكل الظاهري: نظام مغلق في الباطن على رغم انفتاحه الظاهر. نظام أحادي الحزب على رغم وجود تعدد الأحزاب، حياة سياسية لا علاقة لها بمنظومة الأفكار الحديثة عن حقوق المواطنة انتخاباً وحرية فردية وأمناً اقتصادياً على رغم كل القنوات المفتوحة مع الخارج منظمات ووسائل إعلام وحركة أفراد دخولا وخروجاً. انتقلنا إلى لحظة تاريخية تجوز فيها المقارنة بقوة والتحسر بشدة على ليلة الثالث من آب 1967. تلك الليلة التي جلس فيها زعيم وطني مهزوم ومأزوم يطالب رفاق دربه بتغيير نظامهم ويبدي استعداده لتبادل موقع السلطة مع معارضيه معترفاً بخطأ نظامه كله ومن الأساس. هل ينبغي أن نحِنَّ إلى هزيمة جديدة توقظ الغافلين عن خطأ أنظمتهم مثلما يحن كثيرون حالياً إلى عهود الاستعمار كرهاً بقمع أو امتهان أنظمة ما بعد الاستقلال لآدمية الفرد وحقوق مواطنته، ومثلما يتمنى آخرون على شاكلة معارضين عراقيين أن تتدخل يد القدر الأميركية لتبطش بنظام قمعي ديكتاتوري أياً كانت الكلفة من قتلى وضحايا؟ أم أننا نعيش هزيمة طاغية أقسى من حزيران يونيو أضاعت قسوتها إمكان التيقظ. نعيش امتداد الامبريالية كما قال فرانز فانون بعد أن اختزل الوعي القومي الناشئ في دولة ما بعد الاستقلال في حماية أمنها أمن الدولة وأمن النظام على حساب أمنها القومي والاجتماعي، ولم يتحول الوعي القومي الناجم في الأصل عن صراع اجتماعي عنيف إلى وعي اجتماعي بأحقية الطبقات المأزومة في الحفاظ على مكاسبها ما بعد الاستقلال وعدم التنازل عنها أياً كانت خطورة العدو الخارجي؟ إن تمني أن تحدث هزيمة حزيران مجدداً - على رغم سوداويته - يبدو منطقياً، فلا يوجد سبعة أشخاص في أي نظام عربي حالي يدركون خطورة الموقف أو يتوجسون من المستقبل. وما حذّر منه ناصر على هامش كلامه من أن ننتقل إلى نظام توريث أو يقع الحكم في يد شلة غير واعية هو بعينه ما يدور الحديث عنه في الدوائر الضيقة في أكثر من دولة عربية، وهو ما حدث بالفعل ومرشح للحدوث في غير بلد عربي. لم ير ناصر الخطأ خمسة عشر عاماً متواصلة، ولكنه فشل في تحقيق رؤيته بعد أن أدرك الخطأ. لماذا؟ ليس فقط لأن المتصارعين على قمة الحزب الواحد كانوا أقوى منه، أو أن تمسكهم بمناطق نفوذهم كان أقوى من رغبته في إنهاء ذلك الوضع، وإنما أيضاً لأن فكرة صناعة تنظيمات سياسية أحزاب من موقع الدولة عملية خاطئة في الأساس، وعادة ما تستقطب المنتفعين والوصوليين والمنافقين والباحثين عن رداء السلطة وسلطانها، وهو الخطأ نفسه الذي بدأ به الضباط الأحرار بعد استقرار الأوضاع لمصلحتهم، والمقابل الصحيح الذي لم يحدث في البداية أو في النهاية هو السماح لتنظيمات تنمو في شكل طبيعي ومن داخل كيان المجتمع، تمثل من تمثل من طبقاته وشرائحه، ولا يكون من مهام النظام "المتعقل الرشيد" سوى السماح لها بالحركة والتعبير عن نفسها واستقطاب الجماهير إلى صفها. هذا ما عجز ناصر عن أن يفعله في البداية والنهاية أي بعد الهزيمة، وما امتنع السادات عن عمله متخيلاً إمكان إقامة أحزاب شكلية، باعتبار المواطنين غير معتادين على الديموقراطية، ثم