"وضعنا الأفعى في أحضاننا"… هكذا علّق سياسي روسي على الوجود الاميركي في آسيا الوسطى. اذ ان موسكو التي كانت شرّعت أمام الولاياتالمتحدة كل الأبواب وادخلتها الى "الفناء الخلفي" لروسياوالصين، تخشى الآن ان تطيب لواشنطن الإقامة في هذه المنطقة ذات الاهمية الاستراتيجية والاقتصادية، التي تسيطر على "مفاتيح" في آسيا وشرايين نفطية حساسة في بحر قزوين. وفور إعلان الرئيس جورج بوش نيته تجهيز حملة ضد حركة "طالبان" وشبكة "القاعدة" ابدت روسيا استعدادها لتقديم كل الدعم الذي يطلبه الاميركيون، وفتحت امامهم اجواءها وسمحت لهم باقامة قواعد عسكرية في آسيا الوسطى وزودتهم معلومات استخباراتية بالغة الاهمية. وكان الرئيس فلاديمير بوتين يأمل في تحقيق مكاسب ليس آخرها التخلص من الحركة الراديكالية الدينية في افغانستان، والتي ترى موسكو انها كانت مصدراً اساسياً لتمويل المقاتلين الشيشان وتدريبهم، وتشكيل تنظيمات لزعزعة الانظمة العلمانية في آسيا الوسطى. وأراد الكرملين ان يحمّل الولاياتالمتحدة اعباء الدفاع عن انظمة صديقة لروسيا أو ليست عدوة لها في المنطقة. ولم يخف مسؤولون روس رغبتهم في استثمار الفتور الذي طرأ على العلاقات الاميركية الخليجية، ووضعوا حساباتهم على اساس أن واشنطن قد تقرر "فك الارتباط" مع نفط الخليج، او على الاقل تقليص الاعتماد عليه والتحول نحو نفط روسيا وبحر قزوين. كما ان موسكو سارعت الى تأييد الحملة الاميركية والموافقة على ان يكون للولايات المتحدة موطئ قدم في آسيا الوسطى، لعلم الكرملين ان قادة كازاخستان واوزبكستان وقرغيزستان وبدرجة ادنى طاجيكستان وتركمانستان كانوا سيقدمون للاميركيين الدعم اللازم، سواء وافقت روسيا ام رفضت. واستناداً الى هذه "الرؤية" بنت موسكو حساباتها على اساس انها ستحصل على مكافآت سخية، ويسمح لها بالصعود الى القطار الغربي من دون التنازل عن"العربات" الشرقيةوالجنوبية في آسيا الوسطى. لكن الآمال بدأت تخبو بسرعة إذ أن الولاياتالمتحدة شرعت تعزز وجودها العسكري في تلك المنطقة بدلاً من تقليصه بعدما اوشكت الحملة "الافغانية" على الانتهاء وطلب وزير الخارجية الروسي ايغور ايفانوف من واشنطن ان تبر بوعودها وتنسحب من آسيا الوسطى فور انتفاء الحاجة العسكرية الى وجودها. لكن السفير الاميركي في موسكو الكسندر فيرشيو اعلن ان حكومته تنوي بعد انجاز مهماتها في افغانستان، "مساعدة دول آسيا الوسطى في تطوير الديموقراطية". واضاف ان "الوجود الاميركي لا يجوز اعتباره خطراً لأنه يؤدي الى الاستقرار والديموقراطية". هكذا كشفت واحدة من أهم الأوراق الاميركية باعلان النيّة في الوجود الدائم في مواقع كانت روسيا تعتبرها "منطقة نفوذ لها" واللافت ان الاميركيين بدأوا في اليومين الاخيرين تعزيز قاعدتهم العسكرية في قرغيزستان على اساس مذكرة تفاهم بين البلدين حصل الاميركيون بموجبها على حقوق "سيادية" في هذا البلد، منها ادخال اسلحة واعفاء من التفتيش، وتمتع المواقع والمواطنين الاميركيين بالحصانة الكاملة وعدم اخضاعهم للقوانين المحلية، والسماح للافراد بالدخول والخروج ببطاقات الهوية، مما جعل جنرال الاستخبارات الروسية فاسيلي ليوفوف يتحدث عن تحويل قرغيزستان الى بلد "محتل". وتكتسب القواعد العسكرية الاميركية في قرغيزستان اهمية خاصة كونها تقام في مناطق قريبة من الصين، وقد يكون هذا الموضوع من المحاور المهمة لجولة يقوم بها الوزير ايفانوف، تشمل الصين وأوزبكستان وتركمانستان. لكن القيادات الروسية لا تبدو متفقة على طريقة التعامل مع التوسع الاميركي في آسيا الوسطى. فالقوى اليمينية التي تملك مراكز نفوذ سلطوية مهمة، ترى ان الخطر الرئيسي يهدد روسيا من الجنوب وليس من الغرب، وفي ضوء ذلك تدعو الى التحالف مع الولاياتالمتحدة بشروط واشنطن. ورأت ايرينا خاكامادا نائبة رئيس البرلمان عن "اتحاد قوى اليمين" ان على روسيا أن تتخلى عن أساطير بينها انها ما زالت دولة كبرى، وينبغي ان تقبل بموقع ثانوي. وتعتقد مجموعة اخرى لها مواقع مهمة في وزارات "القوة" ان الوجود الاميركي في آسيا الوسطى يعني تحجيم الدور الروسي ودفع موسكو الى مواقع معادية للصين والعالم الاسلامي. واشار غينادي فوردنين عضو المجلس العلمي الاعلى لمجلس الامن القومي الى ان روسيا لا يمكن ان تتنازل عن دورها كدولة "اوروآسيوية" لها مصالح جيواستراتيجية في القارتين، والمناطق المجاورة لها خصوصاً. ونبه الى ان الولاياتالمتحدة "تعطي الاولوية دائماً لمصالحها الوطنية" داعياً إلى مراعاة ذلك في التعامل معها. سيناريوات الخرائط وباشر صنّاع القرار في موسكو درس سيناريوات مختلفة لتطور الاوضاع في آسيا الوسطى. وأشار المحلل انطون سيرغييف الى وجود خطط لانشاء "طاجيكستان الكبرى" التي تضم طاجيكستان الحالية والمناطق الشمالية من افغانستان ومحافظتي بخارى وسمرقند اللتين تسكنهما غالبية طاجيكية على رغم انهما تقعان في اوزبكستان. وذكر سيرغييف ان طهران ترعى هذا المشروع وقد تعمل لتنفيذه لاحقاً. وتوقع ان تطرح افكار لانشاء "باشتونستان الكبرى" بحيث تضم جنوبافغانستان وعدداً من اقاليم باكستان التي يسكنها باشتون المحافظة الشمالية الشرقية او البلوش القريبون منهم. وكل هذه المخططات يثير مخاوف روسيا التي ترى ان تمزيق افغانستان سيكون كارثة على آسيا الوسطى. لكن غالبية المحللين في موسكو ترى ان اميركا وليس القوى الاقليمية او المحلية، هي التي ستتخذ القرار الاهم في شأن مستقبل المنطقة، وفي ضوئه مستقبل روسيا ذاتها.