تراجع عن الفكرة بالأساس حين ووجه بمعارضة حقيقية كادت أن تطيحه، ودخل طرفاً في صناعة الجماعات الإسلامية لكي تضرب له الآخرين من ناصريين وشيوعيين وإخوان. الوضع نفسه ورثه النظام الحالي، ثم بهدوء وعلى مدار سنوات أطاح البقية الباقية من حيوية الأحزاب السياسية الشكلية، فعمل على تفريغها من مضامينها التنظيمية والاجتماعية. لكن الأدهى والأهم هو الخلفية الثقافية للمجتمع المصري والعربي - إن جاز التعميم - والتي فشلت على أرضيتها إمكان تحويل الوعي القومي في لحظة انتصاره إلى وعي اجتماعي. هو ما يمكن تسميته مفهوم العلاقة بين المحكومين والحكام القائمة على عدم المقاومة أو المقاومة السلبية في أغلب الأحوال، إضافة إلى أن فكرة العدو الخارجي التي أفرزتها الطبيعة الجيوسياسية للمنطقة. مرة بريطانيا ومرة أميركا وطوال الوقت إسرائيل - وما استتبعته من دخول في صراع مع الغرب - ساهمت في شكل كبير في تضخيم قدرة النظام على الإصلاح السياسي من جانب، وعلى ترتيب اولويات دفع شرائح كبيرة من المجتمع الى معاداة مفاهيم الغرب عن الديموقراطية والحريات، أو على الأقل عدم التعاطف معها والحماسة لها في فترات طويلة، ما أوجد للتيارات الاصولية أرضية خصبة لتوسيع هذه الرقعة من الكراهية وإنشاء خطاب إصلاحي يستلهم التراث ولا يستلهم خلاصة الخبرة البشرية في إدارة المجتمعات. عدنا إلى اللحظة صفر، عدنا خمسين عاماً إلى الوراء وربما أسوأ. رموز الأنظمة العربية لا تفكر في تسكين الآلام الاجتماعية بما لا يسبب خطراً على بقائها في السلطة. اختلف محور صراع رموز الأنظمة. تحول إلى الأسوأ، لم يعد صراعاً على النفوذ السياسي في قطاعات النظام المختلفة - كما كان في العهد الناصري والمد القومي - بقدر ما أصبح صراعاً على الأموال. الأموال ليس إلا، والبقاء أطول فترة ممكنة لتحصيل أكبر عائد ممكن. لا أيديولوجية سياسية على رغم فداحة الانتماء الأيديولوجي في حد ذاته تقود أحدهم، ولا حال وطنية أو نقاء ثورياً يحرك قراراته. في المقابل أصبح المجتمع وتنظيماته السياسية ضعيفاً غائباً اختياراً أو كرهاً، وضعف إمكان نمو كادر سياسي بالمعنى الكلاسيكي للكلمة شخص مؤمن بقضية وقادر على حشد الآخرين في اتجاهها ومستعد للتضحية من أجل هدفه، أصبح هذا الشخص في نظر كثير من أبناء المجتمع إما مجنوناً أو ساذجاً. تقلص إلى حد بعيد عدد المؤمنين بفكرة الوطن. وأصبح النظام المفتوح الذي يدّعي كثير من النخب العربية الحاكمة أنه صنعه - تحت مسميات مثل الهامش الديموقراطي أو مناخ الحريات - مجرد نظام أكثر من مغلق، مسدود حتى باليأس من إمكان تغييره. وأصبح الأمل في التغيير سوداوياً. إما انتظار كارثة طبيعية ضخمة كالزلازل أو البراكين أو تمني أن تحدث هزيمة حزيران جديدة، أو أن تدفع النخبة اليمينية المتطرفة في البيت الأبيض الأميركي أنظمة الشرق الأوسط المتهالكة إلى الحائط فتسقط من تلقاء نفسها، وتحدث انفراجة موقتة للتنظيمات السياسية الفاسدة والمفسدة عبر سنوات الاستقلال أو سنوات امتداد الإمبريالية كما قال فرانز فانون! * كاتب مصري